تختلف المسؤولية الأخلاقية في التربية الإسلامية القائمة على إفراز الصالحين وتقويم السلوكيات غير الإنسانية، عن تلك المسؤولية القائمة على النظريات الغربية التي تهتم في المقام الأول بالإنسان المنتج بغض النظر عن كونه مصلحًا أم فاسدًا، وهو ما أوقع المجتمعات غير الإسلامية التي تتبنى هذا الطريق في أزمات أخلاقية شديدة ومتنوعة.
ورغم المحاولات العديدة لإيجاد إطار أخلاقي يحكم الناس ويضبط تصرفاتهم وسلوكياتهم، فإنّ ثقافة الاختلاف والتربية الحديثة التي تدين بها كل دولة حالت دون تحقيق هذا الحلم الذي يحتاج في الأساس إلى منهجٍ مُوحدٍّ وسهل التطبيق، وهو ما يتوفر في المنهج الإسلامي الذي يجمع ولا يُفرّق، ويُرشد إلى الطريق الصحيح لإرساء أخلاق حميدة في المجتمعات.
تعريف المسؤولية الأخلاقية
وتتلخّص معاني المسؤولية الأخلاقية في تعريف الأخلاق لغة واصطلاحًا، وبعض التعريفات التي ساقها عدد من اللغويين، كالتالي:
في التعريف اللغوي: الأخلاق جمع خُلق ويراد به عدة معانٍ، منها:
(أ) الطبع: وهو الصفة الرّاسخة التي جبل عليها الإنسان دون إرادة منه ودون قصد إليها أو سعي في طلبها.
(ب) العادة: وهي الصفة الرّاسخة التي يكتسبها الإنسان عن طريق المران والتدريب أي بإرادته وقصده.
(ج) السجية: وتشمل الخلق المطبوع والمكتسب الذي صار عادة.
أما التعريف الاصطلاحي فقد اختلف حوله علماء الأخلاق وفلاسفته وتعددت تعريفاتهم تبعا لاختلاف مذاهبهم الأخلاقية ومن هذه التعريفات تتمثل في:
ما قاله حاجي خليفة بأن الأخلاق هي: “علم بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها، ومعرفة الرذائل وكيفية توقيها لتتخلى عنها”.
ويقول مسكويه، إن الأخلاق: “حالٌ للنفس داعيةٌ لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية”، ثم يُبين أنّ الحال ينقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل مزاج الإنسان، ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدريب وبالروية والفكر ثم يستمر عليه حتى يصير ملكة وخلقًا. فهو يتحدث عن الأخلاق المكتسبة التي تنمو وتثبت بالعادة والاستمرار.
ويقول الغزالي في معنى حسن الخلق: “الخَلْق والخُلُق عبارتان مستعملتان معا يقال: فلان حسن الخَلْق والخُلُق أي حسن الظاهر والباطن. فيراد بالخَلق الصورة الظاهر ويراد بالخُلق الصورة الباطنة وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة.
المسؤولية الأخلاقية في الإسلام
إنّ الإسلام يعتبر المسؤولية الأخلاقية أساس التقدم والحضارة وثمرة العقيدة ومبادئها، لذا حثّ الناس على الالتزام بالأخلاق لصياغة الإنسان السوي بمعيار الفضيلة التي تنشدها الشريعة، وهو ما يفسر ثناء الله تعالى على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4] ، كما حدد النبي – صلى الله عليه وسلم- الغاية الأولى من بَعثته بقوله: “إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق” (أخرجه أحمد).
فالأخلاق في الإسلام هي الدعامة الأولى في حفظ كِيان الأمم، لذا كانت العناية بها تفوق كل عناية، بل إنّ ازدهار الأمم حضاريًّا يتوقف على مدى شيوعها والالتزام بها، والعكس بالعكس، إذا سقطت الأخلاق سقطت الدولة معها.
والإسلام ينظر إلى النفس على أنّها فطرة طيّبة ترمي إلى الخير، ولها نزعات طائشة تزين لها الشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس 7، 8] كما جاء الإسلام ليحترم الفطرة الخالصة ويكبح الأهواء الجامحة، وأمر بالعبادات لتدعيم الفطرة وترويض الهوى، ومجتمع بلا عقيدة هو مجتمع بلا أخلاق، فالخلق هو الدين كله وهو الدنيا كلها، وإنما تنهض الأمم بفضل رجال ملكوا نفوسًا قوية وعزائم صادقة وأخلاقًا حميدة.
وقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في كل خُلُق حَسن؛ فقد كان دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب ولا عتاب ولا مداح، لم يسأله أحد شيئًا وردّه خائبًا.
ومن الأمور التي تهدف إليها فرائض الإسلام وتكاليفه أن يتعوّد المسلم أن يحيا بأخلاق صحيحة متمسكًا بها مهما تغيّرت الظروف، فالصلاة: {تَنْهَى عَن الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَر}، والزكاة: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}، والصوم: “إنما الصيام من اللغو والرفث”، فالعبادات هي مدارج الكمال المنشود، فإذا لم يستفد منها المرء ما يزكي نفسه فقد هوى.
الأخلاق في نظريات وتعاليم الغرب
ورغم أنّ المسؤولية الأخلاقية من أهم ما تميزت به التربية الإسلامية، فإنّ نظريات الغرب وتعاليمه ركّزت جُل اهتمامها على وسائل الحياة وأهملت الغايات والمقاصد، واستهدفت المُواطن المنتج أكثر من المواطن الصّالح المُصلح، ما أوقعها في أزمات أخلاقية متلاحقة.
