أشعر بالحرج وأنا أتحدث عن زوجي ذلك الإنسان النبيل الذي أحسب أنه بالنسبة لي رزق لم لكن أستحقه. فهو في العبادة صوّام قوّام كثير الذكر والطاعة لله عزوجل، ومع الناس ماء عذب فرات يحبه الكبير والصغير، وفي الخير بشتى صوره لا يكل عنه ولا يمل.
إنما الذي جعلني أكتب بعد تردد طويل هو ذلك الجانب المنسي من حياة زوجي، ألا وهو أمر البيت والأولاد.
فزوجي بحكم ارتباطه بإحدى الجمعيات الإسلامية كثيرًا أو دائمًا ما ينشغل عن بيته وأولاده، وأنا هنا لن أتكلم عن نفسي برغم أنني أول المتضررين من ذلك الغياب الطويل، إنما الذي يؤلمني أشد ما يكون الإيلام هم الأولاد الذين اسْتأمننا الله – عز وجل- عليهم، إنهم أشبه ما يكونون بالأيتام.
فرغم ما حَبَاهم الله – عز وجل- به من ذكاء وتفوق وأساسيات لخلق كريم يغبطهم عليه كثير من الناس، فإنّهم كل يوم يقلّون عن سابقه علمًا وخلقًا ودينًا، حتى القرآن الكريم الذي كانوا يحفظونه أوشكوا على نسيانه والتفلت تمامًا لقلة المعين والمراجعة، كذلك الدراسة فبعد أن كانوا من الأوائل أصبحوا يكتفون بالنجاح. ناهيك عن الألفاظ الدخيلة والاهتمامات التافهة والصحبة غير الصالحة وهي كُلها مدخلات متسارعة جديدة على حياتهم.
كل هذا وزوجي – حفظه الله- مشغول على الدوام في الدعوة وشتى صنوف الأعمال الطيبة، ناهيك عن عمله الوظيفي ولوازمه، وكلما نبهته أظهر تأثرًا آنيًا ووعد خيرًا ثمّ ما تلبث أن تعود الأمور لسابق عهدها.
وأحيانا يستجيب لاستغَاثاتي واستجداءاتِي من أجل الأبناء، لكنه لا يستديم على ذلك أكثر من عدة أيام ثم يعود لانشِغالاته حتى استسلمت أنا وهو للأمر الواقع بالنسبة لأولادنا.
وأنا الآن حائرة بين أن أشتد في الإلحاح عليه في أمر أبنائنا والاهتمام بهم، وهذا ما يجعلني أخاف أن أكون قد منعته عن خير كان يفعله، وبين أن أتركه يفعل ما يشاء على أن يترك أبناءه هكذا بلا رقيب ولا مؤدب.
إنني أتحرج فعلا من الحديث عن هذا الموضوع لولا أنني رأيت بعض صديقاتي ممن يصارحنني بمثل هذا الموضوع في بيوتهن فأحببت أن تكون شكواي لي ولغيري.
الإجابة:
لا يُمكن جمع كل التحديات التي تُواجهنا مع أبنائنا في سلة واحدة وإرجاعها كلها لسبب واحد، لأن هذا لا يتفق مع المنطق الحاكم للأمور، فبعض التحديات تنتج من طبيعة الشخصيات أو بسبب طبيعة المرحلة العمرية أو النوع، وبعضها يرتبط بالظروف الأسرية، وشكل العلاقة بين الزوجين.. وغيرها من الأسباب، نقول هذا حتى نساعدك على فهم الأسباب الحقيقية للمشكلة، فلا تصرفي جهدًا في اتجاه على حساب الآخر. بل نأخذ كل الأسباب ذات القدر من الاهتمام والمعالجة.
دعينا نتساءل عن تلك الفترة التي تميّز فيها الأبناء دراسيًّا وخلقيًّا ودينيًّا هل كان حينها الأب متفرغًا للأبناء أكثر أم كان منشغلا حينها أيضا؟ نطرح هذا التساؤل للتنبيه على أنّ انشغال الأب ربما ليس السبب الوحيد لذلك التغير الذي طرأ على الأبناء.
ومن ثم فإننا ننصحك أن تفكري في أسباب كل تحدٍّ مع الأولاد بشكل منفصل، حتى إن كان بينهم قواسم مشتركة؛ جانب الدراسة، وجانب الخلق، وجانب القرآن، وجانب الصحبة، لتفهمي ما الذي تغير في كل جانب منهم على حدة.
