يقول التربوي السوري عبدالكريم بكار: إن جزءًا أصيلًا في كل طرح، وفي كل نظام عظيم، يكمن في قبوله للمراجعة، والنقد والإنماء والتغيير.
النقد الذاتي من الموضوعات المهمة للفرد والمجتمع، والتي تعتبر من محركات تصحيح مسار الفرد والمجتمع على السواء، فلا أعجز من قادر على نقد الغير ولا يستطيع تقويم نفسه.
فالنقد لا يدرك أهميته وقيمته إلا القليل، وهم في معيار التقييم أناس يتسمون بالنظام والنجاح، وإن كان الأمر لا يقتصر على أفراد بل بعض الدول تأخذ بمبدأ النقد لتراجع استراتيجيتها وتتحسس طريقها، وهو ما شرحه المحامي الأمريكي فرانك كلارك، عن طبيعة النقد بقوله: النقد مثل المطر ينبغي أن يكون يسيراً بما يكفي ليغذي نمو الإنسان دون أن يدمر جذوره(1).
أهمية نقد الذات
النقد الموضوعي يقصد به: كيفية تقييم الفرد لنفسه ومحاولة إصلاحها، وهو التعبير الذي عبر عنه سيدنا عمر بن الخطاب بقوله [رحم اللَّه امرأ أهدى إلي عيوبي]. كما أنه إبداء النصيحة للغير بأسلوب مهذب وراق دون أن يحدث أي شرخ في العلاقة.
وهو ما يدفعنا لطرح السؤال عن أهمية النقد في حياة الفرد ومدى أثره على المجتمع، وهو السؤال الذي تكمن إجابته في عدة نقاط أهمها:
- يتعرف الإنسان من خلاله على السمات السلبية الموجودة في شخصيته، ومن ثم يحاول إصلاحها، وهى من النقاط المهمة التي تؤكد عليها علوم النفس حتى يستطيع المرئ إصلاحها وتقويمها.
- يقوم الفرد بتذكير نفسه بالقيم، والمبادئ الطيبة التي ترفع من شأنه، لكونه في مجتمع له حدود وشرائع يلتزم بها كل فرد فيه حتى يظل متماسكًا ومتحدًا.
- يعد النقد الذاتي وسيلة جيدة للزعماء، والحكام يستفيدون منها في تصحيح أخطائهم، حتى لا يتحول الحاكم إلى ديكتاتور، وحتى لا يتحول الشعب إلى تقديسه، وهو ما ذكره الله سبحانه في فرعون حينما لم ينتقد قومه تصرفاته وأطاعوه في كل شيء فقال تعالى {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (الزخرف 54).
- النقد الذاتي يقود المجتمعات إلى التغيير والانتقال من مرحلة الكساد إلى الرخاء، وهى من سمات المجتمعات المتقدمة(2).
ولهذا يهدف النقد إلى تهيئة الفرد لتقبل انتقادات الآخرين واحترامها والعمل على الاستفادة منها، وهو المعنى الذي شدد عليه النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – بقوله: [لا يُلْدَغُ المُؤْمِنُ مِن جُحْرٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ](رواه البخاري).
والإنسان في حاجة ملمّة وماسّة للنقد الإرادي الواعي لتنمية قدرته على اكتشاف ما به من سلبيات والعمل على إصلاحها، والتي تغرس فيه الثقة في تصرفاته.
جبلت حياة الأفراد على الصواب والخطأ، وعلى سنة التدافع في الأمر حتى تنصلح الأرض، وهو ما وصفه الله سبحانه بقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}(البقرة 251)، وهو المعنى الذي أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ](رواه الترمذي) وهى الأمور التي تتطلب نقد التصرفات الخاطئة ومعالجتها.
إلا أن النقد يتسم ببعض الخصائص ومنها:
- الشمولية: بحيث يتعرض لكل تصرف خطأ، ولكل فرد حيث لا يفرق بين كبير وصغير أو بين حاكم ومحكوم، حتى تتناغم المنظومة كلها وتترابط وتتقدم.
- الاستمرارية: إن النقد الذاتي عملية دائمة ومستمرة ومتواصلة، فلا يقتصر على بعض المواقف أو الأفراد دون غيرهم، وهو الدرس الذي علمه الرسول لأمته وراه عبدالله بن عباس: [الدِّينُ النَّصيحةُ، قالوا: لِمَن يا رسولَ اللهِ؟ قال: لكتابِ اللهِ, ولنبيِّه, ولأئمَّةِ المُسلِمينَ](رواه أحمد).
