يشعر كثيرٌ من الدعاة بخيبة أمل عندما يدعون إلى الله، ويستعملون الحجج والبراهين، ولكن لا يجدون استجابة مناسبة، متناسين عنصرًا مهمًّا وهو تحري زمن الدعوة وأهميته في أسر قلوب المدعوين، سيما أنّ الواقع الذي نتعامل معه غير إسلامي، فقد تشكل بفعل عوامل كثيرة، معظمها نشأ بمؤثرات مادية إلحادية أو فاسدة، وقد سيطر هذا الواقع على أفراد المجتمع، وأصبح الداعية يتعامل مع الفرد القابع تحت هذه التراكمات الفكرية والسلوكية، التي هي بمثابة الحجاب المانع من الاتصال بينه وبين المدعو.
إنّ على الدّاعية تحري الوقت المناسب للدعوة حتى لا يمل السامعون عن الاستماع إلى الحق، وبخاصة في زماننا الذي فترت فيه الهمم، وضعفت العزائم، ومات الطموح، وحل الكسل والخمول، ومع كل هذا لا يمل الداعية ولا تحبط نفسه، فربما كلمة قالها دخلت في مكونات المدعو، واختزنها عقله ثم استرجعها في يوم من الأيام.
منهج النبي في تحري زمن الدعوة
ولقد أرسى النبي- صلى الله عليه وسلم- منهجًا قويمًا في تحري زمن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ويكمن الإشارة إلى هذا المنهج من خلال هذه النّقاط:
- تحيُّن الموعظة عندَ إقبال السامِع ونشاطه وتَرْكها عند انشغاله: مِن ذلك: أمرُه- صلَّى الله عليه وسلَّم- المدعوين بالانصراف إلى أهلِهم؛ لما رأى من تشوُّقهم إليهم؛ فعن أبي سليمان مالكِ بن الحويرث- رضي الله عنه- قال: “أتَيْنا رسولَ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- ونحن شبَبَةٌ متقاربون (يعني: في السن)، فأقمْنا عندَه عشرين ليلة، وكان رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- رحيمًا رفيقًا، فظنَّ أنَّا قد اشتقْنا أهلنا؛ فسَألْنا عمَّن تركْنا من أهلنا، فأخبرْناه، فقال: “ارْجعوا إلى أهلكم، فأقيموا فيهم، وعلِّموهم وبرُّوهم، وَصَلُّوا كذا في حين كذا، وصلُّوا كذا في حين كذا؛ فإذا حضرتِ الصلاة فليؤذِّن فيكم أحدُكم، وليؤمَّكم أكبرُكم” (البخاري)
- عدم إطالة الموعِظة خشيةَ الملل: وهو ممَّا كان يحرِص عليه الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- فقد قال ابنُ مسعود- رضي الله عنه-: “إَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلَّى الله عليه وسلَّم- كانَ يَتخَوَّلُنا بالموْعِظَةِ في الأيَّامِ؛ كراهِيَةَ السَّآمةِ عليْنا” (البخاري).
- استثمار الحَدَث والموقِف في التعليم والتربية: جاء في الحديثِ عن البراء بن عازب- رضي الله عنه- أنه قال: “خرجْنا مع النبيِّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهَيْنا إلى القبر، فجلَس رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- وجلسْنا حوله، كأنَّ على رؤوسنا الطيرَ، وفي يدِه عُودٌ ينكت به في الأرض، فرفَع رأسه فقال: “استعيذوا بالله مِن عذاب القبر..”(أبو داود)، والموعظة عندَ القبر كان يفعلُها- صلَّى الله عليه وسلَّم- أحيانًا.
- أوقات إقبال القلْب على ربِّه أدْعى لقَبول النُّصح والإرشاد: ففي الحديث عن أبي نَجيح العِرْباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: وعظَنا رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- موعظةً بليغة، وجلتْ منها القلوب، وذرفَتْ منها العيون، فقلنا: يا رسولَ الله، كأنَّها موعظة مودِّع، فأوصِنا، قال: “أُوصيكم بتقوى الله، والسَّمْع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي، وإنَّه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور، فإنَّ كل بدعة ضلالة”(الترمذي).
