إنّ الوهم الذي يحمله الإنسان في صدره له أثر كبير في سلوكه، فقد يتحول إلى عقيدة تُوجّه السلوك العملي للإنسان، وتغيّر مواقفه تجاه الأحداث التي يقابلها في رحلة الحياة، ويصبح هذا الإنسان أسير ما يتوهّمه، ويترتب على ذلك من الأضرار الشيء الكثير.
ولأن الوَهْم يُعد حالة إدراكية غير صحية تسيطر على النّفس وتؤثر في السلوك سلبًا، فإننا سنتعرض من خلال هذا الموضوع، إلى مفهومه، وبيان مصادره، وأسبابه، والأساليب التربوية لعلاجه من المنظور الإسلامي.
مفهوم الوهم
جاء معنى الوهم في لسان العرب لابن منظور بأنه “مِنْ خَطَرَاتِ الْقَلْبِ، وَالْجَمْعُ أَوْهَامٌ وَلِلْقَلْبِ، وَهْمٌ. وَتَوَهَّمَ الشَّيْءَ: تَخَيَّلَهُ وَتَمَثَّلَهُ، كَانَ فِي الْوُجُودِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ: تَوَهَّمْتُ الشَّيْءَ وَتَفَرَّسْتُهُ وَتَوَسَّمْتُهُ وَتَبَيَّنْتُهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ فِي مَعْنَى التَّوَهُّمِ؛ فَلَأْيًا عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ؛ وَاللَّهُ – عَزَّ وَجَلَّ – لَا تُدْرِكُهُ أَوْهَامُ الْعِبَادِ”.
وفي الاصطلاح: ما يقع في الذهن من الخاطر، وهو قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدماغ، من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات، كشجاعة زيد وسخاوته، وهذه القوة هي التي تحكم بها الشاة أن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه، وهذه القوة حاكمة على القوى الجسمانية كلها مستخدمة إياها استخدام العقل للقوى العقلية بأسرها، وهو إدراك المعنى الجزئي المتعلق بالمعنى المحسوس.
ومن وجهة نظر فلسفية: هو كلُّ خطأ في الإدراك الحسي أو في الحكْم أو في المحاكمة المنطقية بشرط أن يعود هذا الخطأُ طبيعيًا بمعنى أن الذي يرتكبه يكون قد خدعتْه المظاهر، وهو حالة إدراكية يتعرض لها الإنسان بشكل أو بآخر بما جبلت عليه نفسه من قبول الأوهام وبناء السلوك عليها، ونتيجة لعدم اشتمالها على دلائل وحجج عقلية فإن قوتها اليقينية تهبط إلى مستوى يجعل السلوك ذاته المنبثق عنها متصفا بالعشوائية وعدم المنطقية.
وقد تمتد مراحل تشكل هذا الوَهْم من مجرد فكرة إلى سلوك، فهو بما يتمثله من أفكار يقدم للجوارح الصورة التوضيحية الأولى لمسار خريطة السلوك الذي سيعتمده هذا الواهم في حياته بما يتناسب والأفكار الموهومة المتبناة ابتداء.
على أن تَشكُّل هذه الأفكار كان بالاعتماد على المحسوسات الموجودة أصلًا، بمعنى أن المادة الخام المشَكلة للوَهْم معتمدة بالأساس على محسوسات واقعية لكن فيما بعد حدث تطورًا لهذا الخاطر نقله من جزئية متعلقة بالواقع إلى تفاصيل أصابها الخطأ في إحدى مراحل تشكل هذه التفاصيل.
فقد يكون الخطأ ناجمًا عن إدراك هذه الجزئية الأولى- الحقيقية- أو خطأ ناجم عن عملية تحليل هذه الجزئية وتفسيرها أو خطأ متعلق بعملية الحكم عليها. ومن ثم ينجم عن هذا الخلل حدوث الوَهْم في التصور، وبالتالي فهو في السلوك الذي يعد مترجمًا لمنهج الإنسان الفكري والعاطفي والسلوكي.
