إن المراقبة لله- عز وجل- صفة من صفات المؤمن الحق، وهي خلق عظيم من أخلاق الإسلام، ومقام جليل من مقامات الدّين، ومنزلة عظيمة من منازل العبودية لله رب العالمين، بها تُقبل النفوس على الطاعات والقربات، وتكون الحماية والوقاية من الفواحش والمنكرات، ويكون الدواء والعلاج للمعاصي والموبقات، فيعيش العباد في الدنيا في سعادة وهناء، ويتبوؤون في الجنة أعلى الدرجات.
ولقد اهتمت الشريعة الإسلامية بصلاح القلب وصفائه واستقامته كاهتمامها بالجسد وصحته وسلامته، بل إنها جعلت أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وأعطتْ القلب دور الرّيادة والقيادة والتوجيه، بينما الجوارح تستجيب لندائه وتخضع لسلطانه. وأعمال القلب- من الصبر، الإخلاص، والتوكل، والتقوى، والتفكر، والخشوع، والرضا، وغير ذلك، هي الغاية من أعمال الجوارح، وهي التي تحفظ على العبد دينه، وتسلحه ضد شياطينه، ولا يزكو القلب ويطهر إلا بهذه الأعمال الشريفة، التي تقرب العبد من ربه وتطوع له جوارحه لعبادته وطاعته.
المراقبة لله في القرآن والسنة
وقبل أن نسوق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على المراقبة لله- سبحانه وتعالى-، نشير إلى معنى هذا العمل القلبي العظيم، فهي مصدر من قولهم: راقب مراقبة، وهو مأخوذ من مادة: (ر ق ب) التي تدل على الانتصاب لمراعاة شيء، ومن ذلك الرقيب، وهو الحافظ.
وعرفها ابن القيم- رحمه الله- بأنها دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق- سبحانه وتعالى- على ظاهره وباطنه. فاستدامته لهذا العلم واليقين، هي المُراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة…”، وقال: إنها هي التعبد باسمه الرّقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير، فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة.
وتضافرت نصوص الوحي على تقرير هذه العملي القلبي؛ فقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة: 235]، وقال سبحانه: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
وقال سبحانه: (وَما تَكونُ في شَأنٍ وَما تَتلو مِنهُ مِن قُرآنٍ وَلا تَعمَلونَ مِن عَمَلٍ إِلّا كُنّا عَلَيكُم شُهودًا إِذ تُفيضونَ فيهِ وَما يَعزُبُ عَن رَبِّكَ مِن مِثقالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكبَرَ إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ). [يونس: 61]، وقال جل شأنه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
ومما جاء في السنة النبوية المطهرة عن هذا العمل القلبي، ما رواه أبو هريرة- رضي الله عنه-، عن رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قال: قالَ اللَّهُ- عزَّ وجلَّ-: “إذا تَحَدَّثَ عَبْدِي بأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً، فأنا أكْتُبُها له حَسَنَةً ما لَمْ يَعْمَلْ، فإذا عَمِلَها، فأنا أكْتُبُها بعَشْرِ أمْثالِها، وإذا تَحَدَّثَ بأَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فأنا أغْفِرُها له ما لَمْ يَعْمَلْها، فإذا عَمِلَها، فأنا أكْتُبُها له بمِثْلِها. وَقالَ رَسولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: قالتِ الملائِكَةُ: رَبِّ، ذاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وهو أبْصَرُ به، فقالَ: ارْقُبُوهُ فإنْ عَمِلَها فاكْتُبُوها له بمِثْلِها، وإنْ تَرَكَها فاكْتُبُوها له حَسَنَةً، إنَّما تَرَكَها مِن جَرَّايَ. وَقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إذا أحْسَنَ أحَدُكُمْ إسْلامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ بعَشْرِ أمْثالِها إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها تُكْتَبُ بمِثْلِها حتَّى يَلْقَى اللَّهَ” (مسلم).
وفي حديث جبريل- عليه السلام- أنه سأل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الإحْسَانُ؟ قالَ: “أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ” (البخاري)، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ” (البخاري).
ولم يكفِ النبي- صلى الله عليه وسلم- بالكلام فقط عن أهمية مراقبة الله سبحانه، بل كان يُعلّم أصحابه ويُربّيهم على هذه الفضيلة في مواقف عملية كثيرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه – أَنّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: “مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟”، قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي” (مسلم).
وصحّ عند الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس- رضي الله عنه- ما قال: “كنتُ رديفَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فقال لي : يا غلامُ – أو يا بنيَّ – ألا أُعلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟. فقلتُ : بلى ، فقال : احفظِ اللهَ يحفظْك ، احفظِ اللهَ تجدْه أمامَك ، تعرَّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفُك في الشدَّةِ ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ ، وإذا استعنتَ فاسْتعنْ باللهِ… الحديث).
