مهما كانت العوائق التي تُواجه أي إدارة أو مؤسسة، فإنّ القيادة هي القلب النابض والعقل الراجح لعلاج المشكلات وتخطّي الحواجز والصعوبات، فيسير العمل بدقّة متناهية، تحت مظلة القائد الكُفء الذي يُحفّز الهِمم، ويبثّ روح الحماسة في نفوس العاملين، لتحقيق الأهداف وتطوير وسائل النجاح، إضافة إلى القدرة على التخطيط والرقابة، وحسن استخدام الموارد البشرية قبل المادية.
ولقد اهتم الإسلام بتربية القائد، نفسيًّا وعقليًّا وجسمانيًّا، حيث شدد القرآن الكريم على عناية الفرد بصفاته القيادية، فلا يصير تابعًا أو إمعة، وحدّد الصفات القيادية وشروطها والمعايير التي يجب أن تتوفر في القائد، وحثّ المسلمين على الأخذ بها وعدم إعطاء الدنيّة في دينهم، وهكذا كانت السيرة النبوية المطهرة مليئة بمواقف لقادة عظام غيروا التاريخ والحضارة الإنسانية.
مفهوم القيادة في الإسلام
وللقِيَادَةِ معانٍ كثيرةٍ، تدور كلها حول توجيه وإطلاق طاقات الآخرين نحو الاتجاه المرغوب فيه، وإثارة اهتمامهم نحوه، فالبعض عرفها بأنها “نشاط اجتماعي هادف لمصلحة الجماعة عن طريق، التعاون في رسم الخطة، وتوزيع المسؤوليات حسب الاستعدادات والكفايات والاستعدادات والإمكانات المادية المتاحة” (1).
وجاء تعريف القيادة في المعجم الوسيط بأنها “قَادَ الدَّابةَ قَادَ قَوْدًا، وقِيَادًا، وقيادَةٌ: مشى أَمامها آخذًا بمقْوَدها، قَادَ الجيشَ قيادة: رأَسه ودبَّرَ أَمره”.
والقيادة في الإسلام وَفق تعريف الأستاذ جاسم محمد الياسين هي: “ذلك السلوك الذي يقوم به شاغل مركز الخليفة في أثناء تفاعله مع غيره من أفراد الجماعة، فهي عملية سلوكية، وهي تفاعل اجتماعي فيه نشاط مُوجه ومُؤثر، علاوة على كونه مركزًا وقوة” (2).
صناعة القائد في الإسلام
ركّز الإسلام على أهمية صناعة القائد ودوره في التغيير، فأشار القرآن الكريم إلى قصة ذي القرنين الذي آتاه الله صفتي القيادة والقوة، قال تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف:84].
وهذا موسى عليه السلام، تولاه الله – سبحانه وتعالى – بالتربية والرعاية مُنذ أن كان طفلًا صغيرًا حتى صار نبيًّا وقائدًا لأمة كاملة بالمؤهلات والقدرات الفكرية والعقلية التي توفرت لديه، والصفات التي تحلّى بها مثل: الرأي السديد، والعقل المتزن، والفصاحة وقوة البيان، وصفة الفِطنة والذكاء، والتبليغ، والقدرة العالية على التأثير في الآخرين (3).
كما رأينا صناعة القائد عمليًّا في القرن الأول من تاريخ الدولة الإسلامية، الذي حَفَلَ بقادة عِظام أحاطوا بالنبي محمد – صلى الله عليه وسلم – ثمّ الذين جاؤوا بعدهم.
وعن عبد الله بن عمر – رضي الله تعالى عنهما – أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا أحدهم” (رواه أحمد والطبراني).
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليؤمِّروا أحدَهُم” (أبو داود).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “مَن أطاعني فقد أطاع اللهَ، ومَن عصاني فقد عصى اللهَ، ومَن أطاع الأميرَ فقد أطاعني، ومَن عصى الأميرَ فقد عصاني” (ابن حبان).
