إنّ الولاء والبراء ركنٌ من أركان العقيدة، وشرط من شروط الإيمان، تغافل عنه كثير من الناس فاختلطت الأمور وكثر المفرطون، وهو من خواص ترابط وتلاحم المجتمع المسلم وحفظه من التحلل والذوبان في الهويات والمجتمعات الأخرى، بل تجعل منه وحدة واحدة تسعى لتحقيق رسالة الإسلام في الأرض.
ولأن الإيمان بالله وحب الأعداء لا يجتمعان في قلب رجل واحد، فيجب على كل مسلم يدين بهذه العقيدة أن يُوالي أهلها ويعادي أعداءها، وألا يتخذ الكافرين أولياء يحبهم ويتولاهم ويصافيهم، بل الواجب عليه أن يُبغضهم ويتخذهم أعداءً؛ لأنهم أعداء لله عز وجل.
مفهوم الولاء والبراء
الولاء والبراء أصل من أصول التوحيد، ثابت بلفظه ومعناه، لذا جاء مفهوم الولاء لغة بمعنى المحبَّةُ والنُّصرةُ والقُربُ، والولاء: اسم مصدر من والى، يوالي، موالاة، وولاء.
أما البراء لغة فجاء بمعنى التَّباعُدُ مِنَ الشَّيءِ ومُزايلتُه وانِقطاعُ العِصمةِ، يُقالُ: بَرِئتُ مِن فلانٍ، أي: انقَطَعَت بيننا العِصمةُ، ولم يَبْقَ بيننا عُلقةٌ، وأصلُ (برأ): يدُلُّ على التَّفصِّي والتَّباعُدُ مِمَّا يُكرَهُ مُجاوَرتُه.
وفي الاصطلاح، جاء الوَلَاء والبَرَاء بمعنى قريب من بعضهما وهو: مُوافَقةُ العَبدِ لرَبِّه فيما يُحِبُّه ويَرْضاه مِنَ الأقوالِ والأفعالِ والاعتِقاداتِ والذَّواتِ، ويَلزَمُ مِن ذلك المَحَبَّةُ والنُّصرةُ للهِ ولرَسولِه ودينِه وعامَّةِ المُؤمِنينَ (1).
لماذا الولاء والبراء؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “إن تحقيق شهادة أنّ لا إله إلا الله يقتضي ألا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحبّ ما أحبّه الله، ويبغض ما أبغضه الله”. والبراءة: مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله، وهذا أصل من أصول الإيمان” (2).
ومن ثمّ فإن الولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، وهو شرط من شروط الإيمان حتى إنّ العلامة ابن باز قال : “مَحَبَّةُ الكُفَّارِ وإعانتُهم على باطِلِهم، واتِّخاذُهم أصحابًا وأخْدانًا، ونَحوُ ذلك: مِن كبائِرِ الذُّنوبِ”.
وهذه العقيدة جزء من معنى الشهادة الواجبة للدخول في الإسلام، لأنّ النفي الموجود في شهادة (لا إلهَ إلَّا اللهُ) يقتضي البراءة من كل ما يُعبد من دون الله. وإذا التزم العبد المسلم بهذه العقيدة في دينه أذاق الله قلبه حلاوة الإيمان ولذة اليقين، وهو ما أكده عبد الله بن عباس فيما رواه عن أبي ذر حينما سأله الرسول-صلى الله عليه وسلم-: “يا أبا ذَرٍّ، أيُّ عُرى الإيمانِ أَوثَقُ؟ قال: اللهُ ورَسولُه أَعلمُ، قال: المُوالاةُ في اللهِ، والحُبُّ في اللهِ، والبُغضُ في اللهِ” (الطبراني) (3).
الولاء والبراء في القرآن والسنة
القرآن الكريم والسنة المطهرة هما المصدران والركيزتان الأساستان في تعرف المسلم على أحكام دينه، وقد نصّ القرآن في العديد من آياته على الولاء والبراء لأهميتهما العقدية، فقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 -56].
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].