- الموضوعية: وهي تعني التزام جانب العدل في الحكم، والنزاهة في الموقف، وعدم التحيّز أو التعصب بدون حق، والابتعاد عن الانحياز الثقافي، العقلي، المجتمعي، الديني، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ}(المائدة 8)(3).
نماذج قرآنية
تعامل القرآن الكريم مع قضية النقد الذاتي بوضوح حيث حث الأمة الإسلامية على المراجعة والتوبة وتصحيح المسار والتعلم من الأخطاء، فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}(المائدة 105)، وأقسم بالنفس التي تنتقد وتراجع نفسها فقال تعالى: { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}(القيامة 2).
كما وجه الله سبحانه نقدا مباشرا للأمة الإسلامية حين قال سبحانه: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}(آل عمران 165).
النبي وقبول النقد
ضرب النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – النموذج الرائع في قبول النقد والمراجعة، ففي قصة إعراضه عن عبدالله بن أم مكتوم – وهو أعمى – حينما سأله أن يعلمه شيء من الدين لانشغاله بدعوات سادات قريش، عاتبه ربه فقال تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}(سورة عبس: 1- 4). وأيضا موقفه من أسرى بدر.
وكان صلى الله عليه وسلم يزجر أصحابه حينما يغالوا في مدحه وكان يقول لهم: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد الله ورسوله](رواه البخاري).
بل إنه قبل نقد يهودي حينما صحح بعض بعض السلوكيات والتي أقرها النبي، فعن قتيلة بنت صيفي الجهني: [أنَّ يَهوديًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: إنَّكم تندِّدونَ، وإنَّكم تُشرِكونَ تقولونَ: ما شاءَ اللَّهُ وشئتَ، وتقولونَ: والكعبةِ، فأمرَهُمُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا أرادوا أن يحلِفوا أن يقولوا: وربِّ الكعبةِ، ويقولونَ: ما شاءَ اللَّهُ ثمَّ شئتَ] (صحيح النسائي).
الصحابة وقبول النقد
للصحابة مكانة عظيمة في نصرة الإسلام ودعم قواعد الدولة الإسلامية الأولى حتى كانت لهم الحظوة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فهم بشر يصيبون ويخطئون وكان يتقبلون النقد بصدر رحب، فهذا أبو بكر الصديق ينتقد موقف عمر ابن الخطاب في لينه مع المرتدين ومانعي الزكاة، غير أن أبو بكر أصر على قتال من منع الزكاة سواءً كان جاحدًا لوجوبها أو مقرًا وقال: [والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها] (مسند أحمد).
وهذه السيدة عائشة – رضى الله عنها – حينما بلغها أن أبو الدرداء يخطبُ النَّاسَ أن لا وترَ لمن أدركَ الصُّبحَ فانطلقَ رجالٌ منَ المؤمنينَ إلى عائشةَ فأخبروها فقالت كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يصبحُ فيوترُ] (إسناده حسن).
فكان نقدهم في سبيل الإصلاح وتقويم النفس واستقامتها، وحينما تخلف الثلاثة عن غزوة تبوك عاتبهم الله تعالى لإصلاح أنفسهم وتوجيه من بعدهم في التعامل من أمر نبيه فقال تعالى: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}(التوبة 118).
ضوابط النقد
النصيحة والنقد معلم بارز من معالم الأخوة الإسلامية، فرحم الله امرءًا أهدى العيوب بأسلوب راقٍ لا يجرح النفس، ولا تفضح صاحبها، ولذا على كل مسلم تعلم ضوابط النقد ومنها:
- الإخلاص في النقد النَّصِيحَة: بأن يبتغي الناصح وجه الله وإصلاح عيب أو تقويم سلوك أو ذب عن شريعة، ولا يتحول لانتقام شخصي من المنصوح
- العلم بما ينصح به: فلابد للناصح والناقد أن يقف على علم فيما يقوله فلا يتكلم دون بينه أو ينقد دون حقائق، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
- عدم الجهر والإعلان بالنقد، لكن يكون في إطار من السرية – إلا أن يكون المنصوح لا يرجى علاجه إلا بالجهر – وهو المعنى الذي لخصه الإمام الشافعي في بيت الشعر بقوله:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النَّصِيحَة في الجماعة
فإن النـــصح بين النــاس نــوع من التوبيـــخ لا أرضى استماعه
- مراعاة الوقت والمكان المناسب، فلا أنصح أحدًا وقت غضبه أو في مكان غير مناسب ربما يترتب على ذلك الأمر ضرر للمنصوح.
- اللين والرفق في النقد، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه] (رواه مسلم)(4).
تربية الدعاة على النقد
يتسرع الكثير منا في رد فعله على بعض التصرفات والتي ربما يغيب عنها العدل والموضوعية والإنصاف.