وهناك مجموعة ألفاظ تتعلق بمفهوم الوَهْم، منها: الظن، والخيال، والسهو، والكذب، والخرص، والشك، والغفلة، والجهل، والهوى، والشعور، والّلبس.
مصادر الوهم وأسبابه
ويتشكل الوهم من مجموعة مصادر وأسباب، يُمكن إجمالها في النقاط التالية:
- الحواس: وهي لها قدرات محدودة، فالبعد المكاني وتشابه المظاهر السمعية والبصرية يُوقعنا في الوَهْم، كما أن الاكتفاء برؤية المظاهر هو أحد أسباب الوَهم حيث تُرينا حواسنا الواقع على غير ما هو (الوَهْم الإدراكي) فالوهم إذًا، إدراك مشوه تقوم به الحواس.
وهذا ما حدث في موقف بني إسرائيل من سحرة فرعون، حيث خُيّل إليهم أن العصي ثعابين تتحرك، فلما كان ما كان من معجزة سيدنا موسى- عليه السلام- تبيّن للجميع حال وهمهم وأدرك السحرة الفجوة الحقيقية بين الوَهْم (سحرهم) والحقيقة (معجزة العصا) فرعبوا وأدركوا الفرق فأنابوا إلى خالقهم وآمنوا.
- الفكر أو الذهن: للفكر مطباتُه وتعقيداتُه وفخاخه، فالفكر يحفظ الذكريات والصور ويجمدها في لحظة معينة، ويحبس حقيقةً ما في سجن العقيدة، كأن الواهم يتلاعب بسلوكياته بحيث يجعلها خادمة لمعتقد آمن به سلفًا، ونستدل على ذلك بموقف المرائي في الدين الذي قد يموت في أرض المعركة ظنًا منه أنه خادم للدين في وقت هو فيه حقيقة خادم لمعتقدات تقوم على العجب وحب الذات)، عن أبي موسى قال: “جاء رجل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل حمية ويقاتل شجاعة ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله” (البخاري).
- اللغة: قد تسهم اللغةُ في الوَهْم أيما مساهمة بتشويهها الواقع من خلال إعطائها معلومات ناقصةً أو خاطئةً، فكما ترى العين في بعض الأحيان الواقع على غير ما هو عليه، كذلك تُصور اللغةُ الواقع على غير حقيقته، وفي كثير من الأحيان يأتي الخطأُ والوَهْم من قُصورِ لغوي عن طريق عدم قدرة مرسل الرسالة على التعبير أو عدم قدرة متلقِّي هذه الرسالة على الفهم، أو عجز اللغة نفسها عن التعبير.
- النفس: تَستخدم النفس الوَهْم أداةً لكي تُحافظَ على بقائها ولكي تتحقَّقَ، فالرغبةُ أحد أسباب الوَهْم؛ ذلك أن الإنسان لديه استعداد لتقبل أي شيء يقترح ويسبب دهشة وإعجابًا يرضي الذهن إلى حد يجعله يستسلم لهذه الانفعالات السارة، حتى لا يعود لديه مجال للاقتناع بأن لذته قد لا يكون لها أي أساس.
والوَهْم يرينا العالَم كما نرغب نحن أن يكون، يقول فرويد عنه: “هو انتصار الرغبة على الواقع”، ويقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون عنه إنه “منسوج من الرغبة ومن الجهل”، فالوَهْم، بالإضافة إلى أنَّه انحراف معرِفي، هو انجِراف عاطفي، والواهم في وضع مزدوج: فهو من جهةٍ يعد ضحيةُ وهمه، ومن جهة أخرى يعد متواطئا مع وهمه برفضه التحرر منه.
والنفس إذا أحبت شيئًا سعت، فالوهم يسجن الإنسان في المظاهر- كما يرى أفلاطون- في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية، فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضًا مذمومًا وفعل ذلك كان آثمًا مثل أن يبغض شخصًا لحسده له، فيؤذي من له به تعلق إما بمنع حقوقهم، أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه، فيفعل لأجله ما هو محرم أو ما هو مأمور به من قبل الله فيفعله لأجل هواه لا الله.
