تضاءلت مساحات التسامح في الكون الذي نعيش فيه وتراجعت معه قيم السلام، بينما بات العنف يتفجّر في كل لحظة وكل مكان، وبالطبع يعود ذلك إلى البعد عن تعاليم الإسلام الحنيف الذي انفرد بتحقيق التوازن وإقامة العدل وانتشار الخير وبذل المعروف وتعمير الأرض ومُراعاة حقوق الغير، وقبل كل ذلك تحقيق العبودية لله سبحانه.
والعفو والتّسامح واحدة من أسمى وأنقى الصفات التي يجب أن نغرسها في أولادنا منذ الصغر، حتى لا يتحول المجتمع مع نمو الضغائن فيه إلى ساحة معركة بدءا من المستوى الشعبي ووصولا إلى المستوى السياسي، شريطة ألا يكون هذا التسامح مؤديا للذل أو الهوان.
مفهوم التسامح
خلق الله الناس وجعلهم شعوبًا وقبائل يعيشون ضمن مجتمع يتشابك مع العديد من العلاقات الاجتماعية المختلفة، التي تتطلب منا أن نتحلى بالأخلاق التي تُمكّننا من التعامل مع غيرنا بالطرق السليمة، ومنها التسامح والعفو.
وللتّسامح مفاهيم عدة في اللغة منها: أنه يرجع إلى معنى الكرم، والجود، فقد جاء في مختار الصحاح للرازي: السَّمَاحُ وَالسَّمَاحَةُ، الْجُودُ، سَمَحَ بِهِ يَسْمَحُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا سَمَاحًا وَسَمَاحَةً، أَيْ جَادَ، وَسَمَحَ لَهُ أَيْ أَعْطَاهُ. انتهى.
وتعريفُه في الاصطلاح أنه القدرة على العفو عن الناس، وعدم ردّ الإساءة بالإساءة، والتحلي بالأخلاق الرفيعة التي دعت لها جميع الديانات والأنبياء والرسل.
ويعرفه الدين الإسلامي على أنه مبدأ إنساني يدفع الشخص إلى نسيان الأحداث الماضية، التي سببت له الألم والأذى بكامل إرادته، والتخلي عن فكرة الانتقام، والعلم بأن كل البشر خطّائون، وهو الإحساس بالرحمة والعطف والحنان(1).
التسامح في الإسلام
لقد حث الشرع الحنيف على التسامح والعفو، فجاءت الآيات والأحاديث مُعبّرة عن هذا الخُلُق، واتسمت صفات وسلوكيات النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن بعده السلف الصالح به. قال الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}[البقرة:178].
وقال- جل وعلا-: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[البقرة:237].
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ” (رواه مسلم).
وعنه- صلى الله عليه وسلم- قال: “ألا مَنْ ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه- أي: أنا الذي أخاصمه وأحاجُّه- يوم القيامة” (رواه أبو داود). وكان من دعائه- صلى الله عليه وسلم- :”اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي” (الترمذي).
ومن أهداف تسامح الإنسان مع أخيه، شيوع المحبة والرحمة والعفو بين الناس عامة والأطفال خاصة، بالإضافة إلى تحسين الفهم، والاحترام بين الثقافات المتنوعة، وتحسين العلاقات بين المجموعات العرقية المختلفة فلا فرق بين أبيض وأحمر ولا مسلم وغيره، وكذلك احترام حرية أي فرد في التعبير والحصول على المعلومات، والتفاوض من أجل حسم الصراعات(2).
أطفالنا والتسامح
إنّ الكون يحتاج إلى التسامح والعفو والصفح وهو ما يتوارثه الأجيال من خلال حسن التربية وغرس البذرة الطيبة، حتى يعرف أطفالنا أن:
- الله سبحانه وتعالى أمرنا بالعفو عن الآخرين الذين أساءوا لنا، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}[النور: 22]، وأن أمر الله في أي شيء نافذ وغير قابل للمجادلة.
