تتساءل الأمهات كثيرًا عن النمو المعرفي للطفل الصغير، وكيف تنمو قدراته العقلية وتفكيره، والطرق التي يُمكن من خلالها مساعدته في تسريع وتحسين ذلك التطور الفكري، وهو ما تُحاول الإجابة عنه الدكتورة آندي حجازي، في دراسة تشمل هذه الأسئلة وتجيب عنها بأسلوب سهل وواضح.
وكان من أوائل العلماء الباحثين الذين حاولوا الإجابة عن هذه الأسئلة، عالم النفس والأحياء السويسري جان بياجيه، الذي استخدَم منهجية الملاحظة والمقابلة مع الأطفال للتوصل إلى كيفية حدوث تطور في التفكير لدى الأطفال، فكان يُلاحظ الأطفال بشكل تتابعي منذ ولادتهم حتى بلوغهم سن الرشد ويُدوّن ملاحظاته ويجري مقابلاته معهم لفهم كيف يفكرون.
إنّ نمو الطفل معرفيًّا بحسب “بياجيه” يمر عبر 4 مراحل منتظمة ومتسلسلة تبدأ مُنذ الميلاد وحتى الرشد. وعلى الأم معرفة أنّ هذه المراحل الأربع أساسية لكل طفل، وكل مرحلة منها مهمة للمرحلة التي تليها، ولا يُمكن تخطي أي مرحلة منها ولكن يُمكن تسريعها أو إبطاؤُها. وهي مراحل يمر بها جميع الأطفال في العالم.
النمو المعرفي للطفل منذ الولادة
ويبدأ النمو المعرفي للطفل منذ الولادة وحتى الثانية من العمر، وفي هذه المرحلة يستخدم الطفل حواسه وحركاته وأفعاله والتجريب للتعرف إلى العالم، واكتشاف الأشياء من حوله، فيستخدم حاسة البصر وحاسة السمع، وكذلك اللمس والشم والتذوق، كأن يُحدق في أمه ويشتمّ رائحتها ويلتفت إلى مصدر صوتها.
ويحاول الطفل في بدايات هذه المرحلة أن يُتابع الأشياء بصريًّا، وأن يُمسك الأشياء بيديه ويتحسسها ويقلبها ليتعرف ما هي، كما يفعل عندما تقدم له لُعبة فيتأملها ويضعها في فمه ليتذوقها ويضعها قرب أنفه ليشتم رائحتها، أو عندما تقدم له قطعة حلوى مغلفة فيحاول الإمساك بها وتحسسها وفتحها، أو عند إخفاء لعبة أمامه فإنه يحاول البحث عنها، وبخاصة عند الشهر الثامن.
وعندما يصل الشهر العاشر أو يبلغ العام يذهب إلى المطبخ ويفتح أدراجه لاكتشاف ما به، وهذا أمر طبيعي في هذه المرحلة لرغبة الاكتشاف لديه، وعلى الأم السماح له بذلك مع مراقبته، وعلى أسرة الطفل خلال هذين العامين تقديم الكثير من المثيرات الحسية المناسبة للطفل كألعاب متنوعة وبألوان وأحجام وأشكال مختلفة ووضع بعضها على سريره وفي غرفته.
وفي هذه المرحلة – أيضًا- وبعد الشهر السادس يبدأ الطفل في التفاعل مع الآخرين باللعب والابتسام لهم دون الاهتمام لجنسهم ذكرًا كان أم أنثى، وعلى الوالدين إيلاء الطفل اهتمامًا خاصًّا من خلال اللعب معه، لأنه يتعلّم التفاعل الاجتماعي عن طريق اللعب، ومن الضروري في هذه المرحلة تحدث الوالدين مع الطفل وتكرار الكلمة أمامه من أجل تعلمها، وبخاصة بعد الشهر الثامن مثل كلمة “خذ، هات، تعال، ماء، بابا، ماما، سيارة…”، حيث يبدأ الطفل ما بين الشهر الثامن وحتى السنة الأولى من عُمره بتعلم بعض الكلمات ونطقها، خصوصًا من والديه.
ويتوقع في نهاية العامين أن يصبح الطفل قادرًا على لفظ كلمتين معًا قاصدًا بهما جملة كاملة مثل “بابا سيارة” أي بابا ذهب بالسيارة، أو أريد الذهاب بالسيارة فهذان العَامان مهمّان للطفل لتعزيز الثقة بنفسه وبقدرته على التجريب والاكتشاف والكلام، ولا بُد من تشجيعه من خلال الابتسامة له أو التصفيق أو تقبيله عند نجاحه في كل مهمة جديدة.
