انشغل العالَمُ المعاصِرُ بصراعاتِ إنسانيَّة ومُعارَضاتِ فِكريَّةِ عديدة، لعلَّ من أبرَزِها قضية المساواة بين المرأة والرجل التي تُعَدُّ أساسًا فكريًّا للحركة النِّسْويَّة الغربيَّة، حيث عَقَدت من أجلها المؤتمراتُ، ووقّعت الاتفاقيَّات؛ بقصد فرضها على الأُممِ كُلّها، وفي سبيل ذلك برَزَت حول هذه القضيَّةِ سهام الشُّبهات؛ تَشكيكًا في المُسلَّماتِ، وتأويلًا للقطعيَّات.
ولو نظرنا إلى هذه القضية لوجدنا أنه من الظلم أن تُساوى المرأة بالرجل من كل الجوانب؛ لأن هناك فروقًا واضحة بين الذكر والأنثى؛ ولذلك يقول الله- عز وجل-: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]، فالإسلام لا يدعو إلى المساواة بين الجنسين من كل الجوانب، ومن يدعو إلى المساواة ويتجاهل الفروق بينهما في الخلقة والتكوين، يُوقع المرأة في ظلم، لأنه بذلك يكلفها بما لا يناسب خلقتها وطبيعتها التي خُلقت عليها.
مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة
ويتضح لنا مفهوم المساواة بين الرجل والمرأة من خلال تعريف المساواة أولًا، وهي المماثلة والمعادلة، ويقول الراغب الأصفهاني: المساواة هي المعادلة المعتبرة بالوزن والكيل، يقال هذا الثوب مساوٍ لذلك الثوب، وهذا الدرهم مساوٍ لذلك الدرهم وساويت هذا بهذا، أي: رفعته حتّى بلغ قدرَهُ ومَبْلَغَه.
ويقول الله عزّ وجلّ: {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف: 69]، وقال ابن فارس: السين والواو والياء أصلٌ يدلُّ على استقامةٍ واعتدال بين شيئين، يقال هذا لا يساوي كذا، أي لا يعادله، وفلانٌ وفلانٌ على سَوِيّةٍ من هذا الأمر، أي سواءٍ.
أما العدل: فهو ضِدُّ الْجَوْرِ يُقَالُ: عَدَلَ عَلَيْهِ فِي الْقَضِيَّةِ فَهُوَ عَادِلٌ. وَبَسَطَ الْوَالِي عَدْلَهُ وَمَعْدَلَتَهُ بِكَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا. وَفُلَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْدَلَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. وَرَجُلٌ عَدْلٌ، أَيْ رِضًا وَمَقْنَعٌ فِي الشَّهَادَةِ. فالعدل هو الإنصاف وإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه.
ومما تقدم من التعريفات اللغوية، يتبيّن أن ثمة فرقًا بين المساواة والعدل، فالمساواة تعني رفع أحد الطرفين حتى يساوي الآخر، أما العدل فهو إعطاء كل ذي حق حقه، وهناك من يخلط بين هذين المصطلحين ويظن أن معنى المساواة مرادف لمعنى العدل، وهذا ليس صحيحًا إلا في حالة تماثل المتساويين من كل وجه- وهذا لا يكاد يوجد.
ومع هذه الدعوات المشككة، لا بُد من أن نفهم أنَّ المرأة في أوروبا عاشت قرونًا مُظلِمةً، فكانت في نظَرِ الكنيسةِ هي أصلَ الخطيئةِ، ورأسَ الشَّرِّ، ولم تكن المرأةُ الأوروبيَّة تتمتَّعُ بأيَّةِ حقوقٍ؛ ولأجلها قامت الثَّورة الفرنسيَّة تحت شعار: “الإقطاع والمساواة والحرية”.
ولنا في واقع الغرب والشعوب التي قلّدته في المساواة المطلقة المزعومة عِبرة وعِظة، فبرغم كل القوانين والمؤتمرات، فإن ما تحقق فعليًّا هو مساواة شكلية، ولا تزال مشاركة النساء في المناصب القيادية السياسية والعسكرية والاقتصادية محدودة للغاية، وفي المقابل تدّمرت الأسرة بشكل هائل، وما تزال الجرائم ضد المرأة في ازدياد مما حدا بكثير من القيادات النسائية لإعلان تراجعهن عن فكرة المساواة المطلقة بالرجل واعترافهن بخطر هذه الفكرة.
ميادين المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام
والإسلام يأمر ويُقرر المساواة بين المرأة والرجل في جوانب عديدة، ويأمر ويقر بالعدل في ميادين أخرى، وهو ما يُحقق الرضا والمودة بين الجنسين.. أما عن ميادين المساواة فهي:
- المساواة في الإنسانية: يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء: 1].
- المساواة في التكاليف الدينية: يقول عز وجل: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
- المساواة المالية: يقول- جل وعلا-: (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) [النساء: 7].
- المساواة في الحقوق والواجبات الزوجية والحياتية والمدنية في غالبيتها، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 228].
- المساواة في الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وقال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة: 38].
وبخلاف هذه المساحات الواسعة من المساواة التي شرعها الإسلام، هناك ميادين أخرى تعامل فيها الشرع بالعدل مراعاة لطبيعة المرأة، ومن هذه الميادين:
- تخفيف بعض التكاليف الشرعية عن المرأة، كصلاة الجماعة والجهاد، واختصاصها بتكاليف أخرى مثل الحجاب.
