حَصّن الإسلام المال العام وأحاطَه بسياجٍ قوي، ليحميه من عبث العابثين، الذين يعتبرونه مِلكيّة خاصّة لهم، فيأخذون منه دون حسابٍ أو مراقبةٍ، واهمين أنفسهم بحججٍ تُزيّن لهم الإهدار والسلب على أنه حقّ معلوم، لكن مقتضى العدالة في توزيع هذا المال يعتمد على مراعاة المعايير التي وضعها الله – عز وجل – وبيّنها النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم طبّقها الصحابة والتابعون.
والحصانة الشرعية لمال المسلمين، وتوزيعه بالعدل على الناس جميعًا، عبّر عنها الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما قال: “والله الذي لا إله إلا هو ما أحد إلا وله في هذا المال حق أعطيه أو منعه، وما أحد أحق به من أحد، وما أنا فيه إلا كأحدكم، ولكنا على منازلنا من كتاب الله – عز وجل – وقسمنا من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقدمه في الإسلام، والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته في الإسلام. والله لئن بقيت ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو في مكانه قبل أن يحمر وجهه” (1).
غير أن ضعف الوازع الديني لدى كثير من الناس، مع انتشار الفساد، وغياب الرقابة الذاتية والمؤسسية جعلتهم يتفنّنون في المُخصّص للجميع بطرقٍ مُتعددةٍ، وبرّروا لذلك بقوانين وتشريعات، ليتخلّصوا من عُقدة الذنب التي قد تلاحقهم.
مفهوم المال العام
ومفهوم المال العام يتلخّص في أنه قوام الحياة بالنسبة للجماعة التي تعيش في مكانٍ واحدٍ، وفق تشريعات وقوانين واحدة، فهم يستعينون به لتعمير الأرض، وفق منهج الله، تبارك وتعالى، وهو مال الدولة والهيئات المحلية والمؤسسات العامة وأموال سائر الناس.
والْمَال: كلمة أصلها (مَالٌ) في صورة مفرد مذكر، وجذرها (مول)، وجذعها (مال)، وتحليلها (المال).
ومن ثمّ، يُعرف المال (كما جاء في لسان العرب): مَالَ مَوْلاً، ومُؤولاً فهو مالٌ، وهى مالَةٌ، ومَالَ الرَّجُلُ: كَثُرَ مَالُهُ. وهو (فعل: ثلاثي لازم، متعد بحرف) مِلْتُ، أَمِيلُ، مِلْ، مصدر مُيُولٌ (2).
وجاء مفهوم المال وفق المذاهب الفقهية بكونه اسم لجميع ما يملكه الإنسان. وأصله: ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره كالنقد وما يمكن أن يقوم مقامه.
وأيضا كلُّ ما يملكه الفرد أَو تملكه الجماعة من متاعٍ، أَو عُروض تجارة، أَو عقار أَو نقود، أَو حيوان (3).
ووضع البعض شروطًا لتعريف هذا المال، من حيث كونه مملوكا للدولة، ومخصصًا للمنفعة العامة، سواء كان لخدمة الأفراد مباشرة، مثل: الطرق وغيرها، أو لخدمة المرافق العامة، مثل: البنايات الحكومية وغيرها.
كيف نظر الإسلام إلى المال العام؟
أباح الإسلام إشباع رغبات النّفْس البشريّة ولبّى مطالبها ضمن حدود الشرع الحنيف، ومنها حب المال، لكنه نظّم ذلك في إطار الزّكاة، والإرث، والضمان الاجتماعي.
وبشأن المال العام، تنحصر وظيفة الدولة في تنظيمه وإدارته وتوزيعه بطريقة عادلة، باعتبارها وكيلة ونائبة عن الأمة فيه، يقول ابن تيمية – رحمه الله -: “وَلَيْسَ لِوُلاةِ الأُمُورِ أَنْ يَقْسِمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، كَمَا يَقْسِمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ; فَإِنَّمَا هُمْ أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلاءُ لَيْسُوا مُلاكًا” (4).
لذا، فلا يجوز لأحد امتلاك هذا المال أو استخدامه لمنفعته الشخصيّة، أو اختصاص طائفة به دون سائر الناس؛ لأنّ في هذا ظلم واعتداء على حقوق الآخرين. بل إنه لا يدخل ضمن الغنائم التي تُوزّع على المجاهدين، لأنه ملكيته لعموم الناس، والواجب الشرعي أن يُحافظ عليه قدر المستطاع ليبقى منفعة عامة، مع توفير الحراسة والحماية له.
