في لحظات إخلاصٍ مغموسة بالصدق والخوف والرجاء يعيش الإنسان لذة المناجاة مع الله- عز وجل-، وهي أعلى مرتبة من الدعاء الذي يعتمد في الأساس على الطلب أو الاستعاذة، بينما مناجاة الله هي التحدث إليه والشكوى من النّفس الأمارة بالسوء، والشوق إليه ومحبته وتعظيمه وإجلاله.
ومناجاة الله- عز وجل- هي حالة لو عشناها لذقنا نعيم الجنة ونحن في الدنيا، وهي عبادة امتاز بها الله أهله وخاصته من البشر، فهم يستطيبون معها الطاعات، وتحلو لهم فيها الدموع حبًّا وشوقًا لخالقهم، فيقفون ببابه خاشعين طائعين يناجونه بكل الحب، يقول تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [الأعراف:54].
مفهوم المناجاة والدعاء
إنّ المناجاة هي الكلام سرًا، وناجاه: كلّمه سرًا وخفية، وقال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: أصلها أن تخلو بمن تناجيه بسرٍ معين في مكان مرتفع منفصل عما حوله، وقيل: أصله من النجاة وهو أن يعاون المُناجَى المناجِي على ما فيه خلاصه وتلبية حاجته.
والدعاء هو السؤال والطلب من الله ليقضي الحاجات، والمُنَاجَاة ليست طلبًا، بل مخاطبة لله، والحديث إليه بكل خضوع، وبكل ما في القلب، ليجيب الدعاء ويقضي الحاجات، لذا قال بعض العلماء إن مناجاة الله هي حديث العبد لربه سرًّا بالتضرع والخضوع والتذلل، قبل أي سؤال أو طلب.
ومناجاة الخالق- جل وعلا- تتطلّب توحيده والخشوع والتقرب إليه بقلب خالٍ من الذنوب، وطاهرٍ من الخطايا، كما تحتاج إلى الثناء على النبي- صلى الله عليه وسلم- والصلاة عليه، وسؤال الله المغفرة والرحمة وتخيّر الأدعية للنفس، وللوالدين، وللإخوة، ولجميع الناس، والتوجّه إلى الله ودعائه بصفاته، وبكل ما يشعر بقربه، وبعظمته، وبقدرته، وختم الدعاء بقول آمين، وبالصلاة على سيدنا النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المناجاة في القرآن والسنة
ورغم أن القرآن الكريم لم يشمل على سورة باسم المناجاة فهناك آية تحمل هذا الاسم، وهي رقم 12 من سورة المجادلة، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَة)، وقد رُوي عن علي- رضي الله عنه- أنه قال: آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، وهي آية المُنَاجَاة. ورُوي عن مجاهد في الآية أنهم نهوا عن النجوى حتى يتصدقوا، فلم يناجِه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارًا فتصدق به ثم نزلت الرخصة.
والآيات التي تتحدث عن مناجاة الله كثيرة، منها قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]، ويقول- تبارك وتعالى-: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَلا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 55-56].
وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، رغم أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يُناجي ربه ويشكره ويطلب منه المغفرة أثناء التجهد في الليل، فعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- قال: كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قالَ: اللَّهُمَّ لكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ لكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ ومَن فِيهِنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ الحَقُّ ووَعْدُكَ الحَقُّ، ولِقَاؤُكَ حَقٌّ، وقَوْلُكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والنَّبِيُّونَ حَقٌّ، ومُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَقٌّ، والسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وإلَيْكَ أنَبْتُ، وبِكَ خَاصَمْتُ، وإلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ وما أعْلَنْتُ، أنْتَ المُقَدِّمُ، وأَنْتَ المُؤَخِّرُ، لا إلَهَ إلَّا أنْتَ – أوْ: لا إلَهَ غَيْرُكَ – قالَ سُفْيَانُ: وزَادَ عبدُ الكَرِيمِ أبو أُمَيَّةَ: ولَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا باللَّهِ، قالَ سُفْيَانُ: قالَ سُلَيْمَانُ بنُ أبِي مُسْلِمٍ: سَمِعَهُ مِن طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا، عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. (البخاري ومسلم).
بل إن مناجاة النبي- صلى الله عليه وسلم- لربه كان بها أجمل التضرع والإنابة والانكسار بين يدي الله، وبها أبلغ الالتجاء والاستعانة به سبحانه، فكان يقوم تاليا وراكعاً حتى تتورم قدماه، ويُسمَع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وتتحدّر الدموع من عينيه الشريفتين، ويستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مئة مرة.
ومع ذلك كله كان يقول في دعائه: “اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير” (البخاري).
مناجاة وأدعية الصحابة والتابعين
وقد كان ذلك ديدن الصحابة- رضوان الله عليه- ومن تبعهم من الأولياء والصالحين، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “كنا إذا دعونا قلنا اللهمَّ اجعلْ علينا صلاةَ قومٍ أبرارٍ ليسوا بأثَمَةٍ ولا فجارٍ يقومون الليلَ ويصومون النهارَ”.
وعن سعيد بن جبير- رحمه الله- قال: ”كان ابنُ عباسٍ يقولُ اللهمَّ إني أسألُك بنورِ وجهِك الذي أشرَقت له السماواتُ والأرضُ أن تجعلَني في حِرزِك وحفظِك وجوارِك وتحتَ كنفِك”.