وتشير النصوص القرآنية إلى أن الوَهْم يُمكن أن يعود إلى الأسباب الآتية:
- التقليد: ويعنى به اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدًا الحقيقة فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل. وانتقل هذا السلوك التقليدي كظاهرة تعبدية؛ قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف:22). ورد الله عز وجل عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (البقرة: 170).
- التعجل وعدم القدرة على ضبط الانفعالات. قال تعالى { وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا}(الإسراء:11).
- الجهل: فالاستمرار بالجهل والإصرار عليه من خلال رفض الحق والإعراض عنه سبيل إلى اتباع الوهم وتمكنه من العقل والنفس والشعور. قال تعالى { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [ النجم: 28].
- اتباع الهوى: فالهوى يشكل المراد الخفي لما نحب ونرغب، كما أنه يستلذ بوجود ما يعزز ويؤكد تمكنه من الشخصية ومن ذلك الأوهام، فكلما ازداد الهوى تمكنًا من صاحبه ازدادت مساحة الأوهام عمقًا في الفرد. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}(النساء:135).
- الكبر والغرور: وقد بينه الرسول- صلى الله عليه وسلم- بأنه رفض الحق، فالكبر يجعل الفرد يضخم أوهامه التي تستند إلى تقديره العالي لذاته. قال تعالى {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}(القصص:39).
- غياب الحقيقة، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا}(النساء: 157). وهذا الغياب للحقيقة يفتح المجالات أمام تساؤلات عدة؛ فتكثر الأسئلة وتتنوع لتزيد المساحة المعتم عليها أو المشوهة، ومن ثَمّ لا يتحقق الإيمان الكامل بالفكرة المعروضة.
- ضعف الحجة والبرهان وغياب الدليل والمنطق. يقول تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ} [ النجم: 23]. وهذا يعني أن عرض فكرة معينة دون الاستدلال عليها بدليل قوي وحجة دامغة سيمنح الآخر المستقبل لهذه الرسالة الاتصالية أن يتوهم في تحليله لهذه الرسالة.
- البيئة والظروف الاجتماعية: فالبيئة الاجتماعية تشكل إحدى وسائل التوجيه والضغط على المقيمين في هذه البيئة والمتعرضين لمؤثراتها، فالإنسان بطبعه يميل إلى الجماعات وهذا يعني أن اجتماع فئة معينة على وهم معين- أيًا كان نوعه- يمنح الوهم قبولا مجتمعيا أوليًا ومن ثم ونتيجة لتضافر بقية الأسباب المعينة على تشكل الوهم قد يصير القبول المجتمعي للوهم أكثر عمقًا وشمولًا. وقد نبه الحق سبحانه إلى هذا الخطر بقوله: {قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[ المائدة: 100].
ومن جهة أخرى فإن القهر الاجتماعي والاستبداد السياسي، والظلم والخوف من المجهول واليأس من التغيير إلى الأفضل، والحرمان والإحساس بالعجز، وسيطرة الفكر الذي يسلب الإنسان حقه في أن يكون إنسانًا فاعلًا مؤثرًا، يصيب ويخطئ، يحوله إلى إنسان خائف مذعور، ويقنعه أنه مجرد شيء لا حول له ولا قوة، كل هذا وغيره يعد أسبابًا لسيطرة الخرافات والأوهام، وانتشارها، وتحولها من مجرد عبارات تقال، أو ممارسات عارضة، إلى سلوك حياتي ونمط تفكير.
