تُعدّ القدوة أساسا مهمًّا في حياتنا، خصوصًا إذا كان الشّخص في أول عمره ولم يَخُض كثيرًا من التجارب ولم يُعارك الحياة بصعوباتها ومشكلاتها، وهي وسيلة قوية من وسائل الدعوة، لِمَا فيها من إقناع بأن المُقتدَى به صادق فيما يدعو إليه ويقوم به، وليس مُجرّد مُتحدّث ينقل الكلام.
والقُدْوَة الحَسَنة هي المثال الواقعي للسلوك الخلقي الأمثل لكونها من المواضيع المهمة جدًّا في حياة البشرية، لكونها الركيزة في المجتمع، وعامل التحوّل السريع الفعال، وعنصر مُهم في كل مجتمع.
مفهوم القدوة
القدوة من الأمور المُؤثرة في جميع الناس، ولا يتصور أحد أن يعيش دون أن يتخذ قدوة له، سواء كان صالحًا أو طالحًا.
يقول ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (قدو) القاف والدال والحرف المعتل: أصل صحيح يدلُّ على اقتباس بالشيء واهتداء، ومُقادَرة في الشيء حتى يأتي به مساريًا لغيره. من ذلك قولهم: فلان قُدوةٌ (بضم القاف وكسرها): يقتدى به.
ويقول ابن سيده المرسي في المحكم: القُدوة، والقِدوة ما تسننت به..”، أي اتبعت طريقه ونهجه، فالقدوة متبوع، كالعالم، والأستاذ، والأب، والأم، ونحوهم.
إذا القُدْوَة هي الاقتداء والتأسّي والتأثر بشخصية شخص ما، لكونه نموذج يراه البعض المثال الأعلى لهم، ذلك لأنه يتمتع بأخلاق أو سلوكيات، أو تصرفات أو آراء تجعل الآخرين يتأثرون به. وقد تكون القُدْوَة حَسنة أو سيئة (1).
القدوة في الإسلام
لا شكّ أنّ الإنسان مدني بطبعه، ولا يُحب العيش منفردًا، وهذا الاجتماع بالغير يحدوه شاء أم أبى لمحاكاة هذا الغير، وعلى حسب نقاء فطرته يكون التوفيق في المحاكاة.
ومعلوم- أيضًا- أن الإنسان عدو ما يجهل، لكنه إذا وَجَد غيره وقد أقدم على فعل ما حاز فيه تقدمًا يرجوه هو لنفسه، دفعه هذا دفعًا لاتخاذ هذا الغير مثالًا له، وتظل فطرة الإنسان تحدوه للمحاكاة والتشبه بالغير، سيما في الأمور التي يتحقق له بها نفع أو تدفع عنه ضررًا.
وهو الأمر الذي حثّ عليه الشرع الحنيف، فقال تعالى- مزكيا أمة الإسلام في أخلاقها وقدوتها للناس- :{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].
ثم دفعنا للاقتداء بخير البشر سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21](2).
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعتني بكل فرد من أصحابه عناية خاصة، فيرشده إلى عيوبه، ويشجعه فيما يُحسن، ويشهره بين الناس بما فيه من خير، ويستر ما فيه من نقص إلا لمصلحة.
وقد خرج من تحت يده مجموعة من خيرة القادة ورواد الحضارة والإنسانية في التاريخ البشري، وقد كانوا- قَبلًا- رعاة إبل وغنم أو محاربين بسطاء أو تُجّارًا محليين، ولم يكن ذلك عن تكلف أو تخطيط، بل بما فُطر عليه من أخلاق وصفات كاملة تفيض على العالم كله.
إن المُتَمَعِّن في منهج النبي- صلى الله عليه وسلم- في صناعة الرجل القُدْوَة يَلحَظ مجموعة من السبل الدقيقة والحكيمة التي توصّل الإنسان إلى أن يكون قُدْوَة حَسَنة وإنسانًا يتمتع بأعلى صفات الكمال(3).
