يتجدّد مطلب المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة من حين إلى آخر، نظرًا لتصوُّر بعض الناس أن تقسيم الميراث فيه ظلم لبعض الفئات، رغم أنّ الإسلام قد حسم هذه القضية مُنذ أكثر من 1400 عام، بانتصاره للمرأة التي كانت حقوقها مهضومة في الحضارات القديمة- الهنديَّةً والصينيَّةً والفارسيَّة واليونانيَّة والرومانيَّة والعربيَّةً أيام الجاهليَّة وغيرها-، إذ كانت كل هذه الحضارات تخصُّ بالإرث الرِّجال دون النِّساء، والأقوياء دون الضعفاء.
ولقد قسّم الإسلام الميراث بميزانٍ من ذهب، وهو ما يدفعنا إلى إبراز القيم والفوائد التربوية من الآيات القرآنية التي فصّلت المواريث لأهميتها في حياة الناس، وكذلك المقاصد الشرعية المتعلقة بها، اعتمادًا على منهجية الاستقراء والتحليل والاستنباط، والرجوع إلى المصادر المعتمدة من نصوص القرآن الكريم، والتفاسير المختلفة، وكتب الحديث النبوي الشريف، إذ إن الأحكام الشرعية لا تخلو من قصد تربوي يظهر أثناء النصوص التي تفرض تلك الأحكام.
موقف الشرع من مطالبات المساواة
وحسمت الشريعة الإسلامية القضية الجدلية المتجددة حول المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، إذ فندتها آيات المواريث التي جاءت قطعية الثبوت والدلالة، فلا مجال للاجتهاد فيها، ولا سبيل للتغيير بتغير الزمان والمكان والأحوال.
وبين القرآن الكريم في سورة النساء نصيب كل واحد من الورثة، سواء النصف أو الربع أو الثمن أو الثلثين أو الثلث أو السدس، وأقر الشرع بعض الحالات التي فيها مساواة بين الجنسين وهذا ليس في المطلق كما تنادي بعض الأصوات، فقسمة الميراث التي تولاها الحق- سبحانه وتعالى- تُحقق العدالة والتوازن بين الورثة.
ووافقت السنة ما جاء في القرآن بشأن المواريث، كما أجمع علماء الأمة على التقسيم العادل الذي جاءت به الشريعة الغراء التي كَرَّمت المرأة- أُمًّا وبنتًا وزوجةً وأُختًا- وأعطتها نصيبها من الإرث بالعدل، بعد أن كانت محرومة منه في الأمم السابقة.
قيم تربوية تفند قضية المساواة في الميراث
وبالنظر إلى آيات المواريث في سورة النساء يمكن استخلاص قيم تربوية تفند قضية المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وهي كالتالي:
- تكريم المَرْأَةِ وحِفْظ حُقُوقِها: وهو على عكس الحضارات السابقة التي كانت ترى أن الإرث لكل من يحمل السيف فقط، أما الإسلام فأقر حقها في الميراث والوصية سواء كانت زوجة أو أما أو بنتا أو أختا، بل جعل نصيبها في الميراث هو الأصل الذي يُؤخذ منه، والمعيار الذي يُنْسب إليه غيرُه، يشير إلى ذلك قولُه تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ).
وفي ذلك يقول الطاهر بن عاشور: جعل حظ الأنثيين هو المقدار الذي يُقَدَّرُ به حَظُّ الذَّكَرِ، ولم يكن قد تَقَدَّمَ تعيين حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ به، فَعُلِمَ أَنَّ المرادَ تضعيفُ حَظِّ الذَّكَرِ من الأولاد على حَظِّ الأنثى منهم، وكان هذا المراد صالحا لأن يُؤدَّى بنحو: (للأنثى نصف حَظِّ الذَّكَرِ)، أو( للأنثيين مثل حَظِّ الذَّكَرِ)، إذ ليس المقصود إلا بيان المضاعفة. ولكن قد أُوثِرَ هذا التعبير لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ، وهي الإيماء إلى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صار في اعتبار الشرع أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام يُنَادِي بِحَظِّهَا في أول ما يقرع الأسماع.
- لا يَحِلُّ لأحد أن يُغَيِّرَ من فرائض المواريث شيئا: ولو تُرِك تقدير الإرث إلى عقول الناس واختياراتهم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فقد يظن الميتُ بأحد ورثته خيرًا؛ فيعطيه المال كله، أو يظن به شرًّا فيحرمه منه، وقد يكون الحال خلاف ذلك، فالذي شرعه الله هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن، ولهذا قال سبحانه: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا) (النساء: 11).
فكأنه قيل: أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم، وهو إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة، وقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها.
- مناسَبة ختم الآيات بأسماء الله (العليم، الحكيم، الحليم): فالله- عز وجل- يختم الآيات بأسمائه الحسنى ليدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم، وختم سبحانه الآية الأولى بقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)[11: النساء].
وفي مناسبة هذا الختام يقول الشيخ السعدي في تفسيره: فكونه عليما حكيما يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفصَّله في توزيع الأموال على مستحقيها الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وَكَلَ العبادَ إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزعوها أنتم بحسب اجتهادكم، لدخلها الجهل والهوى وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل بذلك من الضرر ما الله به عليم.
