إنّ تربية الأبناء على العفة من أهم المسؤوليات التي تقع على عاتق الآباء والأمهات، حيث تحميهم من الوقوع في المعاصي والانحراف عن الطريق الصواب، وتجعل شخصياتهم متزنة وسليمة، فهو خُلُق كريم يقتضي الكف عن الشهوات والفواحش وعن كل ما لا يليق.
والنشء إذا تربّى على هذا الخلق العظيم، فإنه يُحقق المروءة التي ينال بها الحمد في الدنيا والثواب الآخرة، ويرتقي بها في سماء الفضيلة، ويبتعد عن حضيض الرذيلة، بل إنه يحقق بذلك أسباب الفلاح ويستحق وصف الإيمان، لذا لا ينبغي أن يُستهان به وهو ثمرة خصال وأخلاق أخرى عديدة، وأثره في شخصية النشء عميق، حيث يكسب الإنسان قوة القلب، ووفرة العقل، ونزاهة النفس وعزتها، وانشراح الصدر وقلة الهم والغم.
مفهوم العفة في الإسلام
وتُعرّف العفة في الإسلام بأنه من مصدَرُ عَفَّ، يقالُ: عفَّ عن الحرامِ يَعِفَّ عِفَّةً وعَفًّا وعَفافةً، أي: كفَّ، فهو عَفٌّ وعفيفٌ، والمرأةُ عَفَّةٌ وعفيفةٌ، وأعفَّه اللهُ، واستعَفَّ عن المسألةِ، أي: عَفَّ، وتعفَّف: تكلَّف العِفَّةَ. وهي: الكفُّ عمَّا لا يحِلُّ ويجمُلُ، والاستعفافُ: طَلَبُ العفافِ.
والعفيفُ: الممسِكُ نفسَه عن القاذوراتِ، وعفيفٌ على وزنِ فعيلٍ ينقَسِمُ بين فاعلٍ ومفعولٍ، فإذا تماسَك وتوقَّى وأخذ نفسَه مأخَذَ الواجبِ فهو في طريقِ الفاعلِ، ثمَّ قد يكونُ في معنى المفعولِ به؛ لأنَّ العِفَّةَ طِباعٌ، فكأنَّها توجَدُ في فِطرتِه.
وفي الاصطلاح، تعني ضَبطُ النَّفسِ عن الشَّهَواتِ وقصرُها على الاكتفاءِ بما يقيمُ أَوَدَ الجسَدِ، ويحفظُ صحَّتَه فقط، واجتنابُ السَّرَفِ في جميعِ الملذَّاتِ، وقَصدُ الاعتدالِ. وهي: ضبطُ النَّفسِ عن الملاذِّ الحيوانيَّةِ، وهي حالةٌ متوسِّطةٌ من إفراطٍ- وهو الشَّرَهُ-، وتفريطٍ، وهو جمودُ الشَّهوةِ.
وقيل إنها عبارةٌ عن التحرُّزِ عن تناوُلِ المشتَهَياتِ المخالِفةِ للشَّرعِ والمروءةِ، وهي حاجزٌ داخليٌّ يمنعُ الإنسانَ من تغليبِ الشَّهوةِ، ويُبعِدُه عن عملِ القبيحِ عُرفًا وشرعًا، ويدفعُه إلى الصَّبرِ والنَّزاهةِ عن الشَّهواتِ الدُّنيويَّةِ والحاجاتِ الإنسانيَّةِ.
ولا يقتصر مفهوم هذا الخُلُق على وصف الأخلاق التي تدعو إلى البعد عن الرذائل وحسب، بل يمتد ليشمل أكثر من معنى ومفهوم، تؤدي جميعها إلى الكف عما لا يحل، ويندرج تحته عدة أنواع تتعلق بعفة البصر عن النظر إلى ما يغضب الله، وعن الحسد ونظرة العين، وعفة الفرج عن ارتكاب المحرمات، وعفة البطن بالمأكل والمشرب، وعفة اليد عن سؤال الناس، وعفة القلب، وعفة اللسان عن الغيبة والنميمة، وعفة السمع.
العفة في القرآن والسنة
وجاءت كلمة العفة في القرآن الكريم في مواضع عدة، منها قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّـهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة:273]. أي: من تعففهم عن السؤال وقناعتهم، يظن من لا يعرف حالهم أنهم أغنياء.
وقال- عز وجل- وقال جل شأنه: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا ۚ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ۖ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ حَسِيبًا) [النساء:6]. أي: من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه، ولا يأكل منه شيئًا. قال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم.
كما وردت في آيات بمعناها لا بلفظها، كقوله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّـهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:30-31].
وعن عنفة اللسان، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
ولما جاء النبي- صلى الله عليه وسلم- ليتمم مكارم وصالح الأخلاق، فقد أكد أهمية خُلُق العفّة، وحث النفوس عليه، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ” (صحيح الترمذي).
وعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “اضمنوا لي ستًّا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم” (رواه أحمد).
وعن عبد الرّحمن بن عوف- رضي اللّه عنه- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: “إذا صلّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شئت” (رواه أحمد).