- التواصل مع الآخرين لا بُد من أن يصدر عنه بعض الاحتكاكات وهذه أمور طبيعية، ويجب أن يتسع صدره ويحسن خلقه أثناء التعرض لمثل هذه الاحتكاكات حتى لا تتحول حياته لمشاحنات دائمًا.
- العفو ليس ضعفًا لكنه باب عظيم في الإصلاح، وبخاصة إصلاح الغير، حينما نقابل الأذى بالعفو- دون ضعف- فقد يدفعه لمراجعة سلوكه وأخلاقه. قال- صلى الله عليه وسلم-: “لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ” (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه”(3).
وتعلم العفو والصفح يعود بفوائد جليلة على أطفالنا والأسرة والمجتمع كله، ومن هذه الفوائد:
- أن قدرة الطفل على التّسَامُح تجعل منه شخصية قادرة على ضبط نفسه عن الكثير من الصفات السيئة، وهو ما أكد عليه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ” (البخاري).
- تربية الطفل منذ الصغر على خلق التّسَامُح تجعله صاحب شخصية إيجابية، فلا ينظر للآخرين بسلبية ولا يتعامل مع مواقفهم من منطلق تشاؤمي وسوء ظن.
- الشخص المتسامح يتمتع بالاحترام والتقدير والحب بين الناس، فلا يحب الناس التعامل مع الشخص العدواني المحب للانتقام.
- والتّسامح صفة من صفات المؤمن القوي التي تدل على نُبل الأخلاق، كما أنّ فيه استجابة لأوامر الله سبحانه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}[الحجر: 85](4).
ويمكن تربية أولادنا على العفو والصفح ومسامحة الآخرين، من خلال عدة وسائل، أهمها:
- تنمية روح التّسامح في نفوسهم مع مراعاة العدل والإنصاف ورفض التعصب الأعمى.
- العناية بالقصص الإسلامية والمواقف النبوية التي تتجلى فيها صفة العفو عن الضعيف.
- الأمر بإفشاء السلام والبشاشة والمبادأة بالتحية والسلام.
- تعزيز روح الجماعة والمشاركة لدى الطفل ليتقبل اختلاف الآخرين ويتحاور في نقاط الخلاف بأسلوب إسلامي بعيد عن استخدام العنف أو فرض الرأي.
- التربية الفكرية الصالحة للأبناء، من خلال ترسيخ مبادئ الوسطية والاعتدال في معتقداتهم وأفعالهم وأقوالهم، وتنمية روح الانتماء والمواطنة لديهم في مراحل نموهم المختلفة.
- تحصين الأبناء ضد التأثر بدعاة الانحراف الفكري، وفي مواجهة ما يُبث من انحرافات فكرية وعقدية عبر وسائل الإعلام، ومراقبتهم للتعرف إلى توجهاتهم الفكرية من أجل تهذيبها في مرحلة مبكرة.
- تربيتهم على التماس الأعذار للآخرين، وحمل الكلام وما لا يعجبنا منه على أحسن وجه.
- إشاعة التحابب والتوادد بين الأطفال بالتأكيد عليهم في تحريم الغيبة والنميمة وشهادة الزور التي تجلب الشر والبغضاء.
- أن نغرس فيهم عدم البذاءة وتجريح الأشخاص والهيئات والانفتاح الفكري، واحترام الرأي الآخر(5).
- الاهتمام بلغة الحوار التي تعد حجر الزاوية في تعليم الطفل العفو والصفح.
- تجنيب الأطفال التنافس البغيض والمعايرة الكاذبة والصَلَف المزيف، فإذا كان التنافس شريفًا وموضوعيًا فإنه يخلق جوًا من الألفة وتبادل الخبرة.
- على الآباء والأمهات أن يُعَرِّفُوا الطفل بقدراته دون أن يقللوا من شأنها أو يبالغوا في مدحها.
