إنّ الوفاء بالوعد من أهم صفات المربي الناجح، وهو أدبٌ ربانيٌ، وخلقٌ كريمٌ، وسلوكٌ إسلاميٌ نبيلٌ، يمضي أداء المسلمِ بما التزمَ به؛ سواء قولاً أم كتابةً، والعهدُ لا بُدَّ من الوفاءِ به، ومناطُ الوفاءِ أن يتعلقَ الأمرُ بخيرٍ أو معروفٍ، وإلا فلا وفاءَ بعهدٍ في عصيان.
وهذه الصّفة النبيلة تميّز بها الأنبياء والمرسلون، فكانت خير معين لهم في دعوة الناس إلى الله- تبارك وتعالى-، لذا فإن المربي عليه الوفاء بالوعود التي قطعها على نفسه تجاه من يربيهم، حتى لا ينحرفوا عن الطريق، ويتخلوا عن المبادئ والأخلاق الطيبة.
مفهوم الوفاء بالوعد
ويُمكن تعريف الوفاء بالوعد من خلال معرفة معنى الوفاء الذي هو ضد الغَدْر، حيث يقال: وَفَى بعهده وأَوْفَى، ووفّى بعهده يفي وفاءً، وأوفى: إذا تمم العهد ولم ينقض حفظه، وفي الاصطلاح، فإنّ الوفاء هو ملازمة طريق المواساة، ومحافظة عهود الخلطاء، وقيل هو الصبر على ما يبذله الإنسان من نفسه، ويرهن به لسانه، والخروج مما يضمنه، وإن كان مجحفا به.
وهذا الوفاء يعني تعاقد بين طرفين أساسه وعد كل منهما أن يفي تجاه صاحبه بأمر من الأمور، ويقول ابن الجوزي- رحمه الله-: العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله فإذا عاهد العبد عليه وجب الوفاء به والوعد من العهد. وقال أيضًا: العهد وهو عام فيما بينك وبين الله وفيما بينك وبين الناس.
والوَفاء بالعهود أساس كرامة الإنسان وسعادته، وصفة من صفات الأنبياء والمرسلين والمربين الناجحين، وإحدى الصفات ومكارم الأخلاق التي أمر بها الله تعالى، وأمر بها الرسول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو إسحاق الزجاج: إنّ كل ما أمر الله به ونهى عنه من العهد، ويقول ابن كثير- رحمه الله- في تفسير قوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعنى: العهود.
وقال الضحاك بن مزاحم: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1] قال: ما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام.
الوفاء بالوعد في الإسلام
وجاءت الشريعة الإسلامية مؤكدة أهمية الوفاء بالوعد بين الناس، حيث أمر الله- عز وجل- به في عدة مواضع من القرآن الكريم فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1]، وقال جل شأنه: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [ الإسراء: 34].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91]، وقال ﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152]، وقال جل شأنه: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 95]، ومن هنا وجب على كل مسلم ومسلمة الوفاء بالعهود التي أخذها الله علينا وأخذناها على أنفسنا.
ونقض العهود من صفات المنافقين، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا) [الأحزاب: 15]، وهذه الآية نزلت في المنافقين وكانوا يُولون الأدبار ويفرون من الزحف، فعاهدوا الله ورسوله ألا يعودوا لمثله، غير أنهم نقضوا العهد وغدروا بالوعد وعاودهم جبنهم حينما دعوا لمقابلة أعداء الله في غزوة الأحزاب.
ووافقت السنة النبوية ماء جاء في القرآن الكريم بشأن الوفاء بالعهود، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “أدِّ الأمانةَ إلى من ائتمنَك، ولا تَخُنْ من خانَك” (صحيح أبي داود)، وقال في خطبته بحجة الوداع: “فمَنْ كان عندَهُ أَمانَةٌ فَلْيُؤَدِّها إلى مَنِ ائْتَمَنَهُ عليْها”.
وفي حديث لابن مسعود- رضي الله عنه-، قال: “القتل في سبيل الله يكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك، فيقول: من أين يا رب؟ وقد ذهبت الدنيا، فيقول: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوي به حتى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عنقه، فيصعد بها في نار جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها زلت فهويت فيهوي في أثرها أبد الآبدين”.
وحذّر النبي- صلى الله عليه وسلم من عدم الوفاء بالعهود، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤْتُمِنَ خَانَ” (متفق عليه).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ” (البخاري).
مجالات الوفاء بالوعود
وتعددت مجالات الوفاء بالوعد لدى المسلمين، فمنها ما هو مع الله، ومنها ما هو النبي- صلى الله عليه وسلم، ثم الوفاء مع الناس.