وهو المعنى الذي ترجمه عمليًّا حتى وصفته السيدة عائشة- رضي الله عنها- حينما سُئِلَتْ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-، فقالَتْ: “كان خُلُقُه القُرآنَ” (أخرجه أحمد).
أهمية القُدْوَة للأبناء
القُدْوَة الحَسَنة هي المحرك والدافع للإنسان للارتقاء بالذات، وهي من القواعد المهمة التي ينطلق عبرها الأبناء سواء من خلال اقتدائهم بوالديهم أو بغيرهم من الناس، لكن تجري هذه العملية من خلال القواعد التربوية التي نشأ عليها الأولاد، فإن كانت حسنة اتخذوا الحسن قدوة لهم، وإن كانت سيئة اتخذوا السيئ والقبيح قدوة لهم، لأن النّفْسَ البشرية مَجبولة بطبيعتها على التأسّي والتطبع بصفات وأخلاق مَن تهوى ومَن تحب، وتُعد القدوة مهمة للأبناء لكونها:
- تساعدهم على تَفَهُّم حقيقة الإسلام الوسطية، ونبذ العنف والتشدد أو التراخي في العبادة.
- تعمل على تشكيل شخصيتهم المستقبلية وتفتح أمامهم آفاق واسعة من المعرفة الحقيقية للحياة.
- تساعدهم على التركيز على الأهداف وتَحَمُّل المسؤولية ما يدفعهم للنجاح والتفوق والإيجابية.
- تساعدهم على معرفة الصعوبات التي قد تواجههم وأفضل السبل لعلاجها والتغلب عليها.
- تدعم انتشار الخير، لأن الناس بفطرتهم يُحبّون مَحَاسن الأخلاق، ودرجات الكمال، وتعطيهم أملا في الوصول للفضائل.
- تعمل على توفير الوقت والجهد على الأهل والآباء في عملية التربية السليمة، وفي محاولة تنمية وزراعة السلوكيات والصفات الجيدة لدى الأبناء.
- وسيلة من وسائل تعزيز السلوك الإيجابي عند الأطفال، وحتى البالغين.
- تعمل على إلهام الأولاد وإعطائهم صورة حَسَنة عن ذاتهم وإمكانياتهم، ما يُساعدهم على مقارنة أنفسهم بالقُدْوَة الحَسَنة، والعمل على الاقتداء بها.
- وسيلة فعالة لتعديل السلوك عند الأطفال بالإضافة لكونها مقنعة وواقعية(4).
احذروا الخطأ
الطفل ما هو إلا نسخة مصغرة من أمه وأبيه، ومعظم حديثه وتصرفاته هو تقليد لحديثهما وتصرفاتهما التي يراها أمامه، فتنطبع في ذاكرته ويتخذها نهجا له بعد ذلك.
ويعتقد الطفل في سنواته الأولى أن كل ما يصدر عن والديه صحيحا، فيقتدي بهما في جميع سلوكياتهما نتيجة لتعلقه بهما ولقضائه معظم أوقاته بصحبتهما، وهو ما يتوجب على الوالدين الحذر من أن يكون قدوة سيئة دون أن يشعروا، ولذا فلا بد من:
- أن يكون الأب والأم نموذجا يحتذي به طفلهما منذ وقت مبكر، لأنهما من سيرسمان نوع القدوة التي سيقتدي بها طفلهما وما إذا كانت حسنة أو سيئة.
- على الوالدين الحذر في جميع تعاملاتهما وعلاقاتهما وحديثهما وما يشاهدانه على التلفاز أو الأجهزة الإلكترونية أمامه.
- التلقين وجميع وسائل التربية لن تثمر مع طفلكما في غياب القُدْوَة الحَسَنة التي تُعد بمثابة ترجمة علمية للأوامر والتوجيهات التي تطالبانه بها(5).