وشدّد سبحانه على هذا المعنى بقوله :{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
وقد زخرت السنة المطهرة بالكثير من الأحاديث التي ترسم للمسلم طريقه الصحيح من خلال الوَلَاء والبَراء لدينه وللمسلمين، فيروي أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-قوله: ” ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورسولُه أَحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، وأنْ يُحِبَّ العبدَ لا يُحِبُّه إلَّا للهِ، وأنْ يُقذَفَ في النارِ أَحَبُّ إليه مِن أنْ يُعادَ في الكفرِ” (البخاري ومسلم والترمذي).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-في قوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، نزلت في مكاتبة حاطب بن أبي بلتعة ومَن معه من كفار قريش يحذرهم (رواه الحاكم) وقال: صحيح على شرط الشيخين).
العلاقة بين الولاء والبراء ونواقضه
يزعم بعض مَن ينتسب للإسلام أنه دين شعائر وعبادات ولا علاقة له بسياسة أو اقتصاد أو اجتماع أو غيرها، متناسيين أن الإسلام نظام شامل كامل متوازن تناول جميع مظاهر الحياة، ويطالبون بالسير خلف أعداء الله والأخذ بعقيدتهم في سبيل التقدم.
وهذا فهم معوج لمفهوم الإسلام يحاول أعداء الله منذ أدركوا أهمية هذه العقيدة أن يغيبوا هذه المعاني ويطمسوها. فكيف بمن ادعى ولاءه لدين الله وحبه لرسول الله ويتشدق بالأحاديث ويتغنى بالقرآن، وهو في الوقت نفسه مغموس بموالاة أعداء الإسلام، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.
إنّ الوَلَاء والبَراء متلازمان ومترابطان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فلا ولاء إلا ببراء، ولا حب لله ولرسوله وللمؤمنين إلا بعداوة من عادى الله ورسوله والمؤمنين. وهذا ما يجعلنا نذكر نواقض الولاء التي قد تخرج المسلم عن دائرة الولاء مثل استحلال دم المسلم أو عرضه أو ماله، أو تكفير المسلم لأخيه المسلم وهو يعلم في قرارة نفسه أنه مسلم، أو موالاة الكافر وإعانته على المسلم (4).
أسباب ضعف عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين
عاشت الأمة الإسلامية مجدها منذ البعثة، ولفترات طويلة كانت متمسكة بدينها وصحيح عقيدتها، غير أنّ عوامل الضعف كانت تعتريها بين الحين والآخر، ومن أسباب ذلك الضعف:
- غياب الخلاقة وتعطيل الحكم بما أنزل الله.
- غياب العلماء الربانيين وظهور علماء السلاطين.
- الجهل الذي أحاط بالأمة الإسلامية، سواء جهلها بواجباتها تجاه دينها وعقيدتها، أو جهلها الناجم عن أمية القراءة والكتابة، أو جهلها بحقيقة عدوها، وطبيعة تكوينه، ومنطلق تفكيره، رغم تحذير الله لهم من مغبة موالاتهم.
- ضعف التربية في البلاد الإسلامية، الذي كان له أثره في تمييع ولائهم وبرائهم عن طريق التشكيك والتشوية وحملات التبشير.
- غلبة الأَثرة وحب الدنيا والعناية بالمصالح الشخصية.
- أثر تيار التغريب في فصل الدين عن الحياة الثقافية والاجتماعية، وإحياء العصبيات الجاهلية والقوميات، وانتشار الاستشراق الذي أخذنا علومنا منه.
- ومن العوامل المهمة، الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية والانهزامية التي جعلتنا ننظر لأنفسنا باستصغار واحتقار وأننا لسنا كالغرب (5).
الأبعاد التربوية للولاء
يموج الكون بتيارات مختلفة أثرت على عقيدة الولاء والبراء عند المسلم، وهو ما يستلزم منه الفهم الدقيق لحقيقة الإسلام والإيمان العميق به، ولا يكفي أن يحدث الإيمان في قلب المؤمن، بل لا بُد من تفقده وتحسسه، وتعاهده بشكل دائم ومستمر، والعمل على تقويته وتعزيزه واستكماله، وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول لأصحابه: “هلمّوا نزدد إيمانًا”.