- الحثّ على التوبة في وقْت الاحتضار: وهي لحظةُ انتقال الإنسان إلى عالَم جديد، يتقرَّر فيه مصيرُه؛ فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “كان غلامٌ يهوديٌّ يخدُم النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- فمَرِض، فأتاه يعوده، فقعَد عند رأسه، فقال له: “أسْلِم”، فنَظَر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطِعْ أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو يقول: “الحمد لله الذي أنْقذَه مِن النار” (البخاري).
- إطالة الموعظة أحيانًا لطارئٍ مهم: وممَّا يدلُّ على ذلك موعظتُه- صلَّى الله عليه وسلَّم- عن أمور جِسام ستَقع في الأمَّة، حتى طالتْ موعظتُه فوقَ العادة، ففي صحيح مسلم عن عمرِو بن أخطبَ- رضي الله عنه- أنَّه قال: “صلَّى بنا رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- الفجرَ، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاة الظهر، ثم نزَل فصلَّى بنا الظهر، ثم صعِد المنبر فخطَبَنا حتى صلاةِ العصر، ثم نزَل فصلَّى العصر، ثم صعِد المنبر فخطبَنا حتى المغرب، فما ترَك شيئًا مما يكون إلاَّ أخْبر به أصحابَه، حفِظَه مَن حفِظه، ونسِيَه مَن نسيه، يقول: فأعْلَمُنا أحفَظُنا”(مسلم).
- مناسبة المقال لمقتضَى الحال: فقد كانت مواعِظُه- صلَّى الله عليه وسلَّم- واختياره الأمثل لمقتضَى الحال، مما له أبلغُ الأثر في المدعوِّين في حالة الفَرَح أو الحزن وغيرها مِن الأحوال في عامَّة مواعظِه وإرْشاده- صلَّى الله عليه وسلَّم.
- توجيه الأنظار للتدبُّر والتفكُّر: فكان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- يستثمر عامِل الوقت والزمن؛ لأجْل صرْف العقول للتدبُّر في خلْق الله، وعجائب قدرته، مثْل وقت كسوف الشمس، وخسوف القمر وهبوب الرِّياح، فقد قال عندما وقَع الكسوف: “إنَّ الشمس والقمر آيتان مِن آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكن الله تعالى يُخوِّف بها عباده” (متفق عليه).
نصائح تربوية لمراعاة عنصر الزمن في الدعوة
ويجب على الداعي أن يُراعيَ عنصر الزمن في الدعوة إلى طريق الله جل وعلا، حتى يكونَ ناجحًا في مواعظه، وإلا ملَّتْه النفوسُ، وسَئِمت مِن سماعه، لذا نسوق هنا بعض النصائح التربوية منها:
- ليس كلُّ وقت يصلُح لوعْظ الناس وإرشادهم، فليس مِن الحِكمة- مثلاً- موعظةُ الناس في أوقات انشغالهم في العمل وأمور المعاش، أو وقت انصرافِ الناس إلى نومِهم وراحتهم في اللَّيْل.
- خيرُ الكلام ما قلَّ ودلَّ، لأن إطالة المواعِظ لتتعدَّى أحيانًا ساعة وأكثر، مشكلةُ بعض الوعَّاظ، وليعلمْ هؤلاء أنَّ طاقة ذهْن الإنسان محدودةٌ لا يمكن في العادة أن تتابعَ الكلام بتركيز وانتباه لأكثرَ مِن رُبع ساعة، وبعدَها يُصاب الذِّهن بالشرود والتعب.
- لا بد من أن تلاءم الموعظةُ حال المدعوين، فينظر الداعي أيَّ مرَض أو آفة اجتماعية تغلُب على قومِه أو مجتمعه، فيتحدَّث فيها، ويُحذِّر منها، وقد قيل في تعريف الحِكمة هي: فِعْل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
- مناسبة الموعظة للحال، فلا يجوز إعطاء درس أو موعظة في الصبر على البلاء، وتحمُّل المصائب والنكبات في يومِ فرَح الناس وأعراسهم، لكن مِن الحكمة استثمار تلك المناسبة في موعِظة عن الشُّكر، وبيان هَدْي الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- في الأعراس والمناسبات.