أهمية حماية المَالِ العَام
المال العام هو مِلك للأفراد، لأنهم ساهموا جميعًا في تكوينه بالضرائب والزكاة، وغيرها من صور العطاء والبذل. لذلك شدّد الإسلام على أهمية صيانته والمحافظة عليه، ومعاقبة كل من تسول له نفسه، سواء كان موظفًا عامًّا، أو فردًا عاديًّا، الاعتداء عليه بالاختلاس أو الاستفادة منه دون سند شرعي، أو الرشوة، أو ترسِيَة العَطَاءات والمناقصات بغير وجه حق، أو عدم إتقان العمل، وإضاعة الوقت، أو التربح من الوظيفة، واستغلال المال لأغراض سياسية.
بل يدخل في إهدار هذا المال، سرقة التيار الكهربائي من الدولة بحجة أنها لا تُعطي المواطن حقّه، أو الحصول على عمولات من المشترين أو الموردين، لتسهيل بعض أمورهم دون علم الدولة، وإسناد أمرٍ عام لغير أهله من صور الاعتداء على المال، ولنا عبرة في قصة يوسف- عليه السلام -، وقصة ابنة شعيب التي طلبت من أبيها اختيار موسى لكونه القوي الأمين (5).
مخاطر استباحة المَالِ العَام
عظّم الإسلام جريمة السرقة، وبخاصة المال العام، فقال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران:161]، وشدد النّبي على حُرمة انتهاك هذا المال، أو إهداره أو تبديده أو استغلاله، فعن خولة بنت قيس الأنصارية قالت: “سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يقولُ: إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ” (البخاري).
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: “ورُبَّ مُتخوِّضٍ فيما شاءت به نفسُه من مالِ اللهِ ورسولِه، ليس له يومَ القيامةِ إلا النارُ” (الترمذي).
ويقول عمر بن الخطاب: “إني أنزلتُ نفسي مِن مال الله منزلةَ اليتيم، إن استغنيتُ منها استعففْتُ، وإن افْتَقَرتُ أكلتُ بالمعروف”.
وفيمن يُشرّعنون نهب مال الناس، وجعله ملكية خاصة سواء حكام كانوا أو موظفين عموميين أو أفراد، يقول فيهم عبد الرحمن الطوخي: “يَزْعُم البعض أنَّ له الحقَّ في التصرُّف في المال العام، ولو أتاه أحدٌ وأعطاه هَديَّة قَبِلَها؛ بحجَّة أنَّه صاحبُ حقٍّ في أخْذها، وليس كذلك، بل كلُّ ما يأْتي الإنسانَ من أموالٍ أو هدايا، وكان قائمًا أو عاملاً في عمل يخصُّ بيتَ المال، فإنَّ هَديَّته تُرَدُّ إلى بيت المال ولا يأْخُذها؛ إذ لو جَلَس في بيته ما حَصَل على هذه الهدايا والعطايا، وقد حَصَل على عهْد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: “فَهَلَّا جَلَسَ في بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ يُهْدَى له أَمْ لَا؟ والذي نَفْسِي بيَدِهِ لا يَأْخُذُ أَحَدٌ منه شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى رَقَبَتِهِ] (البخاري) (6).
ولو نظرنا إلى أسباب استغلال الأموال العامة، لوجدنا بينها، ضعف العقيدة، وانعدام المروءة، وسوء الخلق، وخلل في التربية، والجهل بأحكام الدين، إضافة إلى الخلل الإداري، وضعف الرقابة، وتغييب السلوكيات الإسلامية في المؤسسات، بل وتشويه القدوة الحسنة، وترقية الرويبضة، وتفشّى المحسوبية والمجاملات الشخصية، وضعف القيم الإيمانية.
نماذج عملية من حياة الصحابة والتابعين
التزم الصحابة والتابعون – من بعدهم – بالمنهج النبوي في التعامل مع المال العام الخاص بالمسلمين جميعًا، حتى استحقوا ما وصفهم به النبي، حينما قال: “خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ” (البخاري).