مبادئ القيادة
وتعدّدت مبادئ القيادة التي يجب أن يتحلّى بها الفرد المسلم، ليقود الأعمال بلا حيْد عن الطّريق، وقد أجملها الباحث الدكتور عبدالله بن محمد في الصفات الآتية: “الإخلاص، والأصلح فالأصلح، والأمانة، والقوة، والكفاءة، والعدل، والشورى، والأسوة الحسنة، والصبر، والسمع والطاعة في غير معصية، والتوجيه، والنظام، والعلاقات الإنسانية، والشجاعة، والثواب والعقاب، والتعاون، والتنبؤ، والحكمة، والصدق” (4).
قادة غيروا التاريخ
نعمت الأمة الإسلامية في مراحل تاريخية بالكثير من القادة الذين قادوا الأمة إلى عزّها ومجدها متسلحين بشرع الله، فجعلوا القرآن منهاجًا لهم، والرسول قدوة، فاستطاعوا أن يرتقوا بأنفسهم وأمتهم وسط الأمم.
فهذا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- ضرب أفضل الأمثال في القيادة والإدارة، وهناك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، ومحمد الفاتح.
ولو ظل القلم يسطر أسماء قادة سينتهى مداده قبل أن تنتهي الأسماء التي أصبحت مثل النجوم في سماء الهداية.
أسس القيادة الناجحة
والقائد الناجح لا بُد أن يتحلّى ببعض صفات القيادة التي تمكنه من التأثير في أتباعه، فيسهل قيادتهم، ومنها:
- الألفة التي تُؤثر في الخلق بالسلوك والقيم والمبادئ.
- انتهاج مبدأ الشورى، وعدم الانفراد أو الاستبداد بالرأي.
- الابتعاد عن المحاباة.
- القدرة على استغلال وتوظيف طاقات الآخرين، خصوصًا الأكفاء.
- بناء علاقات ليتمكن من التواصل الفعال وبناء فريق عمل متعاون.
- القدرة على حل المشكلات وتقدير المواقف.
- النزاهة والإخلاص والورع والتقوى والخشية من الله.
- تشجيع الأفراد على الابتكار الإبداع لقيادة فعالة (5).
مبادئ الإدارة في الإسلام
اتسم المنهج الإسلامي بالعديد من المبادئ التي تفرّد بها عن غيره، مثل: المبدأ العقدي، ومبدأ التوازن، ومنها ما ذكرته ولاء عضيبات، المتخصصة في العلوم المالية والمصرفية:
- مبدأ العدالة حيث يُعد حجر زاوية في المنهج الإسلامي.
- مبدأ الشورى الذي يعد أساس المشاركة وصنع القرار في الإدارة الإسلامية.
- التّوازن: ويقصد به التوازن بين المصلحة الفردية والجماعية.
- مبدأ حسن اختيار القائد: ويكون بناءً صفات إسلامية تربوية، حيث سيقع على عاتقه أمانة كبيرة (6)
خصائص القيادة
وللقيادة لها خصائص كثيرة، يجب أن يتحلى بها القائد ليكون جديرا بهذه المسؤولية، ومنها:
- التحكم في النفس: فيجب أن يتحلّى القائد بصفة ضبط النفس والتحكم فيها والتحلي بالصبر والأناة.
- الاحترام والتواضع المصحوب بالثقة.
- سعة الأفق والشجاعة الصائبة المبنية على معرفة الذات والفعل.
- إحساس الآخرين بعدالتك: فهي من الصفات والخصائص المُهّمة التي تجعل الجميع يبارك خطوات أي قائد.
- التعاون والاستعداد لتحمل كامل المسؤولية: حيث يُحب الناس القائد المتعاون الذي لا يتهرّب من مسؤولياته.
- القائد الناجح لا يغضب من ملاحظات الآخرين ونقدهم له ولنهجه وطريقته في القيادة بل يعد ذلك هديّة وفرصة له لتحسين أدائه.
- التحفيز والمبادرة: فلا بُد أن يمتلك القائد هذه الأدوات المهمة للنجاح (7).
مهارات تدعم منهج القيادة
تنمية القيادة ودعمها يُعزز من نوعية المهارات القيادية التي يمتلكها أي فرد أو مؤسسة، وهو ما يفرض على القائد أن يتحلّى بها، ومن هذه المهارات: الاستقلالية والاعتماد على الذّات، فهي تتيح لصاحبها متابعة الخطط، والوفاء بالمواثيق والعهود، وكذلك مهارة اتخاذ القرار التي تُعد من المهارات المهمة والداعمة للقائد (8).
