تأتي أهمية دراسة تجربة الشيخ رشيد رضا التربوية انطلاقا من أن الكثير من الباحثين والأكاديميين يعتبرونه المؤسس الفكري الأول للإسلام السياسي في العصر الحديث، فقد أسس أكبر جماعة حركية في العالم بعد وفاة رضا بسنوات استنادا على مجموعة واسعة من آراء وانحيازات وأفكار رشيد رضا، وقد قال عنه الغزالي-رحمه الله- “محمد رشيد رضا ترجمان القرآن، وصاحب مدرسة المنار هي المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة”.
النشأة وبداية الطريق
ولد محمد رشيد رضا في 27 جمادى الأولى سنة 1282هـ في في قرية القلمون قريب مدينة طرابلس بلبنان. دخل المدرسة الرشيدية في طرابلس ثم تركها بعد سنة ودخل المدرسة الوطنية الإسلامية، وتتلمذ على الشيخ حسين الجسر مدير المدرسة الذي كان له إلمام واسع بالعلوم العصرية، وكان في أول نشأته يميل إلى التصوف كما كان شديد الإعجاب بكتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي. ثم ظفر –على حدّ قوله- بنسخة من جريدة العروة الوثقى في أوراق والده فأعجبته، وكتب إلى جمال الدين الأفغاني الذي كان يقيم في الأستانة، لكنه لم يجتمع به، ثم رحل إلى مصر في رجب سنة 1315هـ الموافق سنة 1898م، وفي العام نفسه أصدر مجلة المنار التي استمرّت حتى سنة 1354هـ الموافق عام 1935.
وكان عضوًا في الحكومة السورية الأولى التي أقامها فيصل بن الحسين بعد الحرب العالمية الأولى، فلما استولى الفرنسيون على سورية وسقطت هذه الحكومة عاد إلى مصر، وأعاد إصدار مجلة المنار بعد توقّفها، وظل عاملا مجاهدا لدينه منافحا عنه طوال هذه المرحلة، فصلح حاله واستمر إقباله على كتب السُّنة ينهل منها، حتى توفي بمصر في 23 جمادى الأولى 1354 هـ/22 أغسطس 1935م.
علاقته بمحمد عبده
اجتمع رشيد رضا بالشيخ محمد عبده أثناء زيارته لطرابلس الشام، وقد مات أستاذه محمد عبده سنة 1323هـ الموافق سنة 1905م، وهذا يعني أنه عاش في صحبته سبع سنين، واستمرّت مجلة المنار ثلاثين عامًا بعد موت محمد عبده واستمرّ عطاء رشيد رضا الذي يكاد لا ينضب، وقد أشار في مقدمة المنار بأنه خالف منهج محمد عبده بعد وفاته.
الفكر التربوي لرشيد رضا
عُني كثير من المفكرين والعلماء بمعالجة قضايا التربية وبيان وظائفها ومهامها وطرائقها ووسائلها وأساليبها وعوائقها أمثال محمد رشيد رضا، حيث دعا للعناية بالتربية والتعليم بصفتها طريقا للإصلاح، ولم يكتف بذلك فباشر بنفسه العمل الميداني تدريسا ومحاضرة وإنشاء للمعاهد والمدارس.
كان الشيخ رشيد رضا من أشد الداعين إلى أن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وفى سياق رؤية وأفكار الشيخ رشيد رضا للتجديد انطلاقا من التعليم حددد العلوم التى يجب إدخالها فى ميدان التربية والتعليم لإصلاح شؤون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والمعرفة، على أن يكون إصلاح التعليم بالعمل، وحاول تطبيق ما يراه محَّققًا للآمال، فأنشأ مدرسة «دار الدعوة والإرشاد» لتخريج الدعاة المدربين لنشر الدين الإسلامى، وافتتحت فى ليلة الاحتفال النبوى فى 1912 م فى جزيرة الروضة بالقاهرة.
تواجد الفكر التربوي لرشيد رضا في عدة أوعية أو مصادر، ومنها:
- تفسير رشيد رضا الذي تناوله حتى سورة يوسف وقد حفل بالمعاني والوقفات التربوية ونظرات التعليم والمعرفة والقيم والأخلاق والعلاقات الأسرية والاجتماعية.
- فتاوى رشيد رضا وفي هذه الفتاوي كثير ما يتناول الشأن التربوي والتعليمي كسؤال عن أسباب نهوض الأمة أو ترقية المجتمع أو المسؤولية الأسرية.
- المقالات والبحوث التي كتبها ونشرها في مجلة المنار، وهي كثيرة متنوعة ما بين معالجات لقضايا تربوية أو التجارب التربوية.
أهم ما دعا له
كان للشيخ محمد رشيد رضا بصمات واضحة في الفكر السياسي والتربوي والعلمي حيث خلف فراغا كبيرا في بعض الجوانب التي كان حارسا لها، وأهم ما دعا له وميزه:
- كان ملتزما بمنهج أهل السنة والجماعة، وكان يحرص على أخذ أدلته من الكتاب والسنة.
