جاءت حادثة تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة، في النصف من شعبان بعد ثمانية عشر شهرًا من هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ليزيد الله- تبارك وتعالى- المسلمين تميزًا، إذ نزل الوحي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بصرف المسلمين عن القبلة التي كان يشاركهم فيها اليهود وهي بيت المقدس، إلى قبلة الإسلام خاصة وهي الكعبة، لذا كانت تلك الحادثة هي الفاصل بين الحرب الكلامية والتدخل الفعلي من جانب اليهود لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة.
ويرى الدكتور أحمد عبد الخالق، في بحث له، أن هذه الحادثة لم تكن تعصبًا ولا تمسكًا بمجرد شكليات، وإنما كانت نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات، نظرة إلى البواعث الكامنة وراء الأشكال الظاهرة، وهذه البواعث هي التي تفرق قومًا عن قوم، وعقلية عن عقلية، وتصورًا عن تصور، وضميرًا عن ضمير، وخلقًا عن خلق، وتربية عن تربية، واتجاهًا في الحياة كلها عن اتجاه.
تحويل القبلة في القرآن والسنة
وتناول القرآن الكريم حادثة تحويل القبلة إلى الكعبة، فقال الله تعالى :{ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ( البقرة آية:149-150).
يقول الواحدي في الوجيز: “كان اليهود يقولون: ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه ويقولون: يخالفنا محمَّدٌ فِي ديننا ويتَّبِع قِبلتنا فهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهًا على الجُهَّال فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة ثمَّ قال تعالى: ﴿إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ من النَّاس وهم المشركون فإنَّهم قالوا: توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ.
ثمَّ قال: ﴿فَلا تَخْشَوْهُمْ﴾ يعني: المشركين في تظاهرهم عليكم فِي المُحاجَّة والمحاربة ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ فِي ترك القِبلة ومخالفتها ﴿وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: ولكي أَتمَّ- عطفٌ على ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾- نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم.
وعن البراء بن عازب- رضي الله عنه- قال: “أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده- أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه- صلى الله عليه وسلم- صلى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قِبل مكة، فداروا كما هم قِبل البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك” (البخاري).
دروس تربوية وإيمانية من تحويل القبلة
لقد ميّز تحويل القبلة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الذي تعاملوا مع الحدث بريبة، حيث استجاب المؤمنون للنداء فورًا حتى وهُم في صلاتهم، فما إن سمعوا المنادي أن الله أمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- بالتوجه إلى المسجد الحرام حتى اتجهوا مباشرة إلى القبلة الجديدة دون انتظار الاستعلام من النبي أو لماذا حدث ما حدث.
وظهر صدق الإيمان الذي تملك القلوب في المبلغ والمبلغ له، وهو بخلاف مَن كذب هذا الحدث وتملكه الغضب من التحويل مثلما يحدث اليوم مع أقوام يلهثون خلف التطبيع من الكيان المغتصب على حساب أولى القبلتين وثالث الحرمين.
وكان المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وهذا فيه العديد من الدلالات والمعاني الجليلة، والبعد العقدي والارتباط الإيماني، فالقبلة رابط لتوحيد الأمة، إذ لو تُرك كل إنسان يتجه حسبما يريد، لافترق الناس واختلفت وجهاتهم، ففي معنى القبلة الترابط والتآخي والنصرة والوحدة ورمز الوجود والقوة.
ومن الدروس التي خلّفتها هذه الحادثة، تخليص الجيل الأول الذي آمن بالرسول- صلى الله عليه وسلم- من النعرة القبلية ورواسب الجاهلية التي كانت تُحيط بالمسجد الحرام، حتى إذا خلصت القلوب وتجردت لله الواحد القهار جاء الإذن بالعودة إلى القبلة الأم وهي المسجد الحرام الذي كان أول بيت وضع للناس في الأرض.
وأكدت هذه الحادثة، أهمية وحدة المسلمين، فقد كان الله سبحانه ينظر إلى نبيه- صلى الله عليه وسلم- وهو يقلب وجهه في السماء حيث اختلجت بين جوانحه رغبة أن يتوحد المسلمين تحت قبلة خاصة بهم، تجمع شتاتهم، وتلم شعثهم، ولا يكون لأحد عليهم فيها سلطان، فاستجاب الله لأمنية نبيه- صلى الله عليه وسلم- وأنزل شرائعه برسم قبلة خاصة للمسلمين توحدهم وتجمعهم تحت لوائها، قال تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 144).
وقد كانت الحادثة ترضيةً ومواساة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأكيدًا على مرحلة جديدة للمشروع الإسلامي، وتحريرًا للكعبة من الأصنام وقلب ميزان القوة لمصلحة المسلمين إذ جاءت غزوة بدر بعدها بأقل من شهر.
ومن الدروس المهمة، تمحيص الصف الإسلامي وقياس مدى قدرته على التدافع وقابليته للبذل والتضحية بعد سنوات التربية وبناء العامل الذاتي، قال تعالى: {… وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ} (البقرة: من الآية 142).
كما كانت تأكيد على أن المشككين يتحركون وَفق هواهم لا وَفق التشريع الإلهي، ومستحيل على النبي أن يتحرك وفق هوى أحد.