اختلف العلماء قديما وحديثا فلاسفة وغير فلاسفة حول مسؤولية الإنسان عن أخلاقه؛ وهل الأخلاق فطريّة أم مكتسبة، وفيما يلي عرض بعض هذه الأقوال ثمّ بيان رأى التربية الإسلامية في ذلك:
- يقول الفيلسوف الألماني (شوبنهاور): يولد الناس أخيارًا وأشرارًا كما يُولد الحمل وديعًا، والنمر مفترسًا وليس لعلم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس وعوائدهم كما يصف التاريخ الطبيعي حياة الحيوان.
- ويقول (كانت): إن الذي يشاهد موقف الإنسان في ظرف معين ويعرف سوابق تصرفاته في مثل هذا الموقف يستطيع أن يتنبأ تنبؤا هادفًا بما سيفعله في هذا الظرف المعين كما يتنبأ العالم الفلكي بكسوف الشمس وخسوف القمر في ساعة محددة.
والملاحظ أنّ الفلاسفة الأوروبيين غلبت المادة على عصرهم ورأوا ما فيها من قوانين علمية ثابتة وأرادوا أن يبسطوا نتائجها على سائر العلوم حتى الاجتماعية والأخلاقية، فهم لذلك يُصورون لنا البشرية عاجزة عن التحوّل والتطور، وهذا أمر غير مقبول عقلا وشرعًا، وينافي الحكمة والضرورة في إنزال الكتب وإرسال الرسل ووضع الشرائع والقوانين، وحاشا أن يكون ذلك كله عناء بغير جدوى أو تكون دراسة الأخلاق نفسها ملهاة أو شبه ملهاة.
وأول ما نلاحظه على هذه الأقاويل شذوذها ومخالفتها لما أجمع عليه المفكرون في نظرتهم للأخلاق مع اختلافهم في شأن الفطرة الإنسانية.
وقد انقسم فلاسفة الأخلاق والتربية في هذه المسألة إلى مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: يرى أصحابه أنّ الإنسان خيّر بطبعه والشر عارض له، وهو مذهب المتفائلين أمثال، جان جاك روسو وسقراط، وذهب إليه ابن تيمية وابن القيم وجماعة من السلف.
المذهب الثاني: يرى أصحابه أنّ إلانسان شرير بطبعه والخير طارئ عليه؛ وهو مذهب المتشائمين إليه، کالبوذية وأشباههم، وكذلك مذهب أفلوطين المصري ومعظم رجال الكنيسة المسيحية الذين يرون أنّ الانسان منذ خطيئة آدم قد صار شريرًا لا حيلة له في إصلاح نفسه فلا تصير إلى الخير إلا بالتأديب والتهذيب أو عوامل البيئة والوراثة.
المذهب الثالث: يرى أصحابه أنّ إلانسان خُلِقَ مُستعدًّا للخير والشر جميعًا وهو مذهب جمهور الفلاسفة وعلماء النفس والتربية في العصر الحديث، وقال به كل من الغزالي وابن خلدون وقبلهما ابن مسکویه، وهو موافق لما قرّره الإسلام؛ والنصوص الإسلامية تؤكد هذا المذهب الوسط، فقال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3]، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8].
الأخلاق والطابع الشخصي
تُعد المسئولية الأخلاقية والدينية طابع شخصي بحت، لقول الله تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15].
ويتضح من الآية الكريمة، أنّه لا يُمكن أن يحدث في مجال الثواب والعقاب أي تحويل أو مشاركة أو التباس، وعلى ضوء ذلك حُلّت قضية “خطيئة آدم” ومزاعم النصارى حولها، فالإنسان مسؤول عن كل مبادرة حسنة أو سيئة يكون لها آثار تتجاوز حدودها أو نتائجها المباشرة.
وفي الحديث النبوي الشريف: “من سنَّ سنةً حسنةً فله أجرُها ما عملِ بها في حياتِه، وبعد مماتِه حتى تُترَكَ، ومن سنَّ سنةً سيئةً فعليه إثمُها حتى تُترَكَ، ومن مات مُرابطًا جرى عليه عملُ المرابطِ حتى يُبعثَ يومَ القيامةِ” (صحيح ابن ماجة). كما أن الإنسان مسؤول عن تصرفات غيره إذا تركه يُسيئ دون أن يمنعه، قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78 – 79].
وأمّا ما يتعلق بموضوع الشفاعة، فإنها ليست تدخلا خارجيا يتغير مصير المشفوع له بناء عليه، فهذا المعنى من صميم الوثنية العربية وقد صوّبه القرآن الكريم، فقال تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]، والمفهوم الإسلامي للشفاعة هو: أن الشفيع لا يسمح لنفسه بالتدخل من تلقاء نفسه، ولا يقترح التدخل، وإنما هو الله الذي بيده الأمر وهو الذي يأذن بالكلام، والشفيع لا يتدخل إلا من أجل من يرتضي الله قبوله، والشفيع لا يستند إلى جاهه وإنما يتوسل ببعض حسنات المشفوع له.
المصادر:
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار ابن حزم، بيروت، 2005 م.
- أبو علي أحمد بن محمد بن مسكويه: تهذيب الأخلاق، المطبعة الحسينية، القاهرة، 1908 م.
- إيمان عبد المؤمن: الأخلاق في الإسلام.. النظرية والتطبيق، مكتبة الرشد، الرياض 1424 هـ.
- حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مكتبة إحياء التراث، بيروت.
- محمد الغزالي: خلق المسلم، دار الريان للتراث، القاهرة 1987 م.
- محمد ربيع محمد جوهري: أخلاقنا، دار الفجر الإسلامية، المدينة المنورة 2006 م.