وسائل تربوية
وإذا أردنا أن نُربّي أبناءنا على العفة والبعد المعاصي والآثام، فعلينا أن نتبع بعض الوسائل، من ذلك:
- شرح معنى العفة: فإن بيان معناها يدفع الأبناء إلى الكف عما حرم الله تعالى، ومن المهم ترديد كلمات مثل (الستر، الحياء، العفة، العورة، الحشمة، العرض) حتى يعيش الأبناء هذه المعاني.
- القدوة: ويُحب الأبناء أن يروا قدوتهم في الآباء والأمهات أولًا، قبل البحث عنها خارج إطار الأسرة.
- التفرقة بين الأبناء في المضاجع: وهذا بأمر من النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي قال: “مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ”؛ (رواه أبو داود).
- قصص أهل العفة: ومهم أن نذكر للأطفال قصص أهل العِفّة، مثل قصة سيدنا يوسف- عليه السلام- مع امرأة العزيز وقصة مريم- عليها السلام- وحرصها على العِفّة.
- غض البصر عن الحرام: بتعليم الأبناء الإعراض عن كل ما هو مخل للأدب وتغيير المكان والبعد عن أصدقاء السوء، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) [النور: 30].
- التذكير بمراقبة الله: فالله سبحانه يرانا جميعًا، قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19].
- دعاء الله أن يحفَظهم من كل زلة وحرام: ويكون ذلك مع تدريبهم على مجاهدة النفس وتربيتها على الصبر، وتذكيرهم بثواب الله.
- اختيار الصحبة الصالحة للأولاد ذكورًا وإناثًا: فالصحبة الصالحة تُعينهم على التحلي بالفضائل وتجنُّب الرذائل، وعلى التزام غض البصر.
- تربيتهم على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم: وتعظيم أمر كشفها في أنفسهم؛ حتى يتربوا على الحياء والحشمة.
- تعليم الأولاد أدب الاستئذان: ويكون ذلك أثناء الدخول إلى البيوت والتسليم على أهلها، والاستئذان في الدخول إلى الغرف داخل البيوت، ولو لم يكن في البيت إلا المحارم، وقد قال رجل لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ: “أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا”.
- تنمية القيم الخلقية في قلوب الناشئة: فمفهوم العِفّة ثمرة ناتجة عن اجتماع عدد من الأخلاق الرفيعة، فهو فيه معنى الصبر وكبح جماح الشهوة، وفيه الحياء من الله ومن خلقه، وفيه الأمانة وعدم الخيانة وفيه المروءة والشهامة والغيرة.
- اتباع وسائل تحد من الشهوة: من ذلك تربية الأطفال على ستر عوراتهم منذ نعومة أظفارهم وتعظيم أمر كشفها في أنفسهم حتى يتربوا على الحياء والحشمة، وأن نصونهم عن اختلاط الجنسين وأن نبعدهم قدر الاستطاعة عن مواطن اختلاط الرجال بالنساء.
- الاعتناء بالفتاة: ويكون بتربيتها على تعظيم شأن عورتها وقبح إبدائها، ويُعظَّم ذلك في نفسها؛ حتى يصبح مجرَّد انكشاف العورة ولو في حال الخلوة ممقوتا في حسَّها، وعليها أن تعلم أن أنوثتها موضع فتنة اجتماعية خطيرة؛ حتى أن الله تعالى قدَّمها على جميع الشهوات حين قال عز وجل: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب).
- اختيار الصحبة الصالحة: ويكون للأولاد ذكورًا وإناثًا، فإن الصحبة الصالحة تعينهم على التحلي بالفضائل وتجنب الرذائل، وعلى التزام غض البصر وما هو أكثر من ذلك، وإن من لم يستحي من الله تعالى لغفلته فربما سيستحي من أصحابه الذين هم حوله، والذين يذكرونه إذا نسي ويعينونه إذا تذكر.
إن من أكبر التحدّيات التربوية في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الإباحيات أن نربّي أبناءنا على العفة والحياء، فهو الخلق الذي سيُكسبهم قوة في القلب، ووفرة في العقل، ونزاهة في النّفس، وانشراحا في الصدر وقلة الهمِّ، كما أن انتشاره في المجتمع يُطهِّره من الفساد، ويرفع عنه ألوانًا من العقوبات الربانية، وينمِّي فيه رُوحَ الغَيرة على الأعراض التي تعد سياجًا منيعًا يَحميه من التردي في مهاوي الرذائل والفواحش والتبرج والتعري.
المصادر والمراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 9/253.
- الرازي: مختار الصحاح 4/1405.
- أبو حيان التوحيدي: البصائر والذخائر 5/ 117، 118.
- الراغب الأصفهاني: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 318.
- السيوطي: معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم، ص 205.
- موسوعة التفسير الموضوعي للقرآن الكريم 24 /8.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 2/ 216.
- جاسم محمد المطوع: 7 أفكار لتربية أبنائنا على العفة.
- أماني نبيل: صناعة الطفل العفيف وتحديات العصر.