الكفالة النفسية لليتيم.. مراحل وأساليب وفوائد
الكلمة المفتاحية (الكفالة النفسية لليتيم)
رغم أهمية كفالة اليتيم من الناحية الاجتماعية والصحية والرياضية والأُسَرية، فإن الكفالة النفسية لليتيم لها أهمية قصوى، حيث اعتبر كثيرٌ من علماء التربية أنّ أشد أنواع اليُتم هو الذي يتعلق بالعاطفة والروح، فلا بُد من التواصل مع اليتيم وعدم تركه وحيدًا لفترات طويلة حتى لا يشعر بالعزلة.
ولقد اهتم القرآن الكريم باليتامى في جميع نواحي حياتهم، ليجعل منهم عناصر قوة للمجتمع، وليتضح لكلِّ منصفٍ أن القرآن سَبَق كل أولئك المطالبين بإنصاف اليتامى؛ بل أعطاهم – بتشريعاته الشاملة- ما يعجِز عنه أيُّ تشريع سواه.
بل إن رعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على الشريعة الخاتمة؛ بل كانت في الشرائع السابقة، فمن جملة مواد الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل: الإحسانُ إلى اليتامى؛ فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83].
الكفالة النفسية لليتيم في القرآن والسنة
لقد حقق الإسلام الكفالة النفسية لليتيم على أكمل وجه، فأوصى بمَن يبادله العطف والحنان، والتربية الصالحة؛ ليكون فردًا صالحًا، لا تُؤثر على نفسيته حياة اليُتم، ولا تترك الوحدة في سلوكه انحرافًا يسقطه عن المستوى الذي يتحلَّى به بقية الأفراد، ممن يتنعم بحنان الأبوة وعطفها.
ولما كان النبي – صلى الله عليه وسلم– قد نشأ يتيمًا، بيَّن الله- تعالى- له بأنه قد أنعم عليه، وكفله، وأغناه؛ فقال – تعالى-: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 6- 8]، وهذه الآيات الكريمة يُستنبط منها ما يحتاجه اليتيم في الحياة الاجتماعية، فهي بمجموعها تشكل بيان المراحل التي لا بُد لأولياء الأمور والمربين والمجتمع من اجتيازها؛ فاليتيم يحتاج إلى: المسكن الذي يأوي إليه، والتربية الصالحة بما تشتمل عليه من تأديب وتعليم وعطف؛ حتى لا يقع فريسة للضلال، ثمّ المال الذي يُنفق عليه منه.
وجاءت آيات القرآن الكريم لتراعي اليتيم من الناحية النفسية والاجتماعية؛ لينشأ نشأة سويَّة، فأمرتْ بإكرامه والرفق به، ونهتْ عن قهره وزجره وإهانته؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]، وهذه الآية الكريمة خطاب للأمة في شخص النبي – صلى الله عليه وسلم.
والحاجة في علم النفس تعني شعور الكائن بافتقاره إلى شيء ما، فإذا وجده يتحقق له الإشباع والارتياح النفسي، وللإنسان حاجات ناتجة عن طبيعة تكوينه (جسم وروح)، حيث يسعى دائمًا لإشباعها وهي نوعان: حاجات فسيولوجية، وأخرى نفسية، ومن هنا تأتي أهمية كفالة اليتيم نفسيًّا وهي تتمثل في:
- الحاجة إلى الرعاية الوالدية: تشير هذه الحاجة إلى أنّ الطفل يحتاج إلى أن يكون تحت رعاية الوالدين، يأخذ منهما العطف والحنان، كما يتحصل على الأمن والحماية.
- الحاجة إلى الحب: وهي من أهم الحاجات الانفعالية التي يسعى الطفل إلى إشباعها، والحب المتبادل المعتدل بينه وبين والديه وإخوته وأقرانه حاجة لازمة لصحته النفسية.
- الحاجة إلى الأقران: وهنا يحتاج الطفل إلى أن يعيش مع جماعة الأقران جزءًا من زمنه فيؤلف معهم صداقات، ويحاول أن يجعل من أقرانه مجتمعًا موازيًا للأسرة.
- الحاجة إلى التقدير الاجتماعي: ويحتاج الطفل اليتيم إلى أن يكون مُقدرًا من البيئة الاجتماعية المحيطة به، لكن إذا نظر له المجتمع بالنقص وأنه أقل من غيره فإن ذلك يقوده إلى عدم التوافق الاجتماعي والعزلة.
