تأليف: نوح عبد الخالق إبراهيم قفيشة.
رسالة ماجستير (غير منشورة)، بإشراف د. محمد سليم محمد علي. عمادة الدراسات العليا- جامعة القدس- فلسطين- 1413هـ/2011م.
تتناول هذه الدراسة الفكر التربوي عند أحد علماء الأمة الكبار، إنه الشيخ الإمام محمد الغزالي، الذي أثرى الفكر الإسلامي، فكتب في مجالات متعددة من صروح العلم والمعرفة.
لقد كان الشيخ الغزالي مفكرا كبيرا. ومن الجوانب التي عالجها بفكره الجانب التربوي، وقد تنوعت أساليب التربية عند الشيخ الغزالي. وأحدث الشيخ الغزالي جدلا واسعا بطرح بعض الأفكار الجريئة مدافعا عنها بكل قوة.
إن إسهامات الشيخ الغزالي وآراءه التربوية ومنطلقاته الفكرية وآثاره العلمية، يمكن لها أن تثري نظامنا التربوي الإسلامي المعاصر، مما يساعد طالب العلم، والمهتمين بالتربية، على تعرف الفكر التربوي الإسلامي، من أجل المحافظة على الشخصية الإسلامية.
ويتكون هذا البحث من ثلاثة فصول:
الفصل الأول: الفكر التربوي الإسلامي، ويشتمل على ثلاثة مباحث: الأول: مفهوم الفكر التربوي الإسلامي، والثاني: مصادر الفكر التربوي الإسلامي، والثالث: أسس الفكر التربوي الإسلامي.
الفصل الثاني: تعريف بالشيخ محمد الغزالي وحياته العلمية. ويشتمل على أربعة مباحث: الأول: ميلاده ونسبه ودراسته ووظائفه ووفاته. الثاني: آثاره العلمية. الثالث: الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الشيخ محمد الغزالي. الرابع: الشيخ محمد الغزالي وحركة الإخوان المسلمون.
الفصل الثالث: معالم الفكر التربوي عند الشيخ الغزالي. ويشتمل على ثلاثة مباحث: الأول: المنطلقات الفكرية عند الشيخ محمد الغزالي. الثاني: مواقف الشيخ محمد الغزالي الفكرية. الثالث: الشيخ محمد الغزالي المربي.
وسوف نركز في هذا الملخص على الفصلين: الأول والثالث، على اعتبار أن ما يتعلق بحياة الشيخ الغزالي والتعريف به، وهو مضمون الفصل الثاني؛ منشور في أكثر من مكان. ونحن بحاجة إلى التركيز على معالم الفكر التربوي عند الشيخ الغزالي، رحمه الله.
الملخص
الفصل الأول: الفكر التربوي الإسلامي
المبحث الأول: مفهوم الفكر التربوي الإسلامي
المطلب الأول: الفكر لغة واصطلاحا
الفكر لغة: الفكر يعني التأمل وإعمال النظر. وهو تردد القلب في الشيء، يقال: تفكر إذا ردد قلبه معتبرا.
الفكر اصطلاحا: هو إعمال العقل في الأشياء للوصول إلى معرفتها، ويطلق الفكر على ما كان له واقع محسوس. ويعمل العقل بربط هذا الواقع بالمعلومات السابقة. والفكر هو نشاط نوعي يتميز به الإنسان، وتنزه الله عن الوصف به، فالله من صفاته العلم وليس من صفاته الفكر.
المطلب الثاني: معنى التربية لغة واصطلاحا
التربية لغة: التربية تدل على نماء الشيء وزيادته، وإخراجه من حالة الشيء التي هو عليها بالاعتناء به، والعمل على إعلاء شأنه، ورفع قيمته وقدره.
التربية اصطلاحا: تعددت الأقوال فيها، تبعا لتعدد المذاهب الاعتقادية والفكرية لعلماء التربية.