هذه المدرسة النبوية التربوية أفرزت جيلا يخاف الله ويراقبه في كل صغيرة وكبيرة، فعن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده أسلم، قال: بينا أنا مع عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- وهو يعس (يطوف بالليل) المدينة إذ عيي (عجز)، فاتكأ إلى جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا ابنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه (اخلطيه) بالماء. فقالت لها: يا أمَّاه! أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين اليوم؟ قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية! قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فإنَّك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر. فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه! والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء.
وعن زيد بن أسلم قال: مر ابن عمر براعي غنم، فقال: يا راعي الغنم ، هل من جزرة؟ قال الراعي: ما ليس هاهنا ربها . قال : تقول أكلها الذئب ، فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟ فقال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله. فاشترى ابن عمر الراعي، واشترى الغنم، فأعتقه وأعطاه الغنم”، (الطبراني).
وقد سار التابعون والصالحون على درب الصحابة الكرام في الالتزام بهذا العمل القلبي، فها هو ابن الجوزي- رحمه الله- يقول: “الحقُّ عز وجل أقربُ إلى عبده من حبل الوريد، لكنه عامَل العبد معاملة الغائب عنه البعيد منه، فأمر بقصد بيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له، فقلوب الجهَّال تستشعر البعد؛ ولذلك تقع منهم المعاصي؛ إذ لو تحقَّقت مراقبتهم للحاضر الناظر لَكَفُّوا الأكفَّ عن الخطايا، والمتيقِّظون علِموا قُربه، فحضرتهم المراقبة، وكفَّتْهم عن الانبساط”.
وقال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيرها فقال: كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل. وسئل الحارث المحاسِبي عن المراقبة فقال: علم القلب بقرب الله تعالى”. وعن ابن السماك قال: أوصاني أخي داود بوصية: أنظر، أن لا يراك الله حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك؛ واستح في قربه منك، وقدرته عليك. وعن الفضل بن صدقة الواسطي قال: سمعت ذا النون المصري يقول: إذا اطلع الخبر على الضمير، فلم يجد في الضمير غير الخبير: جعل فيه سرجاً منيرا.
وحرص الصالحون في العصر الحديث والمعاصر على مراقبة الله- جل وعلا- وحث المسلمين على التمسك بهذا العمل القلبي، فها هو الإمام الشهيد حسن البنا- رحمه الله- يقول في رسالة (طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين): “ونحن نلمس أن المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله والتعزي بمعرفته، ومن هنا كان لزاماً علي الناس أن يعودوا إلى الإيمان بالله والنبوات وبالروح وبالحياة الآخرة”.
وفَطِنَ الشيخ يوسف القرضاوي- رحمه الله- أهمية مراقبة الله سبحانه، فيقول: “إن صاحب المُراقبة لا يسترسل في المعاصي؛ إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألمَّ بشيء منها يكون سريع التذكر، قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
الطريق إلى تحقيق المراقبة لله
والطريق الموصِّل إلى المراقبة لله تعالى، الذي سار عليه العارفون فوصلوا إلى قمة والخوف من الله تعالى، يتطلب الآتي:
- التعرَّف إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته: فالإيمان بأسماء الله تعالى: الرقيب، والحفيظ، والعليم، والسميع، والبصير، والتعبُّدُ لله تعالى بمقتضاها يورث مراقبة الله، فالرقيب الذي يَرصُد أعمال عباده، والحفيظ الذي يحفظ عباده المؤمنين، ويُحصي أعمال العباد، والعليم الذي لا تخفى عليه خافيةٌ من أمور عباده، والسميع المدرِك للأصوات، والبصير الذي يرى كل شيء؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
- تحقيق مرتبة الإحسان: وهو مرتبط كل الارتباط بما قبله من معرفة الله جل وعلا، معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته.
- شهادة الجوارح يوم الفضائح: قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ﴾ [فصلت: 20-24].
- شهادة الأرض: فإذا دعتْك نفسُك إلى معصية الله تعالى، تذكّر أن الأرض التي أنت عليها رقيبةٌ شهيدة عليك، ستشهد عليك يوم القيامة؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ؛ يقول الله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 – 5].
- تذكَّر أنك مراقَب مِن ملائكة كِرام يكتُبون كل صغيرة وكبيرة: يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 16-18].
- كثرة العبادة: فكلما أكثر الإنسان من الطاعات عسُر عليه أن يأتي المحرمات.
- ذكر الله سبحانه وتعالى: يقول ابن القيم- عن الذكر: “يُورّث المُراقبة حتى يُدْخِلَه في باب الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت”.
- اليقين الكامل بأن الله- عز وجل- عالم بالسر وأخفى: فلا فرق في علمه بين ما خفي وما بان، بل هو سبحانه يعلم بما يخفيه في نفسه قبل أن يقع في نفسه ولهذا قال البعض إن (أخفى) في قوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، [طه: 7]، هو السر قبل أن يوجد، فلا شيء أخفى من السر إلاَّ أن يراد هو ما قبل كونه سرّاً قبل أن يوجد.