- الحاجة إلى الحرية والاستقلال: وتعني هذه الحاجة أنّ الطفل في مرحلة ما لم يعد ذلك الطفل الذي يعتمد على والديه في كل شيء.
- الحاجة إلى التحصيل والنجاح: وهي من الحاجات النفسية الملحة التي تبعث لدى الطفل اليتيم الشعور بالراحة والسرور، وتظهر هذه الحاجة عندما يحس بأنه على ما يرام في حياته الدراسية أو الأسرية، ويسعد بأنه قدم شيئًا ونجح فيه ونال التقدير والرضا.
- الحاجة إلى الأمن: يُعد الوالدان هما مصدر الأمان الأول بالنسبة للطفل، وغيابهما يؤدي إلى الخوف والقلق من المجهول ومن المستقبل؛ لذا فإن الطفل اليتيم يحتاج إلى الحضن الدافئ الذي يركن إليه ويستمد منه قوته ودافعيته خلال حياته.
- الحاجة إلى اللعب: يُعد اللعب من المطالب الضرورية للنمو السوي، ولا يستطيع الطفل أن يتجاوز اللعب في طفولته مهما كانت ظروفه، ويؤدي عدم إشباع هذه الحاجة إلى تأخر النمو في جوانبه النفسية والعقلية والاجتماعية وحتى الجسمية والحركية.
مراحل الكفالة النفسية لليتيم
إن الكفالة النفسية لليتيم تمر بمراحل عمرية تبدأ من الرضاعة وتنتهي مع البلوغ، وهي مراحل تأخذ صورًا متنوعة من السلوك لا حصر لها:
يتيم المراحل العمرية الأولى: ففي المراحل الأولى من حياة الطفل الرضيع نجده يتجه بمشاعره نحو أشخاص عديدين دون تمييز، أي لا يرتبط – انفعاليًّا- بشخص محدد، كما أن الاستجابات الانفعالية له تظل حادة وغير مركزة، وعامة دون تمايز ولا تلائم المواقف التي تثيرها، وتتنوع من بكاءٍ ورفس بالأيدي والأرجل وصراخٍ وتلوٍّ وتشنج ونحوه، كما يلاحظ أنّ الارتباط الانفعالي بينه وبين الآخرين يتكون تدريجيًّا من سِنّ ثلاثة عشر شهرًا حتى ثمانية عشر شهرًا.
وقد أكدت الدراسات النفسية أنّ الارتباط الانفعالي يحدث للأم والأب البديلين تمامًا مثلما يحدث للأم والأب الحقيقيين وبالمقدار نفسه، وأنّ الارتباط الانفعالي إذا حدث للأم والأب البديلين فإنه يستمر مع الطفل طوال الحياة.
ومما يدل على الإعجاز النبوي، فإن هذا النوع من الكفالة أي كفالة الحجر، أو الأسرة البديلة، كانت الغالبة في عصر الصحابة – رضي الله عنهم- كما يتبين لنا من استقراء الأحاديث الواردة في كفالة الأيتام، فالصحابة كانوا يضمون الأيتام إلى أسرهم.
وعندما يصل الطفل إلى مرحلة ما قبل المدرسة؛ فإن التعبير عن مشاعر الانفعالات النفسية يكون أكثر تمايزًا وأكثر وضوحًا من ذي قبل، فتراه يستطيع التفريق بين مشاعر الإحباط ومشاعر الخجل والإحساس بالذنب، كما يمكنه التمييز بين مشاعر الفرح والسرور والحب والدعابة، وتنمو لديه – أيضًا- مشاعر الغضب والعدوان وتظهر بوادر الغيرة والمنافسة، وترتبط هذه المرحلة كما يقول علماء النفس بظهور المخاوف والخيالات مع تولد روح المبادرة والإقدام، كذلك يتشكل لديه الضمير والوازع.
وفي مرحلة الطفولة المتأخرة قبل البلوغ يحاط الطفل ببعض مصادر القلق والصراع ويستغرق في أحلام اليقظة وتقل مخاوفه بصفة عامة، وقد أثبتت الدراسات أنّ شعور الطفل بتهديد أمنه مقابل شعوره بنقص قدراته في هذا الوقت من عمره يؤدي إلى القلق الذي يُؤثر بدوره تأثيرًا سيئًا على كل من النمو الفسيولوجي، والنمو العقلي، والنمو الاجتماعي.