أولا: تعريف علماء المسلمين:
هي وعاء وأساليب وإجراءات، ينقل بها تراث الأمة من الأجداد إلى الأحفاد، ومن الآباء إلى الأبناء. وبوساطتها تتطور الحضارة، عن طريق العلوم المتفجرة، والمعارف المتزايدة، على نسق ينسجم مع نظرة الأمة ورسالتها في الحياة.
ثانيا: تعريف التربويين العرب:
التربية هي المؤثرات المختلفة التي توجه وتسيطر على حياة الفرد. وهي: عملية صياغة الإنسان وفق تصورات معينة، وأهداف معينة محددة بوسائل معينة. وهي: عملية مقصودة اصطفاها المجتمع، لتنشئة الأجيال بطريقة تسمح بتنمية طاقاتهم وإمكانياتهم إلى أقصى درجة ممكنة؛ ضمن إطار ثقافي معين، قوامه المناهج والأفكار والنظم، التي يحددها المجتمع الذي نشأ فيه، مما يجعلهم على وعي بوظائفهم في هذا المجتمع.
ثالثا: تعريف التربويين غير المسلمين:
التربية عملية قصدية، يتم عن طريقها توجيه الأفراد الإنسانيين. وهي: العوامل المباشرة التي تؤثر في الأخلاق وفي الملكات البشرية، عن طريق وسائل يختلف غرضها المباشر عن نتيجتها المقصودة كل الاختلاف.
المطلب الثالث: معنى الفكر التربوي
الفكر التربوي هو مجموعة الآراء والأفكار، التي تؤلف النظرية الواحدة، أو النظريات المتقاربة، التي بدورها تعتبر المرجعية والأساس.
والفكر التربوي يعني- أيضًا- الجهد المقصود الذي يسعى فيه المجتمع، من خلال مجالاته المتعددة، إلى إيجاد سلوك إيجابي لدى الأجيال، أو تعديل سلوك قائم يقتضي تعديله.
المطلب الرابع: أهمية التربية في الإسلام
التربية في الإسلام لها مكانة عظيمة، خاصة بين شرائعه وأحكامه، حتى إنها لتتنزل في الذروة من ذلك، فلا يعلوها شيء، سواء بما يتعلق بالفرد توجيها، وإرشادا، ووعظا، وتأديبا، على أخلاق الإسلام، ليكون بذلك فردا مسلما، ربانيا، متخلفا بأخلاق هذا الدين، أو على مستوى الأسرة أو المجتمع ككل، بما تبثه من قيم الفضائل الحميدة.
المبحث الثاني: مصادر الفكر الإسلامي (هي مصادر الإسلام نفسها)
المطلب الأول: القرآن الكريم
يعتبر القرآن الكريم المصدر الأول لتعاليم الإسلام، وأحكامه، وقيمه، وتوجيهاته. وهو صالح لكل زمان ومكان. ولم يترك شيئا من الأصول والمبادئ التي تنفع الناس في أمور حياتهم وآخرتهم إلا وتضمنه، وأشار إليه. والآيات القرآنية تؤكد شمولية الإسلام وسداد توجيهاته.
الطابع التربوي للقرآن الكريم
للقرآن الكريم أسلوب رائع، ومزايا فريدة في تربية المرء على الإيمان بوحدانية الله واليوم الآخر؛ فهو يعرض الإقناع العقلي بإثارة العواطف والانفعالات الإنسانية؛ فيربي العقل والعاطفة متمشيا مع نظرة الإنسان في البساطة، وعدم التكلف. وإن القرآن يبدأ بالمحسوس المشهود المسلم به، ثم ينتقل إلى استلزام وجود الله وعظمته وقدرته، وسائر صفات الكمال، مع اتخاذ أسلوب الاستفهام بأغراضه المتعددة؛ مما يثير في النفس الانفعالات الربانية، كالخشوع والشكر ومحبة الله والخشوع له.