- الوفاء بعهد الله: فالله عز وجل أخذ علينا العهود والمواثيق وأمرنا بالوفاء بها ونهانا عن نقضها: وأول هذه العهود الإيمان به وإفراده بالعبودية ولا نشرك به أحد، يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾ [الأعراف: 172].
وقد بعث الله رسله مبشرين ومنذرين، وبهذا العهد مذكرين، فمن أطاعهم فقد وفي، ومن عصاهم فقد نقض عهد الله من بعد ميثاقه، والله تعالى ينكر على من لا يجيبه من بعد ميثاقه، فيقول: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الحديد: 8].
ويوم القيامة يوبخ الله تعالى الذين نقضوا الميثاق، على رؤوس الأشهاد فيقول: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ * أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [يس: 59-64].
- الوفاء مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فإذا نطق العبد بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وجب عليه أن يفي بمضمون تلك الشهادة لأنها إقرار وتعهد أن لا إله سوى الله تعالى الذي أخذه علينا في عالم الذر، والآن نقف مع الوفاء بعهد رسوله- صلى الله عليه وسلم-.
والوفاء مع النبي- صلى الله عليه وسلم- يكون بطاعته واتباعه والتمسك بسنته والعض عليها بالنواجذ فإن طاعته من طاعة الله يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80] بل إنه سبحانه جعل طاعته من موجبات الهداية فقال سبحانه: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54].
ولن يتحقق الوفاء بعهد الله إلا إذا تحقق الوفاء مع نبيه- صلى الله عليه وسلم- لذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى” (البخاري).
- الوفاء مع الناس: والمربي الناجح، لا بد من الوفاء بالعهود مع من يربيهم على الصلاح والتقوى، بل يكون كذلك مع جميع الناس؛ لأن الوفاء مع الله ورسوله يقتضي ذلك، يقول تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ ﴾ [النحل: 91، 92].
فالله سبحانه أمرنا بالوفاء بالعهود، سواء كانت بين المسلم وربه أو كانت بينه وبين رسوله- صلى الله عليه وسلم-، أو كانت بينه وبين أخيه المسلم، أو حتى بينه وبين الكافرين. وإنه لجرم عظيم أن يعطي الإنسان عهدًا باسم الله ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلاً إلى ثقة الناس به واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة.
ثمرات الوفاء بالوعود
وهناك آثار إيجابية وثمرات من الوفاء بالوعد مع الله سبحانه، والنبي- صلى الله عليه وسلم-، والناس جميعًا، منها ما يلي:
- الإيمان: فقد وردت آيات كثيرة تنفي الإيمان عن الناقضين لعهدهم، وتصفهم بالكفر، وفي المقابل وصف الله- سبحانه وتعالى- الموفين لعهدهم ومواثيقهم بالإيمان، قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الحديد: 8].
- التقوى: وهي أثر من آثار الوفاء بعهد الله، وثمرة من ثمرات الالتزام بميثاقه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 63].
- محبة الله: فقد أثبت الله محبته للمتقين الموفين بعهدهم، المستقيمين على عهودهم ومواثيقهم حتى مع أعدائهم ما استقاموا هم على تلك العهود، قال تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 7].
- دخول الجنات: حيث ورد في أكثر من آية جزاء من وفَّى بعهده، والتزم بميثاقه، وهو الوعد بدخول الجنة، قال تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة: 40].
- حصول الأجر العظيم: حيث وعد الله الموفين بعهدهم بجزاء عظيم، قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) [الأحزاب: 23-24].
- حصول الأمن في الدنيا، وصيانة الدماء: ولم تقتصر آثار الوفاء بالعهود والميثاق على المسلمين وحدهم، وإنما شمل عدل الله، الكفار الذين لم يدخلوا في دين الإسلام، ولهم عهود مع المسلمين، فجاءت الآيات صريحة بوجوب الوفاء لهم وصيانة دمائهم.
إنّ الوفاء بالوعد من أفضل خصال المربين وشيم الأوفياء، وهو خلق يُحمد عليه صاحبه، ويُذم كل من تخلّى عنه بالفطرة البشرية؛ فالإنسان بفطرته يبغض نقض المواثيق، وإخلاف المواعيد، والمسلم أولى الناس بالوفاء؛ لأنّ ديننا يأمرنا بذلك.
مصادر ومراجع:
- الراغب الأصفهاني: مفردات ألفاظ القرآن، ص 878.
- الجرجاني: التعريفات، ص 253.
- عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي: الوفاء بالوعد.
- ابن الجوزي: زاد المسير، 4/484.
- ابن كثير: تفسير ابن كثير 2/3.
- ناصر العمر: العهد والميثاق في القرآن الكريم، ص 204.
- ابن العربي: أحكام القرآن، 2/503.
- ابن حجر: المطالب العالية، 4/103.