لقد نجح الإمام الشهيد حسن البنا من خلال رسالته بين الأمس واليوم في وصف تطورات فكرة جماعة الإخوان المسلمين، وأهدافها، ومراحلها، وتمكن من عرض مبادئ الإسلام ووسائل الإصلاح وتربية الأجيال، والأهم أنه حدّد في هذه الرسالة واجبات الأخ المسلم في الأوقات السياسية العصيبة، مثل التي نعيشها هذه الأيام، وقد كثر فيها خصوم الدعوة المعادون لصعودها، وهو عندما يُحدد هذه الواجبات يصور الواقع تصويرًا دقيقًا كأنه يعيش بيننا الآن.
مضمون رسالة بين الأمس واليوم
وانطلق الإمام البنا في توضيح مضمون رسالة بين الأمس واليوم من فكرة أنّ دعوة الإسلام كانت حدًّا فاصلًا في الكون كله، بين ماضٍ مظلم، ومستقبلٍ باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير ومبلغه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة.
يقول تعالى: (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى:52-53).
والقرآن هو الجامع لأصول هذا الإصلاح الاجتماعي الشامل، وقد أخذ يتنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم-، ويعلن به المؤمنين بين الآن والآن بحسب الوقائع والظروف والمناسبات، يقول سبحانه: (… كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا * وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان:32-33).
وقد اكتمل القرآن وحُفظ في الصدور والسطور في مدى اثنتين وعشرين سنة ونيفًا، وجمع الله فيه لهذه الأمة تبيان كل شيء، وأصول الإصلاح الاجتماعي الكامل الذي جاء به تكاد تنحصر مجموعة أصول هي: الربانية، والتسامي بالنفس الإنسانية، وتقرير عقيدة الجزاء، وإعلان الأخوة بين الناس، والنهوض بالرجل والمرأة جميعًا، وإعلان التكافل والمساواة بينهما، وتحديد مهمة كل منهم تحديدًا دقيقًا، وتأمين المجتمع بتقرير حق الحياة والملك والعمل والصحة والحرية والعلم والأمن لكل فرد وتحديد موارد الكسب، وضبط الغريزتين، والشدة في محاربة الجرائم الأصلية، وتأكيد وحدة الأمة، وإلزامها بالجهاد، واعتبار الدولة ممثلة للفكرة وقائمة على حمايتها.
وخالف النظام القرآني غيره من النظم الوضعية والفلسفات النظرية فلم يترك مبادئه وتعاليمه نظريات في النفوس، ولا آراء في الكتب، ولا كلمات على الأفواه والشفاه، ولكنه وضع لتركيزها وتثبيتها والانتفاع بآثارها ونتائجها مظاهر عملية، وألزم الأمة التي تؤمن به وتدين له بالحرص على هذه الأعمال وجعلها فرائض عليها لا تقبل في تضييعها هوادة.
وعلى قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تُؤمن به إيمانًا عميقًا وتطبقه تطبيقًا دقيقًا وتنشره في العالمين، حتى كان الخليفة الأول- رضي الله عنه- يقول: (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).
وكانت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها شمل هذه الأمة الناشئة، فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغته، والوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة في العاصمة، ولم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش، وفي بيوت المال، وفي تصرفات الولاة، حيث إن الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه عام متحد.
ولم تستمر عوامل القوة في الدولة الإسلامية كثيرًا، حيث أخذت عوامل التحلل تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية، وتعظم وتنتشر وتقوى شيئًا فشيئًا حتى مزّقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار، وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية، وتركت وراءها في كلتا المرتين أممًا مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض.
وبلا شك فإن هذا التراجع والضعف يعود إلى:
- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه.
- الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.
- إهمال كتاب الله وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم.
- الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات، حتى أثر عن حكام المسلمين في كثير من العصور ما لم يؤثر عن غيرهم.
- انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخرى، والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح.
- إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة، مع أن الإسلام يحث على النظر في الكون واكتناه أسرار الخلق والسير في الأرض.
- غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم.
- الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع.
- طغيان المادة على بلاد الإسلام، حيث عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية- بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة- جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم، وطالها سلطانهم.
أهداف ووسائل تربوية في رسالة بين الأمس واليوم
وتتلخص أهداف فكرة الإخوان المسلمين في رسالة “بين الأمس واليوم” للإمام البنا وكذلك الوسائل التربوية لتحقيق هذه الأهداف في الآتي:
أولًا: الأهداف:
- أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
- أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة الناس، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعاً آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادها.
- إصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة وتكوين مجتمع نموذجي ينتسب إلى شريعة الإسلام.
ثانيًا: الوسائل:
- الإيمان العميق.
- التكوين الدقيق.
- العمل المتواصل.
وصية وواجبات من الإمام البنا للإخوان
وفي نهاية رسالة “بين الأمس واليوم” ساق الإمام البنا وصية وواجبات للإخوان، فكانت الوصية هي تدبر هذه الرسالة أو حفظها والاجتماع عليها، والتأكيد على أن دعوة الإخوان هي دعوة للإسلام الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه، وأما الواجبات فهي:
- الإيمان بالله، والاعتزاز بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه، فلا خوف من غيره ولا رهبة لسواه، ولا بد من أداء فرائضه واجتناب نواهيه.
- التخلق بالفضائل والتمسك بالكمالات، وأن يكون الإخوان أقوياء بأخلاقهم أعزاء بما وهب الله لهم من عزة المؤمنين وكرامة الأتقياء الصالحين.
- الإقبال على القرآن بالدراسة، وعلى السيرة المطهرة بالمذاكرة، وتفضيل العمل على الجدال؛ فإذا هدى الله قومًا ألهمهم العمل؛ وما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.
- الحب فيما بين الإخوان، والحرص على الرابطة فهي سر قوتهم وعماد نجاحهم، والثبات حتى يفتح الله بينهم وبين قومهم بالحق وهو خير الفاتحين.
- السمع والطاعة للقيادة في العسر واليسر والمنشط والمكره، فهي رمز الفكرة وحلقة الاتصال فيما بينهم.
- ترقب نصر الله وتأييده. والفرصة آتية لا ريب فيها: (… وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5).
هكذا ذَكّر الإمام البنا في نهاية رسالة “بين الأمس واليوم” الإخوان بأهداف دعوتهم ومراميها، مطالبهم بالاعتزاز بها، والحرص عليها، والثبات على ثغورها فيما يشبه توصية مودع، يقول: “أيها الإخوان المسلمون، اسمعوا: أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنـظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بيني وبينكم إلى حين؛ فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم، فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم، وأن تجتمعوا عليها، وإن تحت كل كلمة لمعانٍ جمة”.
المصادر والمراجع:
- الدكتور حمدي شاهين: نظرات في رسالة بين الأمس واليوم للإمام البنا.
- الإخوان ويكي: رسالة بين الأمس واليوم.
- موقع المرسي: مفارقات الثورة والإصلاح عند الإخوان المسلمين.
- الشيخ محمد حسين عيسى: رسالة بين الأمس واليوم.
- عامر شماخ: واجبات الأخ المسلم في ضوء رسالـة (بين الأمس واليوم).