إنّ خُلق الشجاعة من أهم الأخلاق الإسلامية العظيمة التي تعني الصَّبر والثَّبات والإقدام على الأمور النَّافعة تحصيلاً وعلى الأمور السِّيئة دفعًا، وهي إن توافرت في إنسانٍ ذهب من قلبه الخوف، خصوصًا في وقت الصعاب والتحديات وضغوطات الحياة.
وغرس هذا الخُلُق النّبيل في النّفس يبدأ منذ الصّغر، فإذا كان الطفل يُعاني من الخوف بصورة متكررة، يمكن تدريبه وتربيته على الثبات والشّجاعة، فهي صفة قابلة للاكتساب وإن كانت تتطلب بعض الجهد الصبر في بادئ الأمر.
مفهوم الشجاعة
وتعرف الشجاعة في اللغة بأنها شِدّةُ القَلْبِ فِي البأْس، وقد شَجُعَ، شَجاعةً: اشْتَدَّ عِنْدَ البَأْسِ. ورجلٌ شجاعٌ، وَامْرَأَة شُجاعة، ونسوة شجاعات، وَقوم شُجعاء وشُجْعان وشَجْعة. وقال ابن فارس- رحمه الله-: “الشِّينُ وَالْجِيمُ وَالْعَيْنُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى جُرْأَةٍ وَإِقْدَامٍ”.
وفي الاصطلاح تعني ثبات الْقلب عِنْد النَّوَازِل، واستقراره عِنْد المخاوف. قال ابن القيم- رحمه الله-: “كثير من النَّاس تشتبه عَلَيْهِ الشجَاعَة بِالْقُوَّةِ، وهما متغايران، فَإِن الشجَاعَة هِيَ ثبات الْقلب عِنْد النَّوَازِل وَإِن كَانَ ضَعِيف الْبَطْش.
وقال ابن حزم: “حد الشّجاعة، بذل النفس للموت عن الدين والحريم وعن الجار المضطهد وعن المستجير المظلوم وعن الهضيمة ظلمًا في المال والعرض وفي سائر سبل الحق سواء قل من يعارض أو كثر” .
الشجاعة في القرآن والسنة
وقد أمر الله- سبحانه وتعالى- المسلمين بالقتال في سبيل الله والثبات عليه والإقدام في الحروب، وعدم الجُبن، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال: 16].
وقال- عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65]
قال السعدي: “يقول تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ أي: حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشط هممهم، من الترغيب في الجهاد ومقارعة الأعداء، والترهيب من ضد ذلك، وذكر فضائل الشّجاعة والصبر، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة، وذكر مضار الجبن، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة، وأن الشجاعة بالمؤمنين أولى من غيرهم”.
وأمر الله المسلمين بالثبات في الجهاد فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:٤٥]، وقال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:123].
ويكفي الشجاع المؤمن شرفا أنّ الله يُحبّه، قال- سبحانه وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف:4].
وحثَّ النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- أمَّته على الشّجاعة، وجعَلها مَجلبة لحب الله ورضاه؛ فقال- صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثة يُحبُّهم الله- عز وجلَّ- وذَكَر منهم: ورجل كان في سريَّة، فَلقوا العدوَّ، فهُزِموا، فأقبَل بصدره؛ حتى يُقتلَ، أو يَفتحَ الله له” (النسائي، وأحمد).
والشُّجاع مُحبَّبٌ إلى جميع الناس حتَّى إلى أعدائه، والجبان مُبغض حتى إلى أعمامه، فعن أبي هريرة، يقول: سمِعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “شرُّ ما في الرجل: شُحٌّ هالع، وجبن طالع” (صحيح أبو داود)، وكانت الشّجاعة مفخرة العرب في الجاهلية أيضًا، يتفاخَرون بها، ويتمادحون.
وقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: “المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير” (مسلم، وابن ماجه).
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أشجع الناس، فقد روى البخاري عن أنس- رضي الله عنه- أنه قال “كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس، ولقد فزع أهل المدينة وكان النبي- صلى الله عليه- وسلم سبقهم على فرسه”.
بل جُعل رزق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تحت ظل سيفه ورمحه، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم”.
ويكفي الجبان مذمّة أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان كثيرًا ما يتعوّذ من هذه الصفة، فكان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وغلبة الرجال” (النسائي).
وورث صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الصفة الجليلة من معلمهم ونبيهم، فها هو عمر عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه- يقول: إنّ الشّجاعة والجبن غرائز في الرّجال، تجد الرّجل يقاتل لا يبالي ألّا يؤوب إلى أهله، وتجد الرّجل يفرّ عن أبيه وأمّه، وتجد الرّجل يقاتل ابتغاء وجه الله فذلك الشّهيد”.