أساليب تربوية إسلامية لعلاج الأوهام
الوهم مرض معقد التركيب، متعدد الأبعاد؛ لذا فإن معالجته تحتاج إلى تصحيح الفكر، وتزكية النفس من آثاره السلبية ليسلم بعد ذلك السلوك ويرد إلى الصواب، ونجد في التربية الإسلامية أساليب كثيرة في التعامل مع هذا المرض، منها الوقائي ومنها العلاجي، ومن هذه الأساليب:
- تنمية العلاقة مع الله وأثرها في الوقاية من الأوهام ومعالجتها: فللوهم حالات نفسية خطيرة تبث في روع الواهم الخوف والقلق واليأس والحزن والإحباط والتردد والعجز والكسل.. وقد يقبع الإنسان سنوات طويلة في سجن أوهامه مشلول الإرادة ضعيف الإنجاز. والتربية الإسلامية إذ ذاك توجه إنسانها من بين ما توجهه- إلى ضرورة ديمومة اللجوء إلى االله سبحانه بالذكر والدعاء لما فيها من أثر في غرس الطمأنينة والسكينة اللازمة لتهدئة حالات الخوف من المخاطر والتي جبل عليها كل الخلق بلا استثناء.
- تزكية القدرات العقلية وتنميتها بشكل دائم لتتوجه نحو (الصواب المعرفي): ويتحقق ذلك بتزكية مسار الفكر وبتنمية القدرات العقلية على التوجه للأهداف التي خلقت لأجلها. وتزكية أشكال التفكير، حيث يدرب إنسان التربية الإسلامية على النقد الذاتي، والتجديد، والتفكير العلمي بدل الظن والهوى.
- المسارعة إلى توجيه الفرد قبل أن يشرع في بناء الوَهْم، وحادثة صفية زوج النبي تؤكد ذلك؛ فعن صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ- رضي الله عنها- قالت: “كان النبي- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ ليلا، فَحَدَّثْتُهُ، ثمَّ قُمْتُ لِأَنْقَلِبَ، فقام معي لِيَقْلِبَنِي -وكان مسكنها في دار أُسَامَةَ بن زَيْدٍ-، فَمَرَّ رَجُلاَنِ من الأنصار، فلما رأيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسرعا، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: على رِسْلِكُمَا، إنها صَفِيَّةَ بِنْتُ حُيَيٍّ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، فقال: إن الشَّيْطَانَ يَجْرِي من ابن آدم مَجْرَى الدَّمِ، وإني خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شرًا- أو قال شيئًا-“. (متفق عليه).
- مواجهة الواهم بتحديد الوهم المعتقد فيه تحديدًا دقيقًا، فعن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: “دخلتُ على رسولِ اللَّهِ- صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّم-، وَهوَ على حصيرٍ، قال: فجلَستُ، فإذا عليْهِ إزارٌ، وليسَ عليْهِ غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جنبِهِ، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ، نحوِ الصَّاعِ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفَةِ، وإذا إِهابٌ معلَّقٌ، فابتدرتُ عينايَ، فقال: ما يبْكيكَ يا ابنَ الخطَّابِ؟، فقلتُ: يا نبيَّ اللَّهِ، ومالي لا أبْكي؟ وَهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جنبِكَ، وَهذِهِ خزانتُكَ لا أرى فيها إلَّا ما أرى، وذلِكَ كسرى، وقيصَرُ في الثِّمارِ والأنْهارِ، وأنتَ نبيُّ اللَّهِ وصفوتُهُ، وَهذِهِ خزانتُكَ، قال: يا ابنَ الخطَّابِ ألا ترضى أن تَكونَ لنا الآخرةُ، ولَهمُ الدُّنيا؟ قلتُ: بلى. (رواه ابن ماجه).
وهنا يتضح توجيه النبي- صلى الله عليه وسلم- لرؤية سيدنا عمر المتعلقة بمعيار الترف المادي الذي يرجو أن يكون عليه حال المسلمين ويجد أنه من المستلزمات الواجب توفرها في حياة رسول الله- صلى االله عليه وسلم-، في حين أن رسول الله- صلى االله عليه وسلم- يجد في الرضا بما هو آت الراحة الدائمة، كما أن الترف الدنيوي ليس معيارًا واجب التحقق في حياة المسلمين.