ولقد ضرب المسلمون الأوائل أروع الأمثلة في الحفاظ على أموال الأمة، سواء كانوا حُكَامًا أو أفرادًا، دون نقاش أو جدال، فحينما استقطع الرسول لأبيض بن حمال أرضًا باليمن، ثم تبيّن له أنه نفع عام عاد فانتزعها منه، تأكيدا على ضرورة الحفاظ على مال المسلمين، ونموذجًا لنزول الصحابي على موقف الرسول الكريم.
فعن أبيض بن حمال “أنَّه وَفَد إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستقطَعَه المِلحَ الذي بمَأرِبَ، فقَطَعَه له، فلَمَّا أن وَلَّى قال رَجُلٌ مِن المجلِسِ: أتدري ما قَطَعْتَ له؟ إنما قَطَعْتَ له الماءَ العِدَّ، قال: فانتَزَع منه](سنن أبي داود) ومعنى (الْمَاءَ الْعِدّ): الدائم الذي لا انقطاع لمنابعه، وما كان كذلك فهو ملك لعامة الناس.
وهذا عمر بن الخطاب، أرسل إلى عبد الرحمن بن عوف يستسلفه أربعمائة درهم، فقال عبد الرحمن: أتستسلفني وعندك بيت المال، ألا تأخذ منه ثم تردّه؟ فقال عمر: إني أتخوّف أن يصيبني قدري، فتقول أنت وأصحابك: أتركوا هذا لأمير المؤمنين؟ حتى يؤخذ من ميزاني يوم القيامة، ولكني أتسلّفها منك لما أعلم من شحّك فإذا متّ جئت فاستوفيتها من ميراثي (7).
ورَحِم الله عمر بن عبد العزيز، الذي كان ينظرُ في أمور الرعيَّة على ضوء مصباح في بيته، فلمَّا انتهى وبدأ النظرَ في أموره الخاصَّة، أطْفَأَ المصباح؛ حتى لا يستعمل مالَ المسلمين في غير ما هو لعامَّة المسلمين.
المَالُ العَام بين الحضارة الإسلامية والغرب
ارتكزت الحضارة الإسلامية في تعاملاتها الاقتصادية، على مبدأ الأخلاق والقِيم، وهو ما جعلها تسود في قرونها الأولى، ويصل مداها إلى دول لم تُفتح إلا عن طريق أخلاق التجار الذين كانوا يتعاملون مع الشعوب.
وهي ركائز حثّ الإسلام عليها، وشدد على الأخذ بها، غير أنه مع مرور الوقت، وتسرّب الوهن إلى نفوس الشعوب الإسلامية، انتشر الفساد وعَلَتْ الرشوة والمحسوبية، وزادت المؤامرات والدسائس ما أفقد هذه الحضارة أهميتها ودورها الريادي، بينما الحضارة الغربية أخذت ببعض القيم الإسلامية من باب تنظيم التعاملات الاقتصادية والرقابة العامة والذاتية ومحاسبة المخطئ والمقصر، فسادت وتقدّمت رغم ما أصابها من انحلال في مجالات أخرى.
ولو ظل الفساد يضرب المؤسسات في الدول الإسلامية، فيُعيّن غير الكفء بالمناصب القيادية وتغيب الرقابة، وتنتشر الرشوة والمحسوبية، فلن يتقدّم المسلمون قيد أنملة. لذا على الفرد المسلم أن يستشعر مدى مسؤوليته نحو الممتلكات العامة؛ لأنه حق له ولغيره وحق لأجيال أخرى قادمة.
المصادر
- أبو يوسف الأنصاري: كتاب الخراج، ص 46.
- ابن منظور: لسان العرب، باب الميم، جـ 13، دار الصادر، بيروت، 1401هـ، صـ 223.
- سليمان الطماوي: الوجيز في القانون الإداري (دراسة مقارنة) دراسة مقارنة – دار الفكر العربي– 1980م – صـ 48. وانظر أيضا تعريف ومعنى المال في معجم المعاني الجامع: https://bit.ly/2VsAJos
- ابن تيمية: السياسة الشرعية، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005، صـ26.
- عبد الرحمن الطوخي: حرمة المال العام في الإسلام، 19 فبراير 2011، https://bit.ly/3lq1Trh
- عبد الرحمن الطوخي: حرمة المال العام في الإسلام، 19 فبراير 2011، https://bit.ly/3lq1Trh
- أماني فوزي السيد حمودة: حماية المال العام بالدولة الحديثة في ضوء الشريعة الإسلامية، كلية الشريعة جامعة القصيم السعودية، 2016، صـ17- 21.