تسليم وانقياد لأوامر الله
أثبتت حادثة تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة، تسليم وانقياد الصحابة الكرام إلى أوامر الله- تبارك وتعالى-، انطلاقًا من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
لقد ضرب الصحابة- رضي الله عنهم- أروع الأمثال في سرعة امتثالهم لأوامر الشرع، فلما أُمِروا بالتوجه إلى المسجد الحرام سارعوا وامتثلوا، بل إن بعضهم لما علموا بالحادثة وهم في صلاتهم تحولوا وتوجهوا إلى القبلة الجديدة في الصلاة نفسها.
وقد أظهر هذا الحادث حرص المؤمن على أخيه وحب الخير له، فحينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بالتوجه في الصلاة إلى الكعبة، تساءل المؤمنون عن مصير عبادة إخوانهم الذين ماتوا وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله- عز وجل- أن صلاتهم مقبولة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ النَّبِيُّ-صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْكَعْبَةِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَكَيْفَ الَّذِينَ مَاتُوا، وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] (أبو داود والترمذي).
الكعبة هي الأصل
والحق أن قضية تحويل القبلة ما زالت تطرح من بعض المعاصرين من المستشرقين والعلمانيين ومن في قلوبهم زيغ، حيث يذهب بعضهم إلى التساؤل عن الحكمة من تحويل القبلة، ولهؤلاء نقول:
أولًا: إن الأساس في القبلة هو الكعبة المشرفة بدليل قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} (البقرة: 143)، وهذه إشارة من الله تعالى إلى أن الصلاة صوب بيت المقدس كانت لأسباب معينة ولفترة معينة.. فالله عز وجل جعل نبيه- صلى الله عليه وسلم- يصلي صوب بيت المقدس؛ لأن مشركي مكة كانوا يعظمون الكعبة باعتبارها بيت آبائهم وليس باعتبارها بيت الله تعالى.. ولقد صرفه الله تعالى عنها كي لا يظن الكفار والمشركون أنه ﷺ يعظم البيت العتيق ويصلي تجاهه لأنه بيت آبائهم حسب ظنهم.
ثانيًا: كانت الكعبة ممتلئة بالأصنام التي تعبدها القبائل العربية من دون الله، وما كان للنبي أن يستقر على الصلاة صوبها وبها أصنام؛ كي لا يحدث نوع من اللبس في مسألة موقف الدين الحنيف من تلك الأصنام.. لذا صلى النبي ﷺ تجاه الكعبة بعد أن ابتعد عنها وترك مكة إلى المدينة المنورة؛ كي لا يظن أنه يمجد الكعبة بالأصنام الموجودة بها.
ثالثًا: إن اليهود عيروا المسلمين في المدينة بأنهم هم من هدوهم إلى القبلة (بيت المقدس)، فجاء تحويل القبلة ليذهب عن اليهود الإحساس بالفضل على المسلمين.
رابعًا: كان التحول إلى اتجاه الكعبة في الصلاة من جملة نعم الله تعالى على المسلمين، إذ هداهم إلى قبلة أبي الأنبياء إبراهيم- عليه السلام- التي شرفها الله تعالى عندما أشار إليها بقوله: {يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:142).
لماذا فرح النبي بالاتجاه نحو الكعبة؟
لقد فرح النبي- صلى الله عليه وسلم- بتحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى الكعبة المشرفة، وذلك:
أولًا: أنها قبلة أبي الأنبياء إبراهيم- عليه السلام-، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسل بالحنيفية السمحة، التي هي ملة إبراهيم- عليه السلام- من هنا يرضيه ويسعده أن يصلي تجاه القبلة التي كان يصلي إليها أبو الأنبياء عليه السلام.
ثانيًا: لا شك أن قلب النبي- صلى الله عليه وسلم- كان متعلقًا بمكة المكرمة؛ لأنها أحب بلاد الله إلى الله كما علمنا يوم هجرته، وأن الله وضع البيت المعمور فوقها في السماوات العلى.
ثالثًا: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حريصًا على إزالة كل مظاهر الشرك من الكعبة، وكان يرى أن اتخاذ الكعبة قبلة سيعينه على إخلائها تمامًا من الأصنام عندما ينصر الله دينه ويمكن له في الأرض، والدليل على ذلك أن أول شيء فعله يوم أن دخل مكة هو تطهير الكعبة من الأصنام والأوثان.
رابعًا: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان يعلم أن العرب تدين بالولاء والتعظيم للكعبة ويحضرون لزيارتها، واتخاذها قبلة سيتيح الفرصة لنشر الدين الحنيف بين القبائل التي تأتي لزيارتها والطواف بها.
إن الدروس التربوية من حادثة تحويل القبلة كثيرة، إذ أثبتت قوة وحدة المسلمين، وبينت مدى الحب الذي يملأ قلوب المؤمنين للنبي- صلى الله عليه وسلم- ولبعضهم، إضافة إلى التسليم بما أمر الله به- عز وجل-، بل عدم تأجيل الإجابة ولو لدقيقة.
المصادر والمراجع:
- تفسير: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) .
- تحويل القبلة.. دروس وعبر https://bit.ly/3ETpCru|.
- تحويل القِبْلة دروس وعبر https://bit.ly/3rXfngF.
- تحويل القبلة ودروس للأمة https://bit.ly/3kDoyPj.