- التحذير من التهاون في قسمة المواريث وحرمة الإضرار في الوصية: فإذا تأملنا آيتَيْ قسمة الميراث (النساء: 11 ، 12)، نجد أن تقديم الوصية على الديّن في الآيتين ورد أربع مرات بصيغ مختلفة، ولعل الحكمة في ذلك: التنبيه والحث على تنفيذ الوصية مخافة الإهمال.
وفي ذلك يقول الزمخشري: لما كانت الوصية مشابهة للميراث في كونها مأخوذة من غير عِوَض، كان إخراجها مما يشقّ على الورثة، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنّة للتفريط، بخلاف الدين فإنّ نفوسهم مطمئنة إلى أدائه، فلذلك قدمت على الدين تأكيدًا على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جيء بكلمة “أو” للتسوية بينهما في الوجوب.
- الله أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أنفسهم: وهي قيمة تربوية لا بد من الانتباه إليها، فمن خصائص الشريعة الإسلامية أنها تتوافق مع الفطرة البشرية؛ فالإنسان مجبول على حب المال والولد حبا شديدا، ويحب أن ينتقل المال إلى فرعه؛ لذا كان الميراث من أكثر أسباب النزاع بين الناس، ومن ثَمّ لم يجعل الله قسمته إلى نبي مرسل ولا إلى ملك مقرب وإنما تولى سبحانه قسمته بنفسه.
وفي قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} (سورة النساء: 11) جملة من الحِكَم والدلالات، أهمها، التعبير بلفظ (يوصيكم) الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في شأن توصية الآباء بالأبناء، والتعبير بلفظ (يوصيكم) له ملحظ جميل، فمعنى يوصيكم يأمركم، وعدل إلى لفظ الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام، وطلب حصوله سرعة.
ومع أنه أضاف الأولاد إليهم بقوله {أولادكم}، جعل الوصية لنفسه دونهم- ليدل على أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده، وجاء بالاسم الظاهر ولم يقل (أوصيكم) ولا (نوصيكم) كما قال (نتلوها عليك) (البقرة : 252) و(نَقُصُّ عَلَيْكَ) (يوسف: 3)، لأنه أراد تعظيم هذه الوصية والترهيب من إضاعتها.
فوائد تربوية
وهناك فوائد تربوية من آيات الميراث، نتناولها في سياق مناقشة قضية المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة التي فندتها الشريعة الإسلامية، ومن هذه الفوائد:
- تحمل آيات الميراث في طياتها قيما تربوية مهمة، لها آثار إيجابية على الفرد والمجتمع، فهي ليست مسائل حسابية فحسب، وإن التزام العمل بآيات الميراث كما شرعها رب العالمين، يقوي أواصر المحبة بين الناس، ويقضي على الأطماع، وينهي المنازعات والخلافات بينهم.
- تطبيق آيات الميراث كما شرعها الحق- جل وعلا-، يسهم في بناء المجتمع الإسلامي على قواعد المحبة والترابط، إذ أساسها العدل المبني على علم الله المحيط بكل شيء، فبها يعم الأمن والاستقرار وتنتشر الخيرات.
- راعى الإسلام درجة القرابة، واتصال النسب في توزيع المواريث بين مستحقيها، لأنهما أقوى العلاقات، وشجع على العمل والنشاط بحب ورغبة، لأن مآل المال للأقرباء، حسب الدرجة الأقوى من القرابة.
- إن تطبيق آيات الميراث كما شرعها الله سبحانه وتعالى ينمي روح التعاون والتكافل بين أراد الأسرة الواحدة، ومن ثم بين المجتمع كله، فيدعِّم ذلك بنيان المجتمع المسلم، ويجعله قويا متماسكًا.
- المضامين التربوية في آيات الميراث كثيرة ومتعددة، بعضها يمكن معرفته واستنباطه، ومنها ما لا يعلمه إلا العليم الخبير سبحانه وتعالى.
- ومبدأ العدل في آيات الميراث هو الأصل المتعدد عليه، فلكل ذي حق حقه، وقد كرم الإسلام المرأة، ورفع من شأنها، فأعطاها نصيبًا في الميراث، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، إلى جانب وجوب النفقة عليها.
إن آيات الميراث تتضَمَّنُ قيمًا تربوية مهمة، لها آثارها الإيجابية على الفرد والمجتمع، وتطبيق هذه المبادئ من شأنه أنْ يرسخ قواعدَ المحبةِ والترابطِ في المجتمعات، وإنَّ تقسيمَ الميراث مبنيٌّ على مبدأ العدل، الذي يعتمد على إيصال الحقوقِ إلى أهلها على قدْرِ مَا يستحق عليهم من تكاليفَ وواجباتٍ.
المصادر والمراجع:
- الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 4/ 257.
- محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير 3/ 1601.
- الرازي: تفسير الرازي 9/ 519.
- السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن ص: 57.
- الزمخشري: تفسير الزمخشري 1/ 484.
- السهلي: الفرائض وشرح آيات الوصية ص: 34.
- محمد شرعي أبو زيد، وعلاء الدين حسين رحمي، دراسة بعنوان القيم التربوية في آيات الميراث.