- أهم ما دعا إليه نبذ التقليد، والتحذير من البدع والخرافات، والتنديد بانحرافات الصوفيين وبيان ما وقعوا فيه من ضلالات.
- كان بارعا في ربطه بين التصورات والمفاهيم الإسلامية وبين واقع العصر وذلك لأنه كان من العلماء المعدودين في عصره.
- كان داعية من دعاة الإصلاح، فقد هاجم الترف والإسراف، وحذر من الجهل والتخلف والخوف من الظالمين، ونادى بالشورى، وندد بالاستبداد، ودعا علماء الأمة إلى القيام بواجبهم في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- يرى رشيد رضا أن التربية أهم من التعليم لأنها وسيلة لسعادة الأفراد والمجتمعات في الدنيا والآخرة، أما التعليم وحده، فلا يؤدي إلى تحقيق تلك السعادة، كما أن التعليم إذا لم يقترن بالتربية قد يضر أكثر مما ينفع، حيث يقول: [ليس وراء هذا التعليم وتلك التربية غاية إلا ما يترتب على الكمال فيها من سعادة الدنيا والآخرة].
- تبين لرشيد رضا حث الشريعة الإسلامية على التربية والتعليم وذلك من خلال تدبر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2).
- لن يتم تحسن الأحوال الخارجية للمجتمع الإسلامي إلا بتغيير ما بالأنفس انطلاقا من قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 11).
- اهتم رشيد رضا بالتربية النفسية والتي رأى أنها لا تتم إلا بتهذيب الأخلاق؛ لأن الأخلاق هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، حيث يقول: يظهر دور العلم في التربية النفسية من كونه الوسيلة لمعرفة الفضائل ليتم التحلى بها ومعرفة الرذائل ليتم التخلي عنها.
- كما اهتم بالتربية الجسدية التي رأى أنها ضرورية للفرد المسلم لما فيها من إعانة الفرد على أداء العبادات المختلفة وإقامة الشعائر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير] رواه مسلم.
- اهتم فكر رشيد رضا على التربية العقلية والتي تعد مكملة للتربية النفسية والجسدية، ولابد من الاهتمام بهذه الجوانب.
- اهتم رشيد رضا في جوانب فكره التربوي بتربية الأمة، والذي اعتبره من أهم الأهداف التي يطمح إلى تحقيقها ويحث الجهات المعنية على ذلك. ويجب أن يراعى في تربية الأمة [وحدة الأمة- الوحدة الإنسانية بالمساواة بين البشر- الأخوة الدينية واللغة].
أساليب التربية وطرق التعليم عند رشيد رضا
سطر رشيد رضا عدة مقترحات من الأساليب والطرق التربوية التي تتكامل مع محتوى المنهاج وتتمثل في:
- الحوار: طريقة تربوية يكون دور الطالب فيها إيجابيا، ولا تعتمد على مجرد الإلقاء والسماع بل تقوم على المناقشة المتبادلة الموصلة في النهاية للحقيقة، ولهذا الأسلوب أصالته في التربية الإسلامية، وخير نموذج سيدنا إبراهيم – عليه السلام – مع قومه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ* قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ* قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَىٰ ذَٰلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}( إبراهيم 51- 56).
- الاستقراء والقياس: يتم الاستقراء عن طريق إعطاء مجموعة من الأمثلة تدرس بشكل جيد يتم من خلاله التوصل إلى القاعدة الكلية، أما القياس فيبدأ فيه بالقاعدة وتوضح فيما بعد بالأمثلة، وهو ما يعطي الطالب فرصة الفرصة في المشاركة في عملية التعليم والتعلم وتنمية القدرات العقلية.
- القراءة: وهي أداة العلم ووسيلته، ولذا كان الأمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بــ {اقْرَأْ}.
- المذاكرة: وهي أسلوب تربوي وتعليمي له أصالته في التربية الإسلامية، حيث يرى رشيد رضا أنها من أنجع أساليب نقل المعرفة بين عامة الناس ومثقفيهم.
- الترغيب والترهيب حيث تقوم التربية الإسلامية على هذين القطبين، ولقد وجه رشيد رضا نصيحة للمربين يبين فيها حدود استخدام كل منهما.
أبرز إسهامات رشيد رضا
1- تجديد الفكر التربوي والتعليمي لمناهج التعليم الديني والعام، وإنشاء أول مدرسة لإعداد وتأهيل الدعاة والمربين في العالم الإسلامي (دار الدعوة والإرشاد).
2- إيقاظ وإحياء روح الإصلاح التربوي والفقهي، وتطهير العقل المسلم من الخرافات والانحرافات الفكرية المختلفة.
3- العمل على إحياء وتحقيق الوحدة الفقهية والمفاهيمية والأخلاقية للمسلمين في العالم.
4- المحافظة على القيادة العلمية الرصينة لتيار الإصلاح الديني، والتي تجلت في مجلة وتفسير المنار.