أهمية القيادة لاستقرار المجتمعات
القيادة الناجحة تقود إلى الاستقرار وتقدم المجتمعات وتجنبها التبعية لغيرها من الدول، كما تُوفر سُبُل العيش الكريم، وتَكتشف الطاقات، وتُحسن توظيفها والاستفادة منها، والنماذج كثيرة من حولنا، ففي تركيا على رأسها مَن يُحسن القيادة، وكذلك في اليابان وغيرها.
أمّا القادة المستبدون، فيُفشلون المؤسسات والدول، ويصيرون عالة على المجتمعات العالمية، لا يُصدرون لهم إلا الفشل والظلم.
نموذج من القيادة النسائية في القرآن
ولا بُد للمجتمعات البشرية من القيادة التي تُنظم شؤونها، وتُوجّه سلوكها، وتُقِيم العدل بينها، وهي أمور ليست حِكرَا على الرّجال، فقد زكّي الله – عز وجل – بعض النساء، وذكر بعضهن في القرآن بأنهم قُدن شعوبهن إلى الخير، ومنهن الملكة بلقيس التي تعاملت بحِكمة في رحلة إيمان قومها بالله، فآمنوا جميعا.
وفي عصر النبوة، ظهرت السيدة خديجة – رضي الله عنها – بمظهر القائد المُحنّك، حينما جاءها النبي، مرتاعًا فزِعًا مما شاهده في غار حراء، فما كان منها إلا أنْ هدّأت من روعه وطمأنت قلبه، ثم صحبته لمن يخفف عنه ويفسر له ما حدث.
وها هي عائشة – رضي الله عنها – تقود الأمة في بحور كثيرة من العلم، ليكن لها فضل في حفظ كثير من الأحاديث، ومواقف النبي – صلى الله عليه وسلم – في أمور لم يستطع الرجال الوصول إليها.
وفي السَّنة التي اتّجه فيها النبي وصحابته إلى العمرة ومنعتهم قريش على أن يعودوا العام المقبل، جاء دور المرأة القائدة أم المؤمنين أم سلمة، التي استشعرت الخطر وما قد يجلب على الأمة من شقاء معصية نبيها، فاقترحت عليه بعقلها الراجح أن يقوم هو بالذبح، ثم ينادي حلاقه، فإذا فعل هذا، ورأوا، قاموا يفعلون مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فخرج الرسول وذبح، ونادى حلاقه، فحلق له، فتسارع الصحابة يذبحون الهدي، ويحلقون رؤوسهم، حتى كادوا يجرح بعضهم بعضا لمسارعتهم في تنفيذ أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما أشارت إليه أم سلمة.
فالقرآن والسنة، حفظا حقّ المرأة ودورها القيادي، فهي قد تنقذ أمة مثلما وَقَعَ من أم سلمة (9).
المصادر
1. منير بركاني: كل ما يخص القيادة، 17 مايو 2020،
2. جاسم محمد الياسين: القيادة : الأسباب الذاتية للتنمية القيادية، دار الدعوة للنشر والتوزيع، الكويت، صـ17.
3. بدر أحمد بدر أبو عياش: صناعة الله للقادة في القرآن الكريم النبي موسى- عليه السلام- أُنموذجا دراسة تحليليةِ، رسالة ماجستير، جامعة الخليل، فلسطين، 2018.
4. عبدالله بن محمد اليزيدي: مبادئ القيادة التربوية في القرآن الكريم ..دراسة تربوية تأصيلية(رسالة ماجستير)، جامعة سانت كلمنتس ( قسم الإدارة التربوية)، 2015م.
5. هشام الطالب: مفهوم القيادة في الإسلام، 16 أغسطس 2017،
6. ولاء عضيبات: مفهوم الإدارة في الإسلام، 26 ديسمبر 2019،
7. عمر فضل الله: خصائص القيادة ومواصفات القائد، ، وأنظر: خصائص الزعامة،
8. ما هي المهارات القيادية وكيف أطورها؟: نوفمبر 2019،
9. ابتسام بنت بدر الجابري: مهارات القيادة النسائية في ضوء القرآن الكريم، 25 فبراير 2013،