المرحلة الثانية من النمو المعرفي للطفل
وتُعد مرحلة ما قبل العمليات المنطقية أو المحسوسة، هي الثانية في مراحل النمو المعرفي للطفل عند “بياجيه”، وهي تبدأ من سن عامين حتى سن السابعة، وفي هذه المرحلة تزداد القدرات العقلية للطفل على تكوين صور ذهنية عن الواقع الخارجي وتخزين أسماء الأشياء المحسوسة أمامه، فهو يبقى مرتبطًا بالأشياء والموضوعات المحسوسة في عالمه، مثل: الصور والمجسمات أكثر من المجردة.
لذلك يكون تفكير الطفل غير منطقي في هذه المرحلة، وبخاصة في سنواتها الأولى، لأنه غير قادر على تخيل أشياء لم يرَها. ويبدأ الطفل في هذه المرحلة معرفة الأشياء وتصنيفها وفقًا للأحجام أو الألوان أو المستويات، ويُمكن للأم أن تسمح لطفلها أو طفلتها بطي الملابس معها وتصنيفها وَفق أحجامها أو أنواعها لترتيبها داخل الخزانة، وكذلك تقديم ألعاب تركيب مختلفة الألوان والأحجام والأشكال للطفل مع اللعب معه من أجل تنمية قدرات التصنيف لديه.
ويواجه بعض الأطفال في هذه المرحلة صعوبة في إدراك بعض المفاهيم الكمية مثل أن صب نفس كمية الماء في أكواب مختلفة الأشكال لا يغير من كمية الماء، ولذلك على الأسرة محاولة تعليم طفلها تلك المفاهيم المنطقية والعلمية من خلال المحسوسات والتجريب أمامه، وقد أصبح دخول الطفل الروضة مُهمًا في تعليم الطفل تلك المهام والمفاهيم كتصنيف الأشياء وإدراكها والمفاهيم الكمية.
وإن أهم ما يُميز هذه المرحلة كما وجد “بياجيه” هو تمركز الطفل حول الذات، حيث يعتقد الطفل أن كل ما في العالم خلق لأجله فمثلا أمه هي خلقت لأجله فقط. فهي سمة تشبه الأنانية، لكنها مفيدة لتطور عقله، لذلك على الأسرة التحدث مع الطفل والإجابة عن تساؤلاته وتعريضه للمواقف الاجتماعية المثيرة حتى لا يبقى منعزلًا وتتسع مداركه وتفكيره مع أهمية اصطحابه في رحلات جماعية، ويزداد في هذه المرحلة اللعب الإيهامي فهو يلعب بالوسادة على أنها حصان مثلًا، وهذا شيء إيجابي لأنه يُنمّي لديه قدرات التخيل العقلي، ومن إيجابيات تلك المرحلة أنه يتعلم أن يستخدم اللغة بطريقة كبيرة وصحيحة، وبخاصة عند بلوغ سن الرابعة والخامسة ويصبح بمرور الوقت يتحدث بلغة تشبه لغة الكبار تقريبًا ولكن دون فهم التشبيهات والمجاز من القول.
مرحلة العمليات المحسوسة
ويمر النمو المعرفي للطفل بمرحلة ثالثة وهي العمليات المحسوسة، وتمتد من سن السابعة وحتى بداية الثانية عشرة، وهي تشمل الأطفال في مرحلتي الطفولة الوسطى والمتأخرة. ويشير اصطلاح العمليات المحسوسة إلى العمليات العقلية التي يستطيع الطفل أن يقوم بها، التي تبقى ضمن أشياء محسوسة أو شبه محسوسة مثل الصور، حيث يستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يُفكر تفكيرًا منطقيًّا، لكنه لا يرقى إلى التفكير المنطقي المجرد لدى الكبار، فقدرته على التفكير المنطقي المقنع تظل محدودة إلى حدّ ما حتى يصل الطفل إلى مرحلة العمليات المجردة كما وجد بياجيه.
ويمكن في هذه المرحلة تقديم مهام عقلية أكثر تعقيدًا للطفل لتنمية قدراته العقلية مثل، التصنيف للأشياء بناءً على عددٍ من المتغيرات معًا مثل، اللون والحجم والشكل، وطلب تقديم تفسيراته للأشياء والوقائع المحسوسة وعمل المقارنات والمتشابهات، وطلب تقديم أمثلة لما يطرح وافتراضات، وإدماج الطفل في مهام تتضمن حب الاستطلاع والمغامرة والتجريب كما في المختبرات والرحلات والزيارات الميدانية.
