في ظل منغّصات الحياة وما تعيش فيه الأمة من انحرافٍ عن تعاليم الإسلام، وتسلّط البعض بقوة السّلاح والمال والمناصب، يشعر كثيرٌ من الناس بقهر الرّجال، وقد تزوغ العيون وتذهب القلوب إلى درجة اليأس والحسرة، وهو ما وصفه الله – سبحانه وتعالى – في غزوة الخندق، حينما رأى المسلمون الحشود والموت يُحيط بهم من كل جانب، قال تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10].
إلا أن المسلم الحقيقي المؤمن بشريعة ربّه، ربّما تُصيبه تدافع الأحداث وتسلط الباطل إلى الاستيئاس، لكن لا يجب أن يبلغ درجة اليَأْسِ والقنوط والجزع، التي قد تؤدي إلى الموت كمدًا، خصوصًا أن المشقّة تهون إذا شَعَرَ الإنسان براحة البال، التي هي من أهم نِعَم أهل الجنة، قال تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:2]، بينما الكفار، قال عنه جل وعلا: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
الفرق بين اليأس والاستيئاس
ظلمٌ مقابل عدل، وتعبٌ مقابل راحة، وهمٌّ مقابل فرج، وقٌهر مقابل قِسْط، وخٌنوع مقابل شجاعة، وحريةٌ مقابل استعباد، وسلبيةٌ مقابل إيجابية، مضادات كثيرة ومتلازمات لحياة الإنسان، لكن الإسلام حرص على نشر روح الإيجابية وعدم الاستسلام لحوادث الدهر أو الانهيار في بحور السلبية التي لا تأتي إلا بدمار الأفراد والمجتمعات.
والفرق بين اليأس والاستيئاس كبير، فالأول عرّفه الداعية شريف عبادي، بأنه: “فقدان الأمل في نصر الله، ومرضٌ يُصيب ذاك العبد المأفون الذي قايس بين علمه وعلم ربه، فلما رأى ضيق خياراته ووعورة الطريق وقلة السالكين حسب أنّ الله محصور فى خياراته وآرائه، وأن الله يحتاج إلى الأسباب ليصل إلى النتائج”.
أمّا الاستيئاس فهو: “ألا يجد العبد طريقًا إلى حل المشكلة، ولكن يعرف ويُوقن أنّ لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق”، أي لله حلول أكثر من أنفاس المخلوقات في السموات والأرض والبحار والأنهار والجبال، فالعبد هنا يائس من آرائه وفكره، مُوقن في ربه وواسع فضله وعلمه” (1).
والله – عز وجل – يصف الحالة وعلاجها للمؤمنين في قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186].
استيئاس الرسل في القرآن
الاستيئاس هو انتظار النّصر مع المعاناة دون فقدان الأمل، وهي الحالة التي مرّ بها كثيرٌ من الأنبياء والرسل في دعوة قومهم، قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
وهو المعنى الذي حاول يعقوب – عليه السلام – بثه في نفوس أبنائه بعدم الاستسلام إلى اليأس والأخذ بالأسباب حينما ضاع يوسف وأخوه معًا، فقال: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
لكن، لماذا استيأس الرسل؟ يقول الشيخ الشعراوي: لأن حرصهم على تعجُّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون: “متى نَصْرُ الله؟”.
وإن إبطاء النّصر يُعطي غرورًا للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول، وأيضًا يتضاعف غَمُّ الكافرين به (2).
صبر الأنبياء
وضرب الأنبياء والرسل أروع الأمثلة في الصّبر، رغم ما آلمهم من عنتٍ وتجبّرٍ حتى صرخ منهم من قال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، لشدة ضعفه أمام قومه، وعدم قدرته على حماية ضيفه.
فالنّوائب لا تتعمد أهل الحق لتثبيطهم أو نشر اليأس في نفوسهم، لكن لاختبار إيمانهم وإيجابية عملهم، فنوح – عليه السلام – ظلّ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ما يأس ولا هرب وما قنط وما توقف عن العمل أو الدعوة أو الأخذ بالأسباب، بل ظل يعمل ويستحدث وسائل جديدة، ويتمنى مع تغير الأجيال أن يأتي جيل يُؤمن بدعوته، مع رؤيته أنّ الآباء يُورثون أبناءهم الكفر وألا يؤمنوا بدعوة نوح، ومع ذلك عمل حتى آخر لحظة.
وإبراهيم – عليه السلام – الذي جهر بالدعوة في العراق فجابهه أهلها بكل أنواع الظلم والكفر -حتى أباه – ومع ذلك، لم يهدأ وظل يعمل ويدعو حتى وصل به الأمر أن ألقوه في النيران لولا عناية الله.
وحينما خرج توجه إلى فلسطين داعيًا قومها إلى الحق، ثم سافر إلى مصر والحجاز حتى أتاه اليقين.
وهذا لوط – عليه السلام – لم يسكت ليلًا أو نهارًا يدعو قومه الذين جاءوا بأخبث الأعمال، لكنّه كان يطمع في أن يؤمنوا ويعودوا إلى رشدهم قبل أن تحل عليهم لعنة الله.