- محاسبة النفس: فالعبد في حاجة دائمة إلى ملاحظة الأنفاس والخطرات في السر والعلن، فقد كان بلال بن سعد يقول: “لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت”.
ثمرات مراقبة الله
وهناك فوائد وثمرات تفرزها المراقبة لله- سبحانه وتعالى-، ومن ذلك:
- الإيمان: فعن عبد الله بن معاوية- رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ثلاثٌ من فعلهنَّ فقد طَعِم طعمَ الإيمان: “مَن عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله. وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمَة، ولا الدَّرِنَة، ولا المريضة، ولا الشَّرَطَ اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره. وزكى نفسه”. فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: “أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان” (أبو داود، والطبراني وصححه الألباني).
- البعد عن المعصية: ودليله حديث أبي هريرة- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلَّّق في المساجد، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله” (متفق عليه).
- تحسين العبادة وأداؤها: فالنبي- صلى الله عليه وسلم- ذكر تعريف الإحسان بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (متفق عليه).
- الطهر والعفاف: ففي حديث الثلاثة الذي يرويه عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- قال: “سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوُا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ، فَقالَ رَجُلٌ منهمْ: اللَّهُمَّ كانَ لي أبَوَانِ شَيخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهُما أهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بي في طَلَبِ شَيءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عليهما حتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُما نَائِمَيْنِ وكَرِهْتُ أنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُما أهْلًا أوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والقَدَحُ علَى يَدَيَّ، أنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ. فَانْفَرَجَتْ شيئًا لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها. قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الَّذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئُ بي! فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ.” (متفق عليه).
- الجنة: ومراقبة الله تورث الجنة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك/12].
- تساعد على غض البصر: سُئِلَ الْجُنَيْدُ- رَحِمَهُ اللهُ- بِمَ يُسْتَعَانُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ؟ قَالَ: بِعِلْمِكَ أَنَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ أَسْبَقُ مِنْ نَظَرِكَ إِلَى مَا تَنْظُرُهُ”.
- سبب الفوز بظل عرش الله يوم القيامة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ، (فَذَكَرَ مِنْهُم) وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ” (البخاري، ومسلم).
- تذكِّر المسلم بالموت: استحضار المسلم لمراقبة الله تعالى له في جميع أقواله وأفعاله، يجعل المسلم يتذكر الموت وشدته، فيُقبل على طاعة الله ويتجنب معصيته، قال سُبحانه: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19].
- تجعل المسلم أمينًا: وهو ما يتجلى في موقف الفتاة التي رفضت خلط اللبن بالماء خوفًا من الله جل وعلا وحده، وقد سمعها الخليفة عمر بن الخطاب حينما كان يمر على الرعية ليلًا ليتفقد أحوال الناس.
- تجعل المسلم متسامحًا مع الناس: فقد كان أبو حنيفة- رَحِمَهُ اللهُ- يبيع الخز (الحرير)، فجاءه رجلٌ فقال: يا أبا حنيفة، قد احتجت إلى ثوب خز، فقال: ما لونه؟ فقال: كذا وكذا، فقال له: اصبر حتى يقع وآخذه لك إن شاء الله، فما دارت الجمعة حتى وقع فمر به الرجل، فقال له أبو حنيفة: قد وقعت حاجتك، فأخرَج إليه الثوب فأعجبه، فقال: يا أبا حنيفة، كم أزِن للغلام؟ قال: درهمًا، قال: يا أبا حنيفة، ما كنت أظنُّك تهزأ، قال: ما هزأت، إني اشتريت ثوبين بعشرين دينارًا ودرهم، وإني بعت أحدهما بعشرين دينارًا، وبقِي هذا بدرهم، وما كنت لأربح على صديق.
هكذا كانت المراقبة لله تعالى حصنًا منيعًا، حمى السائرين في طريق الله من الانزلاق في الهاوية، وما أحوج البشرية اليوم إلى مقام مراقبة الحق سبحانه، في زمن كثرت فيه وسائل المكر والخديعة، وتعددت فيه وسائل الغش والتزوير، وقلّ فيه الخوف من الله العلي جل وعلا.
المصادر والمراجع:
- ابن القيم: مدارج السالكين، 2 /1489-1493.
- الجوهري: الصحاح في اللغة، 1/137.
- ابن منظور: لسان العرب، 5/279.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين للغزالي 4/ 297.
- الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/347.
- ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص 236.
- أبو نعيم: حلية الأولياء، 7/358.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، 70/253.
- ابن القيم: الوابل الصيب، 1/95.
- ابن المبارك: الزهد، ص 71.
- ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم والحكم، ص 162.
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13 / 362.