تنتابنا مشاعر الحزن بين الحين والآخر، التي ترتبط بحدثٍ أو تاريخٍ أو موقفٍ وَرّثَ حُزنًا في القلب، لكن الأشد ألمًا هو ذلك الشعور المرتبط بفقدان أحد الأحبة، وهو من سمات البشر لا يُستثنى منه أحد سواء كان صالحًا أو طالحًا أو حتى نبيًا أو وليًّا، لأنّ الشعور بالحُزن هو استجابة عاطفية طبيعية للأحداث الصعبة في الحياة، ورغم أنه شعور طبيعي، فالتخلص منه قد لا يكون سهلًا في كثيرٍ من الأحيان.
لقد عرض القرآن الكريم كثيرًا من المواقف التي حَزن فيها أنبياء الله لتأكيد بشريتهم كغيرهم من البشر، غير أنّ معظم حزنهم كان على أُممهم التي لم تستجب إلى دعوة الله- تبارك وتعالى-، وخوفًا عليهم من مصير لا يدركونه عند الله.
مفهوم الحزن
الحزن هو حالة ذهنية عادة ما يتجلّى بعلامات خارجية مثل البكاء، والتشاؤم، وانعدام الروح، وتدني احترام الذات، وعدم الرضا.
وهي حالة تتغيّر أسبابها عند مختلف الناس، فمنهم مَن يَحزن على أخراه، من أجل ذنب أصابه ومعصية ارتكبها أو حسنة ضيعها، ومنهم من يحزن لشؤون دنياه، لفراق محبوبته، أو زوال ماله، أو خير فاته.
ومنهم (وهم كُثر) مَن يكون حزنهم طبيعيًّا، بسبب فراق الأحبة أو مصيبة نزلت بهم، أو مرض ألمّ بهم، أو بسبب ضغوط الحياة، وهي الحالات التي يُصاحبها همّ وغمّ وضيق ونكد(1).
الحزن في الإسلام
لم يكن دين الإسلام يومًا دين الحزن والشقاء، ولا دين التعاسة والويلات والدموع، وكيف يكون كذلك وقد أنزل الله- عز وجل- على نبيه محمد- عليه الصلاة والسلام- من أول ما نزل: {طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}[طه:1-3].
حتى إن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان دائمًا يستعيذ من الحزن بقوله: “اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكَسَلِ، والجُبْنِ والبُخْلِ، وضَلَعِ الدَّيْنِ، وغَلَبَةِ الرِّجالِ” (البخاري).
وهو المعنى الذي قَالَه عِكْرِمَةُ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صَبْرًا.
لقد كان واضحًا من تعاليم الإسلام أنها شددت على الابتعاد عن الحُزن الذي يسيطر على قلب الإنسان ويدفعه إلى القنوط من رحمة الله أو السّخط على قضائه، أو الشكوى لغير الله، أو الجزع على كل ما قدره الله.
وهو المعنى الذي ذكره ابن القيم بقوله: “الحُزن يُضعف القلب ويُوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10]، فالحُزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره)(2).
هل الشعور بالحزن جائز؟
من المعروف أنه إذا وقع الحزن بعد ابتلاء أو مصيبة أو نازلة، فإن ثواب المسلم يكون على الابتلاء وليس على هذا الشعور في حد ذاته، لكنه تفاعل فطري في الإنسان كما حدث لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- حينما مات ابنه إبراهيم فحَزن وقال: “إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ”(البخاري).
لهذا لا يُنكر على العبد أن يَحزن إذا توافرت أسباب هذا الشعور، لكن المذموم قطعًا هو الاستسلام له، بحيث يغلب على صاحبه فينقطع أو ينعزل أو يسخط أو يصاب بالأمراض النفسية أو العضوية، بل قد يتمكن من صاحبه حتى يقتله(3).
من أضرار الشعور بالحزن
ذكر العلماء وأهل التربية الكثير من أضرار الحزن على صاحبه، ومنها:
- التشتت وحصول الفتور الذهني وضعف التركيز والقنوط والضجر.
- الإحباط والذي يُقعد المحزون عن التفكير الصحيح والعمل المفيد، بل قد تتعطل جميع أعماله.
- سرعة الإجهاد والفتور البدني، والإحساس بآلام في سائر البدن، خاصة الرأس والمفاصل.
- الانشغال عن العبادة أو في أثنائها فلا يؤديها على الوجه الصحيح.
- ترك الأمور المهمة بسبب الحزن والاستغراق فيه.
- سوء الظن في الآخرين، بل يشتد حتى يصل به لدرجة اليقين في شكه نحو الآخرين.
- يوقع الحزن في التشاؤم المستمر، وأحياناً المفرط.
- الإصابة بالأمراض الجسدية كالإجهاد الذهني والذي ينتج عنه الزهايمر والشيخوخة المبكرة والقلق والتوتر وغيرها من الأمراض الجسدية الكثيرة.
- إهلاك النفس دون جدوى، وفي الحديث: “…لَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا! وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ”(4).