كيف نربي أبناءنا بالقدوة؟
الأطفال لا يتعلمون بالتوجيهات والأوامر، فَهُم يتعلمون كل شيء في مراحل نموهم الأولى من محيطهم، ولغرس القدوة الأولية في نفوس الأبناء يجب على الآباء والأمهات:
- التحدث إلى أطفالهم كثيرًا وتشجيعهم على التواصل معهم بشكل مستمر، ليخلقوا جوًّا من المشاركة بينهم، وعليهم أن يُعبّروا لهم عن مدى حبهم وحرصهم على مصلحتهم، ليثقوا فيهم ويتخذوهم قدوةً ونموذجًا يُحتذى به.
- ممارسة السّلوكيات الصحيحة التي يرغبون في أن يُمارسها أطفالهم أمامهم وهُم بدورهم سيقومون بتقليدهم تلقائيًّا.
- ألا يأمروا أطفالهم بفعل شيء لا يفعلونه هم، فيجب أن يروهم يفعلون ما يطلبونه منهم أولًا.
- الاعتذار لأطفالهم إذا ارتكبوا خطًأ في حقهم ليُعلموهم ثقافة الاعتذار وقبول اعتذار الطرف الآخر ما يُساعد على تربيتهم بشكلٍ سليمٍ.
- التحدث مع الأطفال عن الأمر الذي يمتنع عليهم فعله وعن مدى خطورته عليهم.
- الاعتراف بالخطأ أمام أطفالهم إذا صدر منهم، ليزرعوا فيهم أهمية الاعتراف بالخطأ وعدم المكابرة أو الكذب.
- عدم التراجع في قراراهم إذا طلبوا من أطفالهم شيئا أو منعوهم من أمر ما أو تصرّف خاطئ.
- أن يمدحوا أطفالهم في حالة قيامهم بأي تصرف صحيح حتى ولو كان صغيرًا لتحفيزهم.
- المداومة على استخدام الكلمات التشجيعية التي تمنح الأطفال الثقة في النفس.
- ألا يستخدمون السّباب والأوصاف الجارحة التي قد تُدمّر روحهم المعنوية وتجعلهم يفقدون الأمل في أنفسهم ومن حولهم.
- أن يكونوا أمام أطفالهم شاكرين لنعم الله، محافظين على العبادات والآداب والسلوكيات، وصلة الرحم وأدب الاختلاف والصّدق والوفاء وغيرها(6).
إن القدوة قيمة إنسانية، وضرورة تربوية، وغيابها في عملية التربية أزمة، كما أنّ وجود قدوةٍ يُخالف ما يقول يعد أزمة أشد في عملية التربية، ولكي تتم عملية إعداد القُدْوَة لا بد لذلك من بيئة خاصة تجري عملية التكوين فيها، ويتحصل فيها على المناعة الكافية، وهو ما يقع على عاتق الوالدين.
المصادر والمراجع:
- إسراء محمد: أهمية القدوة الحسنة.. تعرف على النموذج المثالي.
- محمد جمال حليم: القدوة.. منهج إسلامي قويم، الوعي الإسلامي، الكويت ،السنة 53، العدد 606، 2015م، صـ18- 20.
- محمد تركي كتوع، محمد علي النجار: منهج صناعة القدوة الحسنة في الشريعة الإسلامية، مجلة مقاربات، العدد4، ديسمبر 2018، صـ36- 39.
- شمس بني هاني: القدوة أهميتها ونماذج منها: 10 مارس 2020.
- سلوك الوالدين.. مرآة لخُلق الأبناء: 2 أغسطس 2014.
- هبة الله سعد: طفلكما يقلدكما دائمًا.. انتبها!، 4 مايو 2021.
2 comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وجزاكم الله كل خير على هذا المنشور أن شاءالله في ميزان حسناتكم وإن شاءالله يتناوله كل مسلم بكل جدية وخاصة في برامجنا التعليمية وللمقدمين على الزواج ليتعلموا كيف يربون ابناىهم على القدوة الصالحة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزانا الله وإياكم خيرا
نشكر مرورك وتعليقك