بقلم: د. همام سعيد
لقد وقع كثير من المسلمين في مشكلة عدم فهم القرآن الكريم، وهذه الأزمة أشد عليهم وأفتك بهم من عدوهم. فلقد أنتج الفهم الخطأ فِرَقًا وطوائف مزّقت الأمة وأتت على كلمتها ووحدتها.
ونقف هنا على الفهم السائد في مقابل الفهم الواجب. فقد ساد في الأمة فهم أناني فردي يتستّر بستار النفعية وهو الضرر بعينه على الفرد والجماعة، حيث نجد أكثر الناس يدورون حول ذواتهم ويشعرون بالسلبية القاتلة عندما يظهر إلحاح المصلحة العامة.
ونجد الدعوة إلى الانكباب على الذات أو الدائرة الصغرى، ولسان حال أحدهم الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 205]، ويفهمون من الآية أن يعتني الإنسان بشؤونه الخاصة ويقطع صلته مع الناس، مع تكرار كلمات وشعارات مثل: نحن في آخر الزمان، وما شابه ذلك من عبارات اليأس والقنوط.
وهذا الفهم مخالف لأهداف القرآن ومقاصده، فقد جاء القرآن الكريم رحمة للعالمين لإصلاح الفرد والجماعة، وطالب المسلم بأن ينفرد للدعوة والجهاد، وألا يكون مع الخوالف، وألا يقعد مع القاعدين.
والقرآن لا تتضارب آياته ولا تتناقض مقاصده، وليست العوائق والعقبات أسبابًا كافية لصرف هذه المقاصد عن بلوغ غايتها، ولولا ذلك لما شُرع الجهاد بجميع صوره وأشكاله، وقد ندب الله المؤمنين لمكافحة الفتن أنى كانت.
ولقد التَفَتَ أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- إلى خطورة هذا الفهم السّلبي العكسي، فأخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في الجامع من طريق التابعي الجليل قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر- رضي الله عنه- فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه”([2])، ولو فهم أبو بكر هذه الآية فهمًا سلبيًّا لما أصر على مقاتلة مانعي الزكاة، ولتَرك المرتدين يعودون بالعرب إلى جاهليتهم الجهلاء.
وقد أخرج الإمام أبو عيسى الترمذي صاحب الجامع، بسنده عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قلت: قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: “بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مُطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام، فإن من ورائكم أيّاما للصّبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعَملكم”([2]).
وبهذا يكون أبو ثعلبة قد فسر الآية، وحملها على الوقت الذي تكون فيه صفات الناس كما ذكر من الشح المطاع. والشح أعم من البخل إذ هو في المال وغيره، فيصبح الشح هو القاعدة العامة المتبعة، والهوى متبعًا وهو رغبة النفس، ويُعجب كل صاحب رأي برأيه فلا شورى ولا اتفاق.
وقد يقول قائل: إن هذه الصفات تنطبق على مجتمعاتنا، ألا ترى الشح المطاع والهوى المتبع إلى آخر هذه الصفات؟ وبذلك تكون الآية منطبقة على زماننا، ونحن المخاطبون بها! والحق أن هذه الصفات المذكورة هي الصفات التي تصبح سائدة عامة فلا يخرج أحد في المجتمع عنها، وما زال في المجتمع خير كثير، هنالك الصالحون الأتقياء والكرام الأسخياء، وطلاب الآخرة الأولياء، والباحثون عن الدليل من الكتاب والسنة.
وليس المراد أن يكون بعض الناس على هذه الصفات السيئة، فوجود الشحيح أمر متحقق في كل عصر وفي كل مكان، ووجود المعجب برأيه المعتد بخطئه والمعتز بخطيئته ممكن في كل دهر.
وقد يدعي مدعٍ أن هذا موجود حتى في عصر الصحابة الكرام وفي عصر التابعين الأبرار، وهو ما أشكل على بعض الصحابة حتى قام أبو بكر ينفي هذا الإشكال، وما اختلط على أبي أمية الشعباني فقام يسأل أبا ثعلبة الخشني- رضي الله عنه- فصرف أبو ثعلبة زمن تحققها عن زمان الصحابة الكرام، وقيد وجودها بالصفات المذكورة على وجه الإحكام.
ونحن نقول: إن الزمان الذي تصل فيه الأمور إلى هذا الحد من الشح والهوى والدنيا المؤثرة لم يأتِ بعد، ويكون ذلك قُبيل يوم القيامة؛ لأن القيامة لا تقوم إلا على شرار الخلق وأبغَضهم إلى الله تعالى. وإن استغراق هذه الصفات الذميمة لأبناء الجنس البشري يجعل الحياة عديمة الجدوى بلا هدف، وعندئذ يكون القدر المقدور في تدمير هذا الكون المعمور.
ونقول أيضًا: إن هذه الصفات تعني فساد الفطرة الإنسانية وتنكبها عن الخير وتمحضها للشر. وقد أخبرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن زمان لا تُقبل فيه توبة، وأخبرنا القرآن الكريم عن وقت لا ينفع فيه نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا.
قال عليه الصلاة والسلام: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها”([3])، فباب التوبة مفتوح على مصراعيه، والتوبة مبذولة لجميع البشر، ويترتب على ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم اليأس من الناس، والقيام بواجب الإنذار والَبلاغ، ولكن عندما تنقطع التوبة ويُغلق بابها بظهور العلامات الكبرى التي لا ينفع الإيمان بعدها فعندئذٍ لا يفيد الإنذار والبلاغ إلا صاحبهما في حصوله على أجرهما وثوابهما. وهذا ما جعل ابن مسعود يرى أن بعض آيات القرآن الكريم جاء تفسيرها، وبعضها لم يأت تفسيرها.
ثم إن مما تفيده الآية تحصين النفس ووقايتها من عوامل الشر بأن يقوم المسلم بعملين متلازمين؛ الأول: إصلاح الذات، والثاني: الإصلاح خارجها. والخطر على الذات يكون من داخلها، ويكون من خارجها، فإذا تركت الذات دون تحصين وحفظ تسربت إليها العوادي الخارجية فأفسدتها.
والآية تأمر المؤمنين بأن يحافظوا على أنفسهم من هذه العوادي كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 5].
وقد جاء في تفسير الآية أن معنى أنفسكم: قَومكم وأّمتكم، كما في قوله تعالى (فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ) [النور:61]، وكما في قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات:11]، ويكون المعنى احرصوا على أمّتكم وعلى أهل دينكم.
ونخلص من كل هذا إلى أن الآية فيها دافعية عظيمة للعمل والحرص على مصلحة الأمة، وليست سلبية عدمية تدعو إلى الانكباب على الذات فقط، أو على المصلحة الخاصة فحسب.
المصادر والمراجع:
- ([1]) مسند أحمد (1/2) والترمذي (5/257)، ولفظه (إن الناس إذا أرادوا ظالماً فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب) وقال: حسن صحيح.
- ([2]) الترمذي (5/257).
- ([3]) سنن أبي داود (3/7).