منهج النبي في التفاؤل
التفاؤل سنة نبوية، وصفة إيجابية للنفس السوية، يترك أثره على تصرفات الإنسان ومواقفه، ويمنحه سلامة نفس وهمة عالية، ويزرع فيه الأمل، ويحفزه على الهمة والعمل، والتفاؤل ما هو إلا تعبير صادق عن الرؤية الطيبة والإيجابية للحياة.
فحينما تحرك النبي- صلى الله عليه وسلم- للهجرة مع أصحابه وتبعته قريش حتى وقفوا فوق رؤوسهم، تملك الفزع والخوف من أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- إلا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بثّ فيه الأمل بقوله: “يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما” (البخاري).
وهذا نبي الله موسى- عليه السلام- يضرب مثلًا عظيمًا في التفاؤل والثقة في الله، حينما حُوصر وقومه بين فرعون وجنوده وبين البحر حتى فزعوا و: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} فكان جوابه المملوء تفاؤلًا: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[الشعراء:61- 62].
وعلّم النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- أصحابه هذا المعنى، حينما ذكر لعدي بن حاتم أنه سيأتي يوم يرى فيه الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت الحرام لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى. يقول عدي: فرأيتُ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز. (البخاري – بتصرف).
والقصة الشهيرة وقت حفر الخندق واعتراض الصحابة صخرة كانت فيها البشريات حينما بشرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بفتح الشام وفارس واليمن، رغم تملك الخوف منهم حتى كان الواحد منهم لا يأمن أن يذهب للخلاء، لكن تربية الثقة والتفاؤل التي تحققت فتحت الشام وفارس واليمن.
وفي مقابل اعتنائه- صلى الله عليه وسلم- بتعليم أصحابه وتربيتهم على التفاؤل الذي يبعث على الأمل والعمل، والصبر والثبات على الدين، كان يحذرهم من الحزن أو النظرة التشاؤمية التي تقعدهم عن العمل والدعوة، وتدفعهم إلى الإحباط واليأس الذي لا يرى في الناس أملاً لصلاح أو هداية، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إذا قال الرجلُ: هلك الناسُ فهو أهلَكُهم” (رواه مسلم)(5).
تطبيق عملي للتخلص من الحُزْن
إنّ الحزن إذا تمكن من القلب صار مرضًا، وبالتالي فإنّ له علاجات يُمكن الاستفادة منها في دفعه، ومنها:
- العمل على زيادة الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد استسلم لقضاء الله وقدره وعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فشكر عند النعمة وصبر عند المصيبة فكان خيرا له.
- الإكثار من الذكر، فالله- عز وجل- يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد:28).
- تجنب أسباب الغضب والتحلي بحسن الخُلق وسعة الصدر وتربية النفس على دفع السيئة بالحسنة والعفو والصفح والتحلي بمكارم الأخلاق.
- وضع مجموعة من الأهداف للتغلب على العجز والتخلص من الاكتئاب.
- ممارسة التمارين الرياضية لتنشيط الخلايا والتخلص من الطاقة السلبية، وأيضًا الحصول على قسط كافٍ من النوم.
- اختيار علاقات جيدة مع الآخرين، وتحسين العلاقات الحالية التي تساعد في تقليل العزلة وبناء دائرة من الدعم الاجتماعي.
- مواجهة المشاكل والتعامل معها وإقامة حدود للعمل ولا نضغط على أنفسنا أو نشعرها بالقهر أو الظلم.
- التحدث مع شخص حكيم نثق به، قد يكون لدى هذا الشخص المزيد من التجارب الحياتية للاستفادة منها، التي يُمكن أن تساعد في التغلب على حُزننا.
- استحضار الأشياء الإيجابية التي تساعد على عدم التفكير في الأشياء السلبية التي تزيد من حزننا أو قلقنا أو إحباطنا(6).
كل شخص مرّ أو يمرّ بحالة من الحزن يُمكن أن تكون شديدة أشبه بدوامة تأخذه معها، لكن الإسلام الحنيف أمرنا بعدم الركون والاستسلام لها بل والاستعاذة منها، ونفض غبارها عن قلوبنا حتى تستمر الحياة في حالة من الرضا بقضاء الله وقدره، والصبر على ما قد يواجهه الإنسان في حياته، والعمل على التغلب على ما قد يواجهه من أحزان باستشعار وجود الله بجواره.
المصادر والمراجع:
- عاتكة زياد البوريني: أسباب الحزن، 6 فبراير 2016
- ابن القيم الجوزية: طريق الهجرتين، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، 2010م.
- خالد بن منصور الدريس: لماذا نُهينا عن الحزن وبناته؟، 3 يونيو 2016
- لا تستسلم للحزن: 11 نوفمبر 2007،
- التفاؤل سنة نبوية: 14 يوليو 2013،
- حسن زكريا فليفل: تذيل الصعاب لعلاج الحزن والاكتئاب في ضوء الكتاب والسنة، دار الايمان للطبع والنشر والتوزيع، الإسكندرية مصر، 1998م.
1 comments
موضوع رائع ، وفي وقته ، جزاكم الله ع