يصدُر من الأطفال أحيانًا بعضُ التصرُّفات التي تستوجب وقفةً أو عِقابًا، وفي الواقع الذي نعيشه نجد تبايُنًا في تصرُّفات المربين، فبعضُهم يعتمد في تأديب الأبناء على أسلوب التدليل؛ حيث تتحكَّم فيهم عواطفُهم، ويستسلمون أمام تعنُّت الطفل وإصراره لإشباع رغباته، فينشأ الطفل مدلَّلًا.
وهناك البعض الآخر من الآباء والأمهات يسلكُون طريق القسوة، وإنزال العقوبات الصارمة المؤذية والمؤثِّرة في شخصية الطفل ونموِّه الانفعالي، فيُصاب ببعض الأمراض النفسية، بل يصل الأمر إلى تحطيم شخصيته.
تأديب الأبناء في القرآن
إن تأديب الأبناء في القرآن الكريم ينطلق من قول الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..) [التحريم:6]، وفي ذلك أورد ابن كثير عن سفيان الثوري، أي “أدبوهم وعلموهم”. وقال مجاهد: أي اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال قتادة: تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها (1).
لكن التأديب لا يعني الشدة والعنف والتحقير، بل الهدف منه مساعدة النشء للوصول إلى الخلق الحسن، سيما أن الإسلام رفع التكليف عن الصغار رحمة بهم، وحينما وجّه إلى العقاب، أكد أنّ ذلك وسيلة لمساعدة للمربي في علاج حالة معينة قد لا تصلح بالعقاب.
ولا يصح أن يكون العقاب سخرية أو تنابزا بالألقـاب، وهو ما يقع فيه كثير من الآباء والمربين، يقول – عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خـَيْراً مِّنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) [ الحجرات:11]، فالنداء على الطفل بقول “يا أعور أو يا أعرج” أو اتهامه بالكذب ومعايرته بشيء يكره يزعزع الثقة في نفسه.
والأصل في تربية الأولاد هو التوجيه بالرفق والرحمة، قال – جل وعلا- ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]. فهذا أبٌ حكيم يوجه ابنه ويرشده إلى ما فيه سعادته وصلاحه في الدارين بكل حب وود.
ولقد رفع القرآن الكريم التبعة والمسؤولية عن الطفل قبل بلوغه، وجعله من زمرة المستضعفين، الذين هم أحوج ما يكونون للرحمة والعناية والتربية، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} (النساء: 75).
واستثنى الوِلدَانِ المستضعفين من المشاركة في القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى، وقد بيّن القرآن عذر الولدان المستضعفين في شأن الهجرة في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (النساء: 98).
ولنا أن ننظر في لطف التشريعات القرآنية بهذه الفئة من الناس، التي لا تستطيع حيلةً ولا تهتدي سبيلا، ومعنى {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}: لا يقدرون على حيلة، ولا على قوة الخروج منها، {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي: لا يعرفون طريقًا إلى الخروج.
ونهى القرآن عن قهر الطفل اليتيم ومعاملته بقسوة أو اتباع أسلوب العقاب الشديد معه في التربية والنصح، فقال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} (الضحى: 6-9).
وفي موضع آخر يعيب القرآن إزعاج اليتيم طفلًا بصورة منفّرة، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم} (الماعون: 1-2)، ومعنى يدع اليتيم: «يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوة وأذى، ويرده ردَّا قبيحًا بزجر وخشونة» (2)، وهذا غاية في النهر والقهر، حيث جُمع على اليتيم هنا قهران: قهر مادي، وذلك بدفعه بيديه، وقهر معنوي، بإسقاطه من دائرة الاعتبار، وفي هذا منتهى الإساءة والانتحاء عن الإنسانية.
تأديب الأبناء في السنة
كثيرة هي الكتب والمقالات والنظريات التي نُشرت بهدف توجيه الأهل والمربين إلى أساليب تأديب الأبناء وفق السنة النبوية المطهرة لتكوين شخصية الطفل وبناء الدعائم والركائز التي تجعل شخصيته قوية سوية.
إنّ ما وجدناه في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – يضيء الطريق ويرشد التائه ويمسك بيده ليصل به نحو تربية إسلامية مُثلى، وبالتالي شخصية إسلامية متميزة ومن ثمّ جيل إسلاميّ بإذن الله، وهذه بعض من التوجيهات النبوية العطرة في التربية الصحيحة للأبناء:
- إنشاء البناء الإيماني منذ الصغر، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرّقوا بينهم في المضاجع” (صحيح أبي داود).
- منحه الحب والحنان وإشباعه عاطفيًّا ونفسيًّا، والمربي الذي ينقصه الحنان ويبخل بالابتسامة ولا يعرف كيف يمسح على رأس الطفل أو يأخذه بين أحضانه، لا يصلح للتربية، يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: “ليسَ منّا من لَم يَرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كَبيرِنا” (صحيح الترغيب).