والتربية الروحية للولاء تأتي بإخلاص العبودية لله، وحسن التوكل عليه، وتحقيق معاني التقوى في نفس المسلم، مع تحقيق معاني الإيمان، وإعانة المسلم على طاعة الله ورسوله، بالإضافة لتحقيق شرع الله سبحانه، وبلوغ ولاية الله ومحبته ورضاه، والتثبيت على الحق (6).
كما كان موالاة الرعيل الأول من المسلمين لعقيدتهم ، له أثر واضح جلي على وحدة الفكر لدى الجماعة المسلمة، ذلك لأنّ وحدة المنهاج لأي أمة هي الركن الأساسي لوحدتها الشاملة، فكان الإبداع العلمي واعتماد التفكير الموضوعي وأبعاده سبيل نهضتها مع تفعيل دور العقل لما فيه صلاح الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، بالإضافة للبعد عن اتباع الهوى والتقليد الأعمى أو طمس معالم التفكير والتفكر.
هذا بخلاف الأبعاد النفسية والأخلاقية والاجتماعية التي تساعد على تقوية هذه العقيدة لدى الأمة الإسلامية فتهابها الأمم وتتقدم (7).
أبناؤنا وعقيدة الولاء والبراء
لا ينكر أحد مدى شدة الحرب التي تدور رحاها ضد الأمة الإسلامية عامة وشبابها خاصة، حيث يحاولون طمس الهوية الإسلامية وإضعاف الولاء والبراء لدينهم ببث كثير من المفاهيم المغلوطة، أو سحر الحضارة الغربية وتأخر بل وتخلف المسلمين، لذا وجب على الآباء والمعلمين والدعاة تبصير أبنائهم بالآتي:
- طبيعة المعركة التي تدور بين الحضارة الإسلامية وأعدائها، والوقوف على مراميها وأبعادها ومخططاتها.
- تربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة على مفاهيم الإسلام الصحيحة، وما نراه من أهالي غزة في هذا الصدد كبير وعظيم.
- التربية على الولاء تروم في الحقيقة تحصين الطفل من مخاطر الذوبان في هوية الآخر وقيمه، كما تؤهله للثبات على مبادئه، والاعتزاز بالانتساب لدينه والنهوض بواجباته.
- منع الأولاد من مشاهدة أو متابعة ما يبثه أعداء الإسلام من مفاهيم مغلوطة ضد الإسلام، بل وتمجيد ما يدعى أعداء الإسلام أنهم أبطال.
- تبيين ما يُبث في الرسوم المتحركة (أفلام الكرتون) من مفاهيم تخالف العقيدة، وتشجع على الفواحش والمنكرات.
- الاستعانة بقصص وسيرة الصحابة والسلف الصالح وإبراز غيرتهم على الإسلام والمسلمين ففيها القدوة الطيبة الصالحة (8).
المصادر والمراجع:
- تَعريفُ الوَلاءِ والبَراءِ لُغةً واصطِلاحًا: الموسوعة العقدية.
- ابن تيمية: الاحتجاج بالقدر، طـ5، المكتب الإسلامي، بيروت، 1986، صـ63.
- أهمية الولاء والبراء: الدرر السنية.
- زياد محمد حسن مسعود: الأبعاد التربوية لمفهوم الولاء والبراء في الإسلام، رسالة ماجستير كلية التربية-غزة، 2003، صـ34-44.
- زياد محمد حسن مسعود: المرجع السابق، صـ55-78 بتصرف.
- محمد أبو زهرة: التكافل الاجتماعي في الإسلام ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة، 1991م.
- محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ، ط ٦ ، دار الفكر ، بيروت، ١٣٩٣ه، ١٩٧٣م.
- حميد بن خبيش: التربية على الولاء والبراء، 29 جمادى الأول 1440هـ،