وقيل لعليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: “إذا جالت الخيل، فأين نطلبك؟ قال: حيث تركتموني”، وقال الزّبير بن العوّام- رضي الله عنه- “كان أوّل من جهر بالقرآن بعد رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- بمكّة عبد الله بن مسعود. قال: اجتمع يوما أصحاب- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ، فمن رجل يسمعهموه؟
قال عبد الله ابن مسعود: أنا. قالوا: إنّا نخشاهم عليك. إنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإنّ الله- عزّ وجلّ- سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتّى أتى المقام في الضّحى وقريش في أنديتها فقام عند المقام ثمّ قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رافعا صوته الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ قال: ثمّ استقبلها يقرأ فيها قال: وتأمّلوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أمّ عبد؟
قال: ثمّ قالوا إنّه ليتلو بعض ما جاء به محمّد، فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتّى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ. ثمّ انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا في وجهه، فقالوا: هذا الّذي خشينا عليك، قال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها. قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون”.
وسائل عملية
وصفة الشجاعة يمكن غرسها في الأولاد منذ الصغر، من خلال وسائل تربوية عملية، منها:
- عدم رؤية الأفلام المرعبة، التي تهز نفسه وتزعزع ثباته، فالخوف له عواقب وخيمة على الطفل.
- إحضار ألعاب للطفل تُعلّمه الشجاعة.
- تدريب الطفل على تحمل المسؤولية حسب استعداداته، فهي مما يعلم الشجاعة والإقدام وتحمل الصعاب.
- اصطحابه إلى الأماكن المختلفة ومراقبته، وإذا خاف نطمئنه ونؤكد له أنه شجاع.
- تعليمه الرماية والسباحة وركوب الخيل، فهذه الثلاثة من أعظم ما يكسب المسلم الشّجاعة.
- تذكيره بأن المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف.
- ترك مساحة له للتعبير عن نفسه وإبداء رأيه في المواقف المختلفة.
- تشجيع الطفل على مُمارسة أمر شُجاع.
- مُشاركة الطفل بقصص وحكايات مُلهمة عن أطفال شُجعان بشرط أن تناسب فئاتهم العمريّة.
- غرز الثّقة بالحدس الذّاتي للطّفل فيما يتعلّق بالسّلامة والأمن، وتعليمه كيفيّة الاتصال بالطّوارئ عند الشّعور بالخطر.
- مُساعدة الطّفل على القيام بأنشطة مختلفة وجديدة، لاكتساب المزيد من الخبرة والشجاعة.
- أن الأب قدوة للطفل في الشجاعة ليساعده في تعليم هذه الصفة.
- التحدث مع الطفل عن الأوقات الصعبة التى مررنا بها وكيف تصرفنا فيها وتغلبنا على القلق والخوف.
- التوقف عن الإفراط في حماية الطفل، وتدريب الطفل على القيام بالمهام المختلفة وحده، ليكتسب صفة الإقدام.
- تشجيع الطفل على اتخاذ خطوات صغيرة شجاعة مع المراقبة، مثل عبور جسر صغير بدل حمله لاجتيازه.
إنّ الشجاعة خُلُق كريم ووصْف نبيل، يَحمل النفس على التحلِّي بالفضائل، ويَحرسها من الاتِّصاف بالرذائل، وهي ينبوع الأخلاق الكريمة والخِصال الحميدة، وهي من أعزِّ أخلاق الإسلام، وأَفخر أخلاق العرب، وهي الإقدام على المكاره، وثَبات الجأش على المخاوف، والاستهانة بالموت، إنَّها سرُّ بقاء البشر واستمرار الحياة السليمة والعيشة الرضية على الأرض، لأنَّها تَجعل الإنسان يُدافِع عن حياته، وهي غريزة يَضعها الله فيمَن شاء من عباده.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 8/173.
- أبو منصور الأزهري: تهذيب اللغة 1/214.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 3/247.
- ابن حزم: الأخلاق والسير، ص 80.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن، ص 325.
- موسى محمد الأسود: صفوة الأخبار، ص 88.
- الأبشيهي: المستطرف 1/316.
- الإمام أحمد: فضائل الصحابة 2/ 837-838.
- ابن هشام: سيرة ابن هشام 1/314.
- ابن الأثير: أُسُد الغابة 3/256.
- هبة عبد الحليم: تعليم الطفل الشجاعة: 7 نصائح مفيدة.