- بناء الثقة بأنفسهم: إن الأطفال لهم مشاعر وأحاسيس ورغبات وأهواء، والنبي – صلى الله عليه وسلم – بأسلوبه الرائع ملك أحاسيس الأطفال فكانت كلماته تقع مباشرة في قلوبهم، حيث كان يُنزِل الصغار منزلة رفيعة ويحترمهم ويشعرهم بذلك ويغرس فيهم صفات الرجولة ما يعزز ثقتهم بأنفسهم، فكان يقول لابن عباس – رضي الله عنه- وهو راكب خلفه على دابته: “يا غلامُ، ألا أُعلِّمُك كَلماتٍ؟ احفَظِ اللهَ يحفَظْك، احفَظِ اللهَ تجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأَلِ اللهَ، وإذا استَعنتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشيءٍ لم ينفَعوك إلّا بشيءٍ قد كتَبه اللهُ لك، ولو اجتمَعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لم يضُرُّوك إلّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ علَيك؛ رُفِعَت الأقلامُ، وجَفَّت الصُّحُفُ” (صحيح الترمذي).
- التفكير وتنمية المواهب والمواساة: وهذا ما فعله النبي عندما سأل: “إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟) فأخذ الصحابة يتحدثون عن شجر البوادي والرسول – صلى الله عليه وسلم – لا يؤيدهم وكان من بينهم عبد الله بن عمر وهو ابن عشر سنين قال: فوقع في نفسي أنها النخلة ولكني استحييت أن أقول وأنا صغير وفي الحضور كبار الصحابة” (صحيح البخاري).
- ومن التوجيهات النبوية الكريمة في تربية الأبناء، غرس القيم الفاضلة في نفوسهم عن طريق القدوة، فالأهل في نظر الطفل هم المثل الأعلى يقلدهم في سلوكهم وأقوالهم، والولد مهما كان استعداده للخير كبيرا ومهما كانت فطرته نقية فإنه لا يستجيب لأصول التربية الفاضلة إذا لم يكن المربي في قمة الأخلاق الفاضلة والمثل العليا.
- مواساتهم والتخفيف عنهم، كما فعل النبي – صلى الله عليه وسلم- مع ذاك الطفل الصغير الذي كان يلعب بعصفور يقال له النغير؛ فمات العصفور فحزن الطفل؛ عليه فأراد النبي أن يبعد عنه الحزن فمازحه بقوله: (يا أبا عمير ما فعل النغير).
- وهناك أمر تربوي آخر نستقيه من معاملته – صلى الله عليه وسلم – مع الأطفال، أنه ما كان يكثر من اللوم والعتاب على تصرفات الأطفال فهذا أنس – رضي الله عنه- يخدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين ويقول: (ما كان يقول لي لشيء لِمَ فعلته ولا لشيء لم أفعله لِمَ لَمْ تفعله).
- ولا بُد من العدل بين الأبناء، لما أثر عن أنس – رضي الله عنه- أنه قال: كان مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فجاءَ ابنٌ لهُ فقَبَّلَهُ وأجلسهُ على فَخِذِهِ ثم جاءتْ بنتٌ لهُ فأَجْلَسَها إلى جنبِه قال: فهلَّا عَدَلْتَ بينَهُمَا” (السلسلة الصحيحة).
ضوابط شرعية لضرب الأولاد
رغم أن الشرع أباح الضرب – غير المبرح- في أثناء تأديب الأبناء وتوجيههم إلى الصواب، فقد قيده بضوابط يجب على ولي الأمر والمربي الالتزام بها، ففي البحر الرائق: (لو ضرب المعلم الصبي ضربا فاحشا، فإنه يعزر ويضمنه لو مات) (3).
ولا بد من استنفاذ الوسائل التربوية التي تسبق الضرب، فهو آخر الدواء، ويجب أن يقدم عليه الرفق واللين لقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلى شانه” (مسلم). وقال ابن حجر: “إذا جاز للمعلم التعزير فله الضرب، ويلزمه أن يكون على حسب ما يراه كافيًا بالنسبة لجريمة الولد، فلا يجوز له أن يرتقي إلى مرتبة وهو يرى أن ما دونها كافيًا بالنسبة لجريمة الولد) (4).
ويجب ألا يلجأ المربي إلى التأديب بالضرب وهو في حالة الغضب الشديد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرّ الخير يعطه، ومن يتق الشر يُوَقَّه”، (أخرجه الدارقطني في الأفراد).
أما عن أداة الضرب، فلا بد من أن نراعي فيها المواصفات التالية:
– أن تكون معتدلة الحجم، فلا يضرب الصبي بعصا غليظة تكسر العظم، ولا رقيقة لا تؤلم الجسم بل تكون وسطا.
– أن تكون معتدلة الرطوبة فلا تكون رطبة تشق الجلد لثقلها، ولا شديدة اليبوسة، فلا تؤلم لخفتها، فعن القابسي: “أن تكون الدّرّة التي يضرب بها المعلم الصبيّ رطبة مأمونة لئلا تؤثر أثراً سيئاً” (5).
ولا بد من أن تكون دون الآلة الشرعية التي تقام بها الحدود ولا يتعين لذلك نوع بل يجوز بسوط وبعود
وطرف ثوب بعد فتله حتى يشتد.
المصادر:
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، صـ560.
- حافظ الدين النسفي: تفسير النسفي، سورة الماعون.
- ابن نجيم، البحر الرائق: 5/53.
- شمس الدين بن محمد الأنبابي، رسالة في رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، ص: 9.
- القابسي، الرسالة، ص:170.