بل ربما مثل هذه الأمور يقع فيها الداعية فتورثه مشاكل كثيرة في قبول ما يقول بعد ذلك خاصة إذا ناقضت تصرفاته أقواله، أو إحداث ثورة غضب إذا نصحه أو نقد تصرفه أحد، وهى الأمور التي أدت إلى اختلاط المفاهيم، والتباس الأمر على بعض الدعاة في عدم التفرقة بين النقد البناء والقذف.
ولذا فعلى الداعية مراجعة نفسه كلما أخطأ، ويبحث عن أسباب القصور دون الدفاع عن وجهة نظره الخاطئة.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: «هذا الذي تستنكرون أن يقع لكم، وتقولون: كيف هذا؟ هو من عند أنفسكم, بانطباق سنة الله عليكم، حين عرضتم أنفسكم لها، فالإنسان حين يعرض نفسه لسنة الله لا بد أن تنطبق عليه، مسلمًا كان أو مشركًا، ولا تنخرق محاباة له، فمن كمال إسلامه أن يوافق نفسه على مقتضى سنة الله ابتداءً»(5).
وعلى الداعية أن يتعلم أصول النقد ويفرق ما بين النقد والتجريح، وبين النصيحة والفضيحة، فالعالم أو الداعية بشر من البشر يخطئ ويصيب، يعصي ويطيع، ولذا يجب أن يتعلم بعض أصول النقد ومنها:
- أن يكون ملما بالظاهرة التي سينتقدها ويكون عالما بها حتى لا يتعرض للحرج إذا كان جاهلا بطبيعتها وطرق حلها.
- الالتزام وإعطاء القدوة الصالحة في النقد، فلا ينبغى أن ينقد الداعية منكرًا أو ظاهرةً وهو مصرٌ عليها بل ويأتيها جهرا، فكيف سيقبل منه النقد وهو يأتي هذا المنكر.
- الموضوعية والحيادية لأنها أساس قبول النصيحة والنقد.
- التزام الأخلاق الفاضلة: فينتقي أعذب الألفاظ وأحسنها، ويختار أنسب الأوقات ويحافظ على هيبة المنصوح ومكانته(6).
الأبناء والنقد الصحيح
الأطفال بلا شك أمانة وكل غرس فيهم ينبت شجرات من القيم إذا أحسن تربيتهم، ولذا يجب على المربي تطوير مهارة النقد الإيجابي لدى الأطفال وتربيتهم على قبول النقد وطريقته بالحسنى دون إحداث جروح للشخص الآخر سواءً كان كبيرا أو صغيرا، بل يجب أن يتعلم كيف يحاسب نفسه على خطئه دون مكابرة.
وتربية الأطفال على النقد البناء وحسن النصيحة يحتاج للقدوة الحسنة، والتخلق أمامهم بآداب الإسلام، بل وأن أكون قدوة لهم في تقبل نقدهم أو نقد الآخرين.
وعليه فيجب التحلي بالنظام في كل شيء، وتوفير المعرفة لاتخاذ القرار المناسب والسليم، ودراسة العواقب المناسبة لظروف كل طفل، ووضعه الاجتماعي.
ومن المهم أن يعتمد المربي على التدرج في تعليم الأطفال طرق النصيحة والنقد البناء وتدريبهم عمليا على كل وسيلة لحل المشاكل ومشاركة أقرانهم في التفكير في أفضل الوسائل لحل المشاكل لديهم أو عند غيرهم(7).
أخيرا
يكاد الكل يجمع على مدى صعوبة النقد الذاتيّ وتأثيره في الفرد، لما جبلت عليه النفس البشرية – إلا من رحم ربي – ممّا قد يمنعه من خَوض تجربة النقد الذاتي مما يترتب عليها أيضا صعوبة قبول المجتمع (المؤسسات والكيانات والأفراد) النقد بسعة صدر، وهو ما يجب أن يدركه الجميع ويتدربوا عليه حتى يتقدموا ويتقدم مجتمعهم.
المصادر
- أمل الحساني: ورشة عمل(مرحلة النقد) برنامج استفهام صحي، 26 أبريل 2015،
- هاجر: النقد الذاتي وأهدافه، 14 مارس 2019،
- يوسف عمر قوش: النقد الذاتي خطوة على الطريق، مجلة البيان، العدد: 115، 1997م،
- ضوابط في النَّصِيحَة: الدرر السنية،
- سيد قطب: في ظلال القرآن الكريم، سورة آل عمران، آية 165.
- الداعية بين النقد والنقض: 20 سبتمبر 2015،
- تعليم الطفل مهارة الانضباط الذاتي: 16 أغسطس 2014، https://bit.ly/3b2uixi