- بيان خطر الوَهْم بتحديد العواقب المترتبة عليه، فعن أسامة بن زيد بن حارثة- رضي الله عنهما- قال: بعثنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الحرقة من جهينة. فصبحنا القوم. فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم. فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله. فكف عنه الأنصاري. وطعنته برمحي حتى قتلته. قال فلما قدمنا. بلغ ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال لي “يا أسامة! أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟” قال قلت يا رسول الله، إنما كان متعوذًا. قال، فقال: “أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟” قال فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. (رواه مسلم).
ومن الحديث يتضح موقف سيدنا أسامة لما قاده وهمه في تصور ما لم يكن فما كان من نتيجة ذلك إلا أن يوجه إليه خطاب حاد من رسول االله- صلى االله عليه وسلم- لدرجة أنه تمنى لو كان إسلامه عقب فعلته ليمحو ما تقدم، فمعرفة الإنسان تتقيد بما يظهره اللسان لا بما يتصور من خواطر وانفعالات تدور في قلب الآخر.
- النظر إلى مبررات الواهم على أنها قناعات: ولا بُد من التعامل معها بأسلوب عقلي قائم على الحجة والبرهان.
- مخاطبة الواهم بأسلوب يعتمد على مخاطبة حاجاته الإنسانية: كما ورد في حديث الشاب الذي أراد أن يرخص له الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنا، فعن أبي أمامة- رضي الله عنه- قال: إن فتى شابًّا أتى النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال: “ادنه”، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: “أتحبه لأمك؟”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم”، قال: “أفتحبه لابنتك؟”، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتحبه لأختك”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”، قال: “أفتحبه لعمتك؟”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لعمَّاتهم”، قال: “أفتحبه لخالتك”، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه، وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصِّن فَرْجَه”، فلم يكن بعد – ذلك الفتى – يلتفت إلى شيء. (رواه أحمد بإسناد صحيح).
- التعامل مع الأخطاء الإنسانية معاملة مركبة وقائمة على تصحيح السلوك ابتداء من تصحيح الفكرة والتصور، وانتهاء بتصحيح السلوك ذاته، وهذا ما انتهجه النبي- صلى الله عليه وسلم- لما عدل سلوك النفر الثلاثة الذين غالوا في تعبدهم بصورة تخالف التصور الصحيح للعبودية.
فقد جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي.(البخاري).
إن الوهم مرض خطير إذا سيطر على الإنسان أفقده توازنه، وأبطل طاقاته، وقلل نجاحاته، وسيطر على سلوكه، فيحرمه من أن يعيش في سلام داخلي مع نفسه وسلام خارجي مع الآخرين. فعلى المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى بالدعاء أن يخلّصه من هذا المرض، وعليه أن يصارعه، ويزج بنفسه في الأعمال الناجحة، ويصحب الأسوياء من الناس الذين يساعدونه على التخلص من الأوهام، بسلوكياتهم السوية، كما أن عليه أن يتعلم الجسارة، دون اندفاع، ويبتعد عن التردد الذي هو أثر وخيم من آثار التوهم، إذا أراد أن يعيش سعيدًا في حياته، ومع الآخرين.
المصادر والمراجع:
- الوهم وأثره في السلوك الإنساني: دراسة نفسية تربوية إسلامية. د. انشراح أحمد توفيق. مجلة الجامعة الإسلامية للدراسات التربوية والنفسية. المجلد الثاني والعشرون. العدد الرابع، ص 39- ص 72. أكتوبر 2014. الجامعة الإسلامية- غزة.
- لسان العرب لابن منظور، على الموقع الإلكتروني.
- كتاب التعريفات للجرجاني. (ت 816 ھ).
- مصادر الوهم. محمد علي عبد الجليل.
- النظام الدولي الجديد بين الوهم والحقيقة. علي إبراهيم. مجلة العلوم القانونية والاقتصادية. مج 41، ع2، ص407، 1999.
- إلى من أسرته الأوهام. د. خالد السبت . تاريخ النشر : 3 جمادى الآخرة 1428ه.
2 comments
شكرا لكم بارك الله فيكم
جزاكم الله خيرا مودوع في المستوى