وعن ثور بن يزيد- رحمه الله- قال: “كان معاذٌ إذا تهَجَّد مِنَ اللَّيلِ قال اللهمَّ نامَتِ العيونُ وغارَتِ النُّجومُ وأنت حيٌّ قيُّومٌ اللهمَّ طَلَبي للجَنَّةِ بطيءٌ وهَرَبي مِنَ النَّارِ ضعيفٌ اللهمَّ اجعَلْ لي عندَك هَدْيًا نؤده إليك يومَ القيامةِ إنَّك لا تُخْلِفُ الميعادَ”.
وكان ابن عطاء الله السكندري، من أشهر من ناجى ربه، فقال: “كيف أُضامُ وأنت الناصرً لي؟ أم كيف أَخِيْبُ وأنت الحَفِيُّ بي؟ ها أنا أَتَوَسَّلُ بِفَقْرِي إليك وكيف أَتَوَسَّلُ إليك بما هو مُحَالٌ أنْ يَصِلَ إليك؟ أمْ كيف أَشْكُو إليك حالي وهو لا يَخْفَى عليك؟ أم كيف أُتَرْجِمُ إليك بمقالي وهو منك بَرَزَ؟ أم كيف تَخِيْبُ آمالي وهي وَفَدَتْ عليك؟ أم كيف لا تَحْسُنُ أحوالي وبك قامتْ وإليك؟ إلهـي ما أَلطَفَكَ بي مع عظيمِ جهلي وما أَرْحَمَكَ بي مع قبيحِ فعلي! إلـهي ما أَقْرَبَكَ مني وما أَبْعَدَني عنك! وما أَرْأَفَكَ بي، فما الذي يَحْجُبُنِي عنك!
إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، وبك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك. إلهي: علمني من علمك المخزون، وصني بسر اسمك المصون، بك أنتصر فانصرني، وعليك أتوكل فلا تكلني، وإياك أسأل فلا تخيبني، وفي فضلك أرغب فلا تحرمني، ولجنابك أنتسب فلا تبعدني، وببابك أقف فلا تطردني.
أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووجدوك، وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبابك حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجئوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوامل، وأنت الذي هديتهم حتى استبانت لهم المعالم.. ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً.
إلهي كيف يرجى سواك، وأنت ما قطعت الإحسان! وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان! يا من أذاق أحباءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين. ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته مستعزين. أنت الذاكر من قبل الذاكرين، وأنت البادئ بالإحسان من قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين.
إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنتك حتى أقبل عليك. إلهي إن رجائي لا ينقطع عنك وإن عصيتك، كما أن خوفي لا يزاملني وإن أطعتك. إلهي: قد دفعتني العوالم إليك، وقد أوقفني علمي بكرمك عليك. إلهي كيف أخيب وأنت أملي! أم كيف أهان وعليك متكلي! يا من تجلى بكمال بهائه فتحققت عظمة الأسرار كيف تخفى وأنت الظاهر! أم كيف تغيب وأنت الرقيب الحاضر!”.
مواطن وآداب مناجاة الله
وكثيرة هي مواطن المناجاة التي يناجي فيها المؤمن ربه ويدعوه ويستغفره ويلجأ إليه فيها بقلبه مستشعرًا هذه اللذة التي تسمو بروحه وتغذيها بالرضا والإيمان، فمن أراد أن يناجيه:
- يقرأ القرآن الكريم، إذ قال بعض العلماء إن هناك أكثر من عشرين سورة تفتتح بالمُناجاة، من تحميد وتسبيح وتنزيه، كما جاء في أوائل سورة سبأ وتبارك والجمعة.
- قراءة فاتحة الكتاب: فهي مناجاة بين العبد وربه، ورباط روحي يصل العبد بمولاه، فيزداد ثباتًا وإيمانًا.
- أدعية الصباح والمساء: ومنها “اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر”.
- وقت السحر: وهو الوقت الأمثل للمُناجاة، وقد امتدح الله- عز وجل- هذا الوقت في كثير من الآيات، لأن العبد بقيامه ومناجاته يخالف عادة الناس في النوم والخلود للراحة فيكون قد آثر طاعة ربه وقربه منه على راحته، قال تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 18].
- اغتنام الأوقات الفضيلة: وهي كيوم عرفة، وشهر رمضان، ويوم الجمعة من كل أسبوع، ووقت السحر.
- اغتنام الأحوال الشريفة: مثل زحزحة الصفوف للقتال في سبيل الله، ونزول الغيث، واستقبال القبلة، ورفع اليدين إلى السماء.
فالمُناجاة والدعاء عبادة عظيمة تتجلى فيها كريم الصّلة بين العبد وخالقه، ويُرى فيها العبد منكسرًا بين يدي مولاه، منطرحًا على بابه، يستغيث به ويستجير، والله تعالى يحب العبد الملحاح، ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “من لم يسأل الله يغضب عليه” (صحيح الترمذي).
المصادر والمراجع:
- الراغب الأصفهاني: مفردات القرآن، ص 484.
- الطبري: تفسير القرآن، 12/20.
- الهيثمي: مجمع الزوائد، 10/187.
- عبد الله الشرقاوي: شرح الحكم العطائية، ص 255.
- رسالة المناجاة للإمام حسن البنا.
- ابن القيم: زاد المعاد، 2/339.