دعينا نقف – أيضًا- على ما مررتِ عليه سريعًا وهو أنك “لن تتكلمي عن نفسك رغم كونك أول المتضررين من غيابه”، فلا تستهيني بمساهمة هذا الجانب في شعورك بالمشكلة، فلا تغضي الطرف عن افتقادك زوجك لأنه قد يكون السبب وراء ضجرك العام وشُعورك بالإحباط وعدم قدرتك على حل مشكلات الأولاد، كما أنّ شدة افتقادك له – أيضًا- جعلك تعتقدين أنه السبب الرئيسي وراء مشكلات الأولاد أو أنّ تواجده هو الحل الوحيد، لذلك يجب أن تصلحي ما بينك وبين زوجك وتُخبريه بافتقادك له، لأنّ إصلاح هذا سيحسن من الوضع بشكل عام.
لا نقول ما فات لنعفي الأب من مسؤولياته، فلا نرى موضعًا لتطبيق حديث رسول الله: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” أجل من هذا، وإن كان ينطبق على حُسن الخلق، كما يكون في معاملة الرجل خارج بيته فالأولى به أهله، كذلك علمه ومجهوده وتربيته ومساهمته في الخير خارج المنزل يجب أن يكون لأهل البيت منها نصيب.
والفهم الجيد للإسلام لن يتأتى إلا بمثل هذا الحرص على أهل البيت وفلاحِهم، فالمتأمّل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- وحاله وسط أهل بيته عندما كان يحل العشر الأواخر من رمضان يفهم هذا، كان يُحيي الليل ويوقظ أهله معه لإحياء هذه العشر، كما جاء أمر الله في القرآن الكريم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}، وجاء في سورة التحريم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}.
فمن سيَسعى لتطبيق هذه الآيات وهذا الحال لن يجد لذلك سبيلا، إلا بحمل الهم والتدبير والتواجد والمتابعة ودوام المصاحبة والتذكير لأهل بيته.
ولكننا نقول في الوقت نفسه أنّ بعض الآباء ينشغلون عن بيوتهم لهثًا وراء الدنيا، وبعضهم ينفق فائض وقته على المقاهي برفقة الأصدقاء، فالحمد لله الذي شغل زوجك بالدعوة والخير، وهذا في حد ذاته قد يكون سببًا لحفظ الأبناء وصلاحهم. ويمكنك دائمًا تذكيره بتجديد نيته كلما انشغل عنهم أملًا في تكرار حفظ الله لهم كما حفظ مال الغلامين لأنه: {كَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} كما جاء في قصة موسى والخضر في سورة الكهف، وأنت – أيضًا- كلما غاب أو تأخر زوجك انشغالًا بالخير احتسبيه عند الله واسأليه العوض بالبركة والحفظ في أهله.
أيضًا من الأمور الجيدة، اعتراف زوجك بأهمية دوره ومحاولته بذل جهد مع الأبناء، وإن كان متقطعًا وغير مستمر إلا أنه دليل على فهمه واعترافه بأهمية دوره وإن خانه التدبير لذلك.
وانتبهي أُختي السائلة لعدة أمور مع زوجك، منها ألا تُكلفيه وتطلبي منه أمورًا كثيرة فوق طاقته مع الأبناء فيصعب عليه الأمر أكثر، فالتّدرج سُنّة كونية تُعين على التقدم والتغيير، ومن ثمّ يجب ألا تتوقعي انخراطًا كاملًا من زوجك وتحمل جميع الأعباء معك من البداية، بل تخيّري خطوات قليلة صغيرة واطلبيها منه، بشكل مباشر. ثم زيديها مع الوقت.
تعلمي كيفية خلق كفاءة في الوقت، لا تطلبي من زوجك قضاء أوقات كثيرة ولا تتوقعي أن تأتي الفائدة عند قضاء أوقات طويلة، بل اطلبي منه وقتًا قليلًا لكن ثابتًا، بعضه يومي أو أسبوعي وبعضه شهري كما اطلبي منه وقتًا سنويًّا للسفر مع الأسرة أو خوض تجارب جديدة، اطلبي منه أن يتفرّغ لكم تمامًا في هذه الأوقات، وأحسنوا التخطيط لها.
كما يمكنك أن تقترحي عليه أن يصطحب الأبناء معه في أنشطة الجمعية التي يعمل بها كلما أمكن، مما يتيح تواجده معهم بشكل أكبر كما يشغلهم ويعرفهم بالخير وأهله.
بشكل عام أحسني الطلب، وامتني للقليل من الجهد المبذول واخْلفيه ما استطعت خيرًا. ولا تظني أن طلبك منه الاهتمام بأمر الأبناء يعني منعه من الخير، لا تربطي بين الأمرين، فليس معنى أن يهتم بأمر أهل بيته أن ينشغل عن خدمة دينه، الأمر لا يتطلب أكثر من فهم جيد وموازنة وتخطيط وحسن تدبير، فلم يكن أحد أكثر انشغالًا وهمًّا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك كان يُمازح ويجالس ويُعلّم أهل بيته دومًا.