إذن من الضروري للطفل اليتيم أن تتاح له المتع والمسرات السوية التي تعينه على الإقبال على نواحي النشاط التي تتحدى قدراته النامية.
الأساليب النفسية والدينية
وفي رحلة الكفالة النفسية لليتيم ورعايته، فإن هناك أساليب دينية ونفسية يجب أن يتبعها الوالدان البديلان أو المسؤولين عن تربية الأيتام، وهي كالتالي:
- العمل على زرع الحب والثقة في نفس اليتيم ومعاملته كالابن الحقيقي.
- إدخال البهجة والسرور إلى نفس اليتيم بالوسائل المشروعة.
- لين الكلام والكلمة الطيبة والثناء عليه.
- تدريبه على السلوكيات التي تُنمي فيه روح المسؤولية والاستقلالية والتضحية من أجل دينه.
- إمداد اليتيم بخبرات النجاح التي تُشكّل له دافعًا نحو التفاؤل بالحياة والمستقبل.
- إمداده بالعاطفة اللازمة، والاستماع له ولحاجاته.
- إيجاد نماذج السلوك الاجتماعي والقدوة الحسنة.
فوائد وحسنات
ويستفيد المسلم من الكفالة النفسية لليتيم حسنات ومنافع كثيرة، فيقول الشيخ عبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان: اعلم أخي المسلم أن من نعمة الله عليك أن يوفقك إلى كفالة يتيم أو من كان في حكمه، وقد رتب الشرع جملة من الفوائد التي تتحقق لك وللمجتمع عند قيامك أو أحد أفراد المسلمين بكفالتهم ورعايتهم، ومن هذه الفوائد:
- مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة.
- كفالة اليتيم تدل على طبع سليم وفطرة نقية وقلب رحيم
- المسح على رأس اليتيم ترقق القلب وتزيل القسوة.
- تعود على صاحبها بالخير الجزيل والفضل العظيم في الحياة الدنيا فضلًا عن الآخرة.
- تُسهم في بناء مجتمع سليمٍ خالٍ من الحقد والكراهية وتسود فيه روح المحبة والمودة.
- تزكي مال المسلم وتطهره وتجعل هذا المال نعم الصاحب للمسلم.
- وفي كفالة اليتيم بركة عظيمة تحل على الكافل، وتزيد في رزقه.
- وتجعل البيت الذي فيه اليتيم من خير البيوت كما قال صلى الله عليه وسلم:- “خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسَن إليه”.
تحذير
وفي إطار الحفاظ الكفالة النفسية لليتيم فقد حذّر القرآن الكريم من إيذاء الأيتام نفسيًّا، ولو بزجرهم بكلمة قاسية أو بنظرة ازدراء من شأنها إلحاق الضرر بهم، يقول الله تعالى: {فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ} (الضحى: 9)؛ لأن ذلك من شأنه أن يُولّد السواد والحقد في نفسية الطفل المقهور، فيترتب على ذلك عداوة وبغض للمجتمع.
بل أوضح القرآن أن قهر الأيتام ليس من أخلاق المؤمنين، بل هو من أخلاق المكذبين: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ [الماعون: 1- 2] وهذه الآية تجعل الراعين لليتامى على حذر شديد، فالقرآن بهذا الزجر يقطع الطريق على من يستضعف اليتيم لعدم وجود مدافع عنه، فالله يتولى الدفاع عنه.
وزاد القرآن في ذلك حينما يُريد الوصي الزواج من يتيمة تحت وصايته أن يكرمها بأفضل ما يكون ولا يبخس حقها، فإما أن يعطي اليتيمة حقها، ومهر مثلها، لا يبخس منه شيئا، وإما أن ينكح سواها من النساء، يقول تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [النساء: 3].
وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم- رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : “أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك” (رواه الطبراني).
المصادر:
- عبد الله بن ناصر بن عبد الله السدحان: فضل كفالة اليتيم.
- بحث للدكتور مُحي الدين عبد الله حسن عن إبراز الملامح والمؤشرات النفسية في حياة اليتيم.