تقرَّر عند علماء الأمة أن مكونات الدين ثلاثة: العقيدة، والأحكام (الشريعة)، والأخلاق والآداب (القيم). وتعدُّ الأخيرة عنوانا للتدين الصحيح، لذا امتلأت بها سورة الحجرات وغيرها من السور في القرآن الكريم، إضافة إلى ما جاء في السنة النبوية المطهرة.
ولقد اعتنى الإسلام أيّما عناية بهذا الرّكن الركين والأساس المتين من الدّين، وبيّن حقائق التربية الخالدة من خلال هذه السورة التي سمّاها بعض المفسرين بسورة الأخلاق، وهي محور البحث الذي أعده الدكتور مراد زهوي.
مكارم الأخلاق في سورة الحجرات
جعل الله تعالى من المقاصد الكبرى والغايات الأسمى لبعثة محمد إتمام صالح الأخلاق ومكارمها. وقبل أن يبعثه اصطفاه وربّاه ورعاه وزكّاه، حتى وصفه في كتابه بأنه على خلق عظيم: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤).
وكان كذلك، فمن أخلاقه العلم والحلم والحياء وكثرة العبادة والسخاء والصبر والشكر والتواضع والزهد والرحمة والشفقة وحسن المعاشرة والأدب، وكان أحسن الناس خُلقًا وخَلقًا، ومعنى هذا كله أن امتثال القرآن أمرًا ونهيًا صار سجيّة له وخلقًا تطبّعه، فما أمره به القرآن فعله، وما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَلَبه الله عليه من الخُلق العظيم.
وإنّ سورة الحجرات على وجازتها وقصرها تضمّنت، حقائق التربية الإسلامية الراشدة، وأسس الحضارة، ونتعلم من آدابها أمورا عدة نفصل السطور القادمة في الإشارة إليها.
الأدب مع الله تعالى ومع رسوله
فيجب التعظيم كل التعظيم لله تعالى وعدم التعدي على حدوده وحرماته، ويجب لرسوله التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام؛ قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم}. [الحجرات: ١].
يقول ابن كثير: أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي: قبله، بل كونوا تبعًا له في جميع الأمور.
التثبّت في سماع الأخبار
سيّما إن كان الحامل لها والمروّج لها غير موثوق بصدقه وعدالته، فلا بُد من التأكد من صحة الخبر حتى لا نؤذي الناس ونحن جاهلون حقيقة الأمر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: ٦].
وذكر السعدي، أنّ هذا أيضًا من الآداب التي على أولي الألباب التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ، أي: خبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإنّ في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند سماع خبر الفاسق، التثبت والتبين.
فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه، ولهذا السبب كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا.
تجنب الاستهزاء أو السخرية
أو الاحتقار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} [الحجرات: ١١].
قال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الآية الكريمة: ينهى تعالى عن السخرية بالناس واحتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “الكِبْرُ بطرُ الحقِّ وغمطُ الناس” (رواه أبو داود والحاكم)، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام؛ فإنه قد يكون المحتقَر أعظمَ قدرًا عند الله تعالى، وأَحبَّ إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ…﴾؛ فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: لا تلمزوا الناس، والهمَّاز واللَّماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ [الهمزة: 1]، والهمز بالفعل، واللَّمْز بالقول، كما قال عز وجل: ﴿هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ [القلم: 11].
وقال ابن عباس ومجاهد: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: لا يطعن بعضُكم على بعض، وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَاب﴾؛ أي: لا تداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخصَ سماعُها، وقوله جل وعلا: ﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾؛ أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب- كما كان أهل الجاهلية يتناعتون- بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾؛ أي: من هذا ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
اجتناب الكثير من الظن
إذ يجب تجنب الكثير منه، والظن هو أن يكون عند الإنسان احتمالان ترجح أحدهما على الآخر، وهنا عبّر الله تعالى بقوله: {كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢]، ولم يقل سبحانه: اجتنبوا الظن كله؛ لأنّ الظن ينقسم إلى قسمين:
الأول: ظن الخير بالإنسان، وهذا مطلوب ما دام الإنسان أهلاً لذلك، وهو المسلم الذي ظاهره العدالة، فإن هذا يظن به خيراً، ويثنى عليه.
والآخر: ظن السوء، وهذا يحرم بالنسبة لمسلم ظاهره العدالة، فإنه لا يحل أن يظن به ظن السوء كما نص على ذلك العلماء، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ} [الحجرات: ١٢]، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث”، وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: “ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً”.
التجسس حرام
ونهى القرآن في سورة الحجرات عن التجسس، أو البحث عن عورات المسلمين وتتبع عيوبهم، فمن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر داره، قال تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: ١٢].
وقال- صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-: “… ولا تحسسوا ولا تجسسوا”. قال بعض العلماء: “التحسس بالحاء الاستماع لحديث القوم، وبالجيم البحث عن العورات، وقيل بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور”.
وقد ذكر الطبري في تفسير قوله (وَلا تَجَسَّسُوا)، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره.
أكل لحم الأخ الميت!
وقد جاء في سورة الحجرات تحذير ونهي من الغيبة، وهي، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ذكرك أخاك بما يكره”. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: “إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته”، قال تعالى: {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: ١٢].
والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله- صلى الله عليه وسلم- لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: “ائذنوا له، بئس أخو العشيرة”.
وكقوله لفاطمة بنت قيس- وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: “أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه”. وكذا ما جرى مجرى ذلك. ثم بقيتها على التحريم الشديد، وقد ورد الزجر الأكيد، ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (الحجرات: ١٢).
سورة الحجرات من السور المدنية اتفاقاً، وقد عدّها بعض العلماء أول سور المفصل، واحتوت على ست نداءات خمس منها للمؤمنين وواحد منها لجميع الناس، والقرآن لا ينادي إلا ليوصي بخير أو ينهى عن شر، إذ حدد فيها بعضا من القواعد التربوية للمجتمع المسلم، فشرحت بآياتها المتناسقة أصول الأخلاق وآداب المعاملات التي يجب على المسلمين الأخذ بها، ليعم الخير وينحسر الشر وتُخمد ناره.
المصادر والمراجع:
- ابن كثير: تفسير سورة الحجرات.
- السعدي: تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان، ص 800.
- الصابوني: مختصر تفسير ابن كثير، 3/363.
- الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن، ص 517.
- محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، ص 213.