ومن الضروري استمرار الوالدين والمعلمين في هذه المرحلة في تقديم الرسوم التوضيحية والوسائل العينية لتوضيح الأفكار والنماذج المعقدة والجديدة على الطفل كأجهزة الجسم مثلًا، وضرورة السماح للطفل ذكرًا كان أو أنثى باللعب الحركي لحاجته إليه لنموه العقلي، ومع ملاحظة زيادة اهتمام الطفل هنا بالصداقات وبالتخلص من سمة التمركز حول الذات التي كان يعاني منها في المرحلة السابقة، ولا بُد من الاستمرار في تنمية لغة الطفل في هذه المرحلة أيضًا كتشجيعه على التعبير عن نفسه شفويًّا وكتابيًّا وبوسائل متعددة، مثل، الكتابة والتأليف والرسم لتنمية مهاراته المتعددة.
مرحلة العمليات المجردة
وتمتد المرحلة الرابعة من النمو المعرفي للطفل من سن 12 عامًا فما فوق حتى نهاية العمر، وهي تشمل مرحلة المراهقة ومراحِل الرُّشد، وتُعد من أهم المراحل الراقية عند “بياجيه”، فهي مرحلة مهمة للنمو العقلي لدى معظم المراهقين، وبخاصة الذين يستكملون تعليمهم المدرسي، وهي مرحلة إعلان استقلال عقل الإنسان وتفتحه، فالمراهق يصبح قادرًا على إدراك معنى الحياة والموت ومعنى العبودية للخالق (الله) وهو قادر على أن يُدرك معنى وجوده في الحياة.
وفي هذه المرحلة يستطيع المراهق التعامل مع عمليات التفكير المجرد والمصطلحات المعقدة، والدخول في المناقشات والمناظرات، ويستطيع أن يكتشف المبادئ أو القواعد العامة من خلال عددٍ من الوقائع والأحداث النوعية والعمليات التجريدية، ويستطيع الفرد في هذه المرحلة التخيل، والتفكير الاستدلالي الاستنباطي، والتفكير الاستقرائي، والتفكير المنطقي، والتفكير العلمي وتفكير حل المشكلات، واتخاذ القرارات، ويزداد اهتمامه المتعلق بالمشاكل الاجتماعية والمجتمعية والعالمية ويصبح فردا فاعلًا ومسؤولًا في مجتمعه وأسرته وبيئته، ويستمر في هذا النوع من القدرات العقلية حتى نهاية حياته مع تطورها أكثر بمرور الوقت، ما لم يصب بمرض يؤثر على قدراته العقلية.
العوامل المؤثرة في نمو الطفل معرفيا
إن النمو المعرفي للطفل يتأثر بنقطتين أساسيتين هما: الناحية الوراثية التي تقوم على تحديد الفروق الفردية بين الأفراد، وللوراثة أثر كبير في إعطاء القدرات العقلية المتكاملة، سيما القدرات العقلية تكون كثيرة وعديدة.
أما الجانب الثاني فهو الناهية البيئية التي تشمل على الاستعداد والبيئة الاجتماعية الثقافية، والبيئة الفيزيائية المادية، وهناك دراسات عديدة حاولت تفسير العوامل الوراثية والبيئية وأثرها في هذا النمو.
ولقد ثبت أن هناك بعض الأمراض التي تنقل بالوراثة، مثل: الضعف العقلي وأمراض العيون الوراثية، وهناك أمراض وراثية تؤثر في التطور العقلي مثل مرض الجلاكتوزما.
ويرى بعض علماء النفس المعرفي أن الذكاء يولد فطريا مع الإنسان، ولكن هذا الذكاء يحتاج إلى خبرات ومثيرات بيئية بالشكل الصحيح.
ويقول “بياجيه” إن كلا من الإمكانات الوراثية والبيئية مهمتان للذكاء وتعد كل واحدة مكملة للأخرى، فالطفل لا بد من أن يكون له دماغ قادر على تكوين المدركات والأفكار والعادات لا بد لها من الدافع والحاجة إلى الاكتشاف والتجريب والاهتمام بالبيئة.
أخيرًا
إن الأطفال يختلفون في كفاءتهم العقلية تبعًا للسن ومرحلة النمو العقلي التي وصلوا إليها، وإن وصول الطفل إلى المراحل المتقدمة من النمو المعرفي يعتمد اعتمادا كبيرًا على الفرص التربوية التي أتيحت لهم خلال سنوات نموهم، وتبعًا للخلفية الثقافية التي ينتمون إليها، وتبعًا للمثيرات التي يتعرضون لها، مع تفاعل العوامل الوراثية مع كل ذلك.
المصادر:
- النمو المعرفي واللغوي عند الطفل
- أديب عبد الله محمد النوايسه، النمو اللغوي والمعرفي للطفل، ص 102.
- نبيل عبد الهادي: النمو المعرفي عند الأطفال، ص 54-65.