- تشجيع الطفل على المحافظة على أصدقائه، وبخاصة الأوفياء حتى يكون له شبكة علاقات اجتماعية جيدة تدفعه للتقدم مع العمل على غرس معاني العدالة فيه بعدم ظلمه(6).
العفو بلا هوان
ومع أننا نسعى إلى غرس صفة التسامح والصفح في أبنائنا، فإنه يجب ألا نزرع فيهم الخوف وترك حقوقهم والضعف والهوان، لذا يجب:
- عدم فرض العفو على الطفل، فلربما يأتي بأثر سلبي، لكن نحرص على أن نُحببه فيه، حتى يقبل على تعلّمه ويعرف حدوده.
- معرفة مشاعر الطفل قبل النصيحة وتركه يُعبّر عمّا في داخله، مع معرفة الدوافع والأسباب التي دفعته لغضبه.
- السماح للأولاد بأن يظهروا بعضًا من غضبهم لتفريغ ما بداخلهم من مشاعر سلبية، فالكبت يؤثر نفسيا عليهم.
- عدم الإفراط في دفع الطفل نحو العفو دون تحليل ما مرّ به، فكثرة العفو والصفح دون سبب مقنع إحدى أسباب ضعف الشخصية.
- منح الطفل الاهتمام والحنان والحب، فالطفل المشبع بهذه المشاعر لن يصعب عليه مسامحة الآخرين، بل يتعامل من هذا المنطلق العاطفي(7).
آثاره على الفرد والمجتمع
ولا شك أن التسامح له آثار إيجابية تظهر على الفرد وتنعكس على المجتمع ومنها:
- شعور المتسامح بالسعادة بسبب امتثاله لأوامر الله ورسوله، فيجد في نفسه هناء وطيب عيش لأنه لا يقلق من تبدل الأحوال والأوضاع، فهو يشعر دائمًا بالرضا.
- كسب محبة الناس وثقتهم، بل واستقرار أسرته، حيث يشعر الجميع معه في البيت بالأمان ومحبة جواره.
- يجلب الخير الدنيوي، لأن الناس يحبون المتسامح الهين اللين، فيميلون إلى التعامل معه، ويكثر عليه الخير بكثرة محبيه والواثقين به.
- اكتساب رضا الله تعالى عن الشخص المتسامح ومحبته، فمن أحب الناس ورضي لهم الخير أحبه الله.
- إزالة الأضغان والأحقاد بين الجميع ويعمل على حماية حياة الناس؛ ولهذا حبب الإسلام إلى الناس الصفح والعفو حتى في القصاص، وهو أصعب الحالات، لارتباطه بفقدان عزيز، قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40].
- توثيق للرّوابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعض الناس إلى بعضهم الآخر، وجناية بعضهم على بعض، وهو سبب لنيل مرضاة الله- سبحانه وتعالى-، وهو سبب للتقوى، قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].
المصادر والمراجع:
- هديل طالب: مفهوم التسامح، 25 أغسطس 2022م، وانظر أيضا: خالد البوعينين: مفهوم التسامح.
- نورا الأمير: 7 أهداف تتحقق بتنشئة الطلبة على فكر السلام ومبادئ التسامح، 1 سبتمبر 2019.
- لميس سامي: علمي طفلك التسامح والعفو، 26 يونيو 2019.
- توفيق يوسف الواعي: الإبداع في تربية الأولاد، دار البحوث العلمية، الكويت، 2004م.
- نهلة محمد علي حماد: بناء ثقافة التسامح في مرحلة الطفولة المبكرة، مجلة الطفولة العربية، العدد الخامس والثمانون، فبراير 2019، صـ 68.
- مجموعة مؤلفين: موسوعة سفير لتربية الأبناء، الجزء الثاني، شركة سفير، مصر، 2012.
- موقع تيار الإصلاح: تعليم الأطفال خلق التسامح: 31 يوليو 2022.
1 comments
بوركتم و بوركت أعمالكم