وزكريا ويحيى وعيسى، الذين انتهى بهم الأمر إلى القتل على يد بني إسرائيل رغم ما جاؤوا به لهم من خيري الدنيا والآخرة.
ونبينا محمد – صلوات الله عليه وسلامه – الذي قُوبلت دعوته – مُنذ دعا لها من فوق جبل الصفا – بالعنت من داخل مكه وخارجها، وظل في سجالٍ وألم لما رآه من قتل أصحابه وعجزه عن فعل شيء إلا أن يقول: “صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة”، وظلّ كذلك مع أصحابه حتى جاءه الأمر بالأخذ بالقوة لحماية الدعوة، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
أسباب اليأس والإحباط
كثيرٌ من الناس يُصيبهم اليأس والإحباط والقنوط، وتختلف درجته من شخص إلى آخر وفقًا للأحداث وشدتها، لكنّ المسلم القوي لا يتركه يتسرب إلى قلبه أبدًا، لأنه يُدرك أن كل شيء في الكون بين الكاف والنون، وأن الأمر كله لله.
غير أن هناك البعض ممّن يُصيبهم الإحباط، يلجأون إلى التخلص من حياتهم، لضعف الوازع الديني والجهل بالله – سبحانه وتعالى – حيث عبر عن ذلك ابن عادل الحنبلي بقوله: “القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور:
أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادرًا عليه.
وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالمًا باحتياج ذلك العبد إليه.
وثالثها: أن يجهل كونه تعالى، منزهًا عن البخل، والحاجة.
والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضلال” (3).
ومن الأسباب – أيضًا – ما يلي:
- استعجال الإنسان الحصول على النتائج ووزنها بموازين الأرض وليس موازين السماء.
- التعلق بالأسباب وأنه إن لم تجدِ فيصيبه الإحباط دون الوضع في الاعتبار أن للكون رب يدبر أموره.
- تعلق قلب العبد بالدنيا فيحزن لما يصيبه منها والحزن على فواتها، بكل ما فيها من جاه.
- السلبية وضعف الهمة والاستسلام للواقع وضعف الرغبة في التغيير.
- ويقول محمد بن إبراهيم الحمد: “اليأْس من الإصلاح يقع فيه كثير من الناس، فإذا عاين الشرور المتراكمة، والمصائب، والمحن، والفتن، ومن الفرقة والتناحر والاختلاف الذي يسري في صفوف المسلمين، يأس من الإصلاح، بل ربما ظنَّ أنَّ التغيير مستحيل” (4).
علاج اليأس وفك الكرب ونيل الأجر
يقول الشهيد سيد قطب: “تلك سُنة الله في الدعوات، لا بُد من الشدائد، ولا بُد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النّصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرًا ماحقًا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير” (5).
ولقد حرص العلماء على توضيح معنى الاستيئاس للمسلمين، كونه مقبول ومشروع، فالرسل – عليهم السلام – قد يصلوا إليه، لأن الحياة مليئة بالهموم والصعاب والأحزان، وكثيرٌ من الأوقات يعلو الباطل ويُظلم الحق وأهله، لكن الله – سبحانه وتعالى – جعل أشد الأوقات ظلمة يعقبها الفجر، وحين تشتد الكُربات يقترب الفرج، وحين يتملك النفوس الإحباط من شدة العسر وتأخر النصر ومعاندة المكذبين ومحاربتهم، يمنّ الله بالروح والتنفيس عن المؤمنين والتمكين لهم، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5- 6]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: “واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا] (6).
والمسلم الحقيقي يجد اليقين في داخله، فصاحب الثقة بالله تعالى لا يهتز يقينه ولا يتزعزع إيمانه حتى وإن رأى تكالب الأمم واشتداد الخطوب، لأنه يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن العاقبة للحق وأهله وأن المستقبل لهذا الدين: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما]. هكذا يعيش المسلم بروحه وقلبه فلا يهتز للخضوب ولا يستسلم لليأس أو القنوط من رحمة الله، فعليه استصحاب الصبر معه في كل حياته.
ومن القواعد المهمة التي أكد عليها العلماء أن صِدق المؤمن في انتمائه لهذا الدّين وعمله لنصرته والتمسك به قولا واعتقادا وعملا باستقامة على منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والوقوف عند حدود الله تعالى، هو مفتاح النصر والتماس الفرج (7).
المصادر
1. فرق بين اليأس والاستيئاس: 22 أغسطس 2013،
2. محمد الجبالي: آية شغلتني شغلا، ملتقى أهل التفسير، 29 أغسطس 2013،
3. ابن عادل الحنبلي: اللباب في علوم الكتاب، جـ1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998.
4. أسباب اليأْس والقنوط:
5. سيد قطب: في ظلال القرآن الكريم، تفسير سورة يوسف، آية 110.
6. محمد جمال: يأس أم استيئاس؟، 1 مايو 2018،