- على الداعي أن يتفرَّسَ في وجوه الحاضرين، ومدَى استعدادهم لتلقِّي ما يُقال لهم؛ فالموعظةُ الغرضُ منها هو أن يستفيدَ الحاضرون، والبعضُ من الوعَّاظ يرى تملْمُلَ الناس من درْسه وترْكهم لمجلسه، ومع ذلك تراه يستمرُّ ويطيل الكلام ويُكرِّر وهذا له نتائجُ عكسية.
- عدم توفُّر الوقت الملائم لإلْقاء الموعظة، وليس مِن الضروري إلْقاء الموعظة وكأنَّها حِمْل على كاهله يريد التخلُّص منه، بل الموعظة دُررٌ وفوائدُ أثمنُ مِن المال، لا بدَّ من تحيُّنِ فرصة مناسبة؛ ليُنتفعَ منها، وتقعَ موقعها في النفوس، فتدعوهم للعمل الصالح، فعن ابن مسعود قال: “حدث الناس ما أقبلت عليك قلوبهم إذا حدقوك بأبصارهم وإذا انصرفت عنك قلوبهم فلا تحدثهم، وذلك إذا اتكأ بعضهم على بعض”.
الانتباه إلى أحوال المدعوين
وكما أن زمن الدعوة عنصر مهم، فإن الانتباه إلى أحوال المدعويين أمر لا يقل أهمية، ويكون ذلك من خلال مراعاة هذه العوامل:
- التواضع مع المدعويين: فالتواضع موجب للرفعة ومحبب لدى الناس وفي هذا يقول- صلى الله عليه وسلم-: “… وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” (الترمذي)، فالتواضع لله مرتبط بالتواضع للناس.
- اختيار الأسلوب المناسب المؤثر في المدعو لدعوته وذلك في أساليب القرآن لدعوة الأقوام وهي:
- الترهيب، والترغيب، والقصة، والمثل، وذكر أحوال الأمم السابقة، وبعض حقائق الغيب.
- تشويق المدعو وتحفيزه بأسلوب عرض المعلومة عليه، فالقرآن في بعض الأحيان يطرح، المعلومات بأسلوب التحفيز، مثل السؤال وذلك أن تكون المعلومة على هيئة سؤال مثل قوله- تعالى-: (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 63 – 64].
- ترتيب الأولويات في الدعوة: الأهم فالمهم ومن ذلك مثلا ألا تنصح الشخص الذي لا يصلي بترك شرب الدخان وتترك الأهم وهو الصلاة، إنما تبدأ بالنصح في الصلاة.
- عمر المدعو: فهناك اختلاف مِن مَدعو إلى آخر من حيث السن مما يترتب عليه الاختلاف في الأسلوب الدعوي للداعية.
- اهتمامات المدعو: بإدخال الدعوة في اهتماماته لكي تكون مؤثرة، وذلك بمراعاة الحاجات العضوية والنفسية والاجتماعية والإيمانية إلى المدعو.
- وقت المدعو: بتحري الوقت المناسب للدعوة سواء كان ذلك للداعي أو المدعو.
- مكان المدعو: بأن يكون في مكان مناسب.
- الرفق بالمدعو: عندما وجه الله- سبحانه وتعالى- موسى وهارون- عليهما السلام- في دعوتهما إلى فرعون قال سبحانه: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) [طه: 44].
إن تخير الوقت المناسب في الدعوة إلى الله- تبارك وتعالى- من أقوى عوامل التأثير في الناس، فيعلموا ما أوجب الله عليهم وما حرم عليهم عن بصيرة، وهو منهج النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- الذي كان يتحين الأوقات المناسبة فيدعو إلى الله على بصيرة.
المصادر والمراجع:
- ابن كثير: تفسير ابن كثير 4/450.
- ابن القيم: مدارج السالكين 2/479.
- موقع تيار الإصلاح: استغلال المناسبات في الدعوة إلى الله.
- خالد البواردي: أحوال المدعوين في الدعوة التي يجب على الداعية إلى الله التنبه لها.
- ابن مفلح: الآداب الشرعية والمنح المرعية 2/ 99.