- جعل قوامة الأسرة بيد الرجل.
- جعل نصيب الأخت في الميراث نصف نصيب الأخ، بينما في حالات أخرى في الميراث تتساوى الأم مع الأب، وحالات أخرى يفوق فيها نصيب المرأة نصيب الرجل.
- جعل شهادة المرأتين في القضايا العامة تعدل شهادة الرجل، بينما تقبل شهادة المرأة منفردة في القضايا التي لا يطلع عليها الرجال غالبًا من الولادة والرضاعة وما شابه.
الرجل ليس أفضل من المرأة
وفي ظل المعارك التي تدور حول مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء، فقد حسم الإسلام ما يتردد بشأن أن عدم المساواة المطلقة يعد أفضلية للرجل على المرأة، إذ أكد أن هذه الدعوة جائرة ومعركة عبثيّة.
وأكد الإسلام أن الاختلاف بين الرجل والمرأة في التّكوين والقدرات البدنيّة يقتضي أن تكون العلاقة بينهما تكاملية وظيفيّية، وبالتالي فإن معيار الأفضليّة مفقود منطقيًّا، لأن التفاضلٌ في الصّفات يقود إلى التّكامل في الأعمال وأداء المهام.
وفصّل المفكّر علي عزت بيجوفيتش هذه الجزئيّة في كتابه (عوائق النّهضة الإسلاميّة) إذ يقول: “هل يُقرِّر الإسلام مساواة الرّجل بالمرأة؟ الجواب: نعم ولا.. نعم، إذا تحدَّث عن المرأة باعتبارها شخصيّة إنسانيّة ذات قيمة شخصيّة مساوية تتحمّل واجباتٍ أخلاقيّة وإنسانيّة؛ ولا، إذا كان الأمر يتعلّق بالتّساوي في الوظائف والدّور في الأسرة والمجتمع، كما يُفهم معنى المساواة في أوروبا عادة”.
ويضيف بيجوفيتش: “يُمكن تصوّر قضيّة التفوق أو الدّونية فقط بين أشياء من جنسٍ واحد، والمرأة ليست أعلى ولا أدنى؛ لأنها- بكلِّ بساطة- مُختلفة عن الرّجل؛ لذلك تسقط المقارنة، ومن ثمّ يسقط تحديد الأعلى أو الأدنى. فلا معنى للسّؤال: أيّهما أهمّ: القلب أم الرّئة؟ لأنّ كلًا من العضوين لا يمكن أن يقوم بوظيفة الآخر، بل إنّ الاختلاف بينهما يُعطي قيمةً خاصّة لأحدهما بالنّسبة للآخر”.
وأكد المعنى نفسه، الإمام الطّاهر بن عاشور، حيث يقول في كتابه (مقاصد الشريعة الإسلاميّة): “الإسلام دين الفطرة، فكلّ ما شهدت الفطرة بالتّساوي فيه بين المسلمين فالتّشريع يفرض فيه التّساوي بينهم، وكلّ ما شهدت الفطرة بتفاوت البشريّة فيه، فالتّشريع بمعزلٍ عن فرضِ أحكامٍ متساويةٍ فيه”.
ومن هنا فإن الدعوات التي تنادي بضرورة المساواة بين الرجل والمرأة دون النظر إلى جوانب العدل نحدها قاصرة وظالمة، سيما أنّها خارجة من مجتمعات ذهبت إلى تكريس الظّلم، وتوسيع مساحة التّمييز بين الّرجل والمرأة بصور لا علاقة لها بالإسلام وتشريعاته العادلة.
ولا شك أن المناداة في الغرب بفكرة الجنس الموحد، التي ترفض أن يكون تقسيم العمل مبنيًّا على اختلاف الجنسين، مناداة لا تستقيم مع روح الشريعة الإسلامية، التي وإن أباحت للمرأة ممارسة العمل في حقوله الكثيرة، فإنها تركّز على الوظيفة الأساسية لها كزوجة وأم، وهي وظيفة تمنحها جل الاحترام في المجتمع المسلم.
وفي ظل تحديات الغرب لأحكامَ الشَّريعة الإسلامية التي تُوجِبُ التَّمايُزَ العادِلَ بين المرأةِ والرَّجُل، يلزم على العلماء والمربين في هذه الأمة بثُّ الوعيِ لأفراد المجتمعاتِ عبرَ إنشاءِ مَراكِزَ متخصِّصةٍ في قضايا المرأة؛ لترد على مثل هذه القضايا، وإقامةُ دَوراتٍ علميَّة في تحريرِ المُصطلحات الأممِيَّة، وبيانُ حقيقةِ المصطَلَح في الواقِعِ المعاصِر، وتوضيحُ الموقِف الشَّرعيِّ منه.
المصادر والمراجع:
- الراغب الأصفهاني: مفردات غريب القرآن، ص 251.
- ابن فارس: مقاييس اللغة، 3/12.
- الرازي: مختار الصحاح، ص 202.
- أسامة شحادة: المرأة والرجل علاقة مساواة وعدل.
- علي عزت بيجوفيتش: هل يُقرِّر الإسلام مساواة الرجل بالمرأة؟
- الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 279.