المطلب الثاني: السنة النبوية
تأتي السنة النبوية بعد القرآن الكريم، في المصدرية لأحكام الإسلام، وتشريعاته، وتعاليمه، وتوجيهاته. وتتمثل السنة النبوية في: أقواله، وأفعاله، وتقريراته صلى الله عليه وسلم. بصحة ورودها عنه صلى الله عليه وسلم، وهي لا غنى عنها في تفسير آيات القرآن الكريم وبيان أبعاده ومقاصده ومراميه. فقد جاءت السنة النبوية لتفصيل مجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه. والسنة النبوية غنية بالمبادئ التربوية التي يمكن للمربين أن يجدوا فيها ما يثري فلسفاتهم التربوية.
المطلب الثالث: الإجماع
لغة: هو العزم على الشيء والتصميم عليه.
اصطلاحا: هو اتفاق المجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور بعد وفاة النبي- صلى الله عليه وسلم- على حكم شرعي.
الأثر التربوي للإجماع هو:
1- إعمال الفكر في المسألة وهو تحفيز للعقل.
2- الالتقاء على رأي واحد والإجماع عليه، وفيه إشارة تربوية إلى وحدة الكلمة.
3- أن المسلمين لا يتركون حياتهم فوضى بغير أحكام تسير شؤونهم، والإجماع واحد من مصادر الأحكام المنظمة لشؤون المسلمين.
المطلب الرابع: الاجتهاد
الاجتهاد لغة: بذل المجهود واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور. وهو لا يستعمل إلا فيما يكون فيه حرج ومشقة.
الاجتهاد اصطلاحا: هو استفراغ الجهد في استنباط القضايا الدينية، شرعية أو عقدية، عقلية أو نقلية، قطعية أو ظنية؛ من أدلتها التفصيلية.
الاجتهاد حركة علمية بناءة لبيان الأحكام الشرعية، وهي من أهم مرتكزات التربية الإسلامية، وما يصل إليه الفكر التربوي الإسلامي إنما هو رأي منبثق من الشريعة وخادم لها. والاجتهاد يعتبر رافدًا من روافد التربية الإسلامية، التي هي متجددة بعطائها. فالاجتهاد مستمر لا ينقطع حتى تقوم الساعة، فلا بقاء للشرع ما لم يظل ملبيًا لحاجات العصر، متجددًا مع تجدد الوقائع والحوادث. وهذا لا يكون إلا إذا أمده الاجتهاد بالفعالية والنشاط والقوة.
المبحث الثالث: أسس الفكر التربوي الإسلامي
يشتمل هذا المبحث على ستة مطالب:
المطلب الأول: ربانية المصدر والوجهة
أولًا: ربانية المصدر:
من أسس الفكر التربوي الإسلامي الربانية، أي مصدر هذا الفكر الأول والأساسي هو رب العالمين؛ فهو فكر رباني، يستمد من مصدر ثابت لا يتغير ولا يتبدل.
ثانيا: ربانية الوجهة:
فالإسلام يجعل غايته الأخيرة، وهدفه البعيد، حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته. فهذه غاية الإنسان ووجهته، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة.
ثالثا: ربانية الفكر الإسلامي والتربية:
اتسام التربية الإسلامية بالربانية، يغرس في نفوس السائرين وفق منهجها حبًّا واحتراما، نابعا من الإيمان بكمالها وسموها وخلودها.
والربانية تتطلب توجيه النظر والقلب إلى مشاهدة الكون، وما بث الله فيه من آلائه، ودلائل قدرته، وبديع حكمته، فكل هذا إنما يهدف إلى تثبيت الإيمان وإلى الاتجاه إلى الخالق العظيم بقلب سليم. وهذا الأسلوب من أقوم أساليب التربية والتوجيه والإرشاد.
وربانية التربية الإسلامية تتطلب من الذي ينهج نهجها أن يحرص على ذكر الله والتبتل إليه، حتى لا تنسيه مطالب العيش وشؤون الحياة الدنيا ما عليه لله ولنفسه من واجب يصل به إلى الخير.
المطلب الثاني: مفهوم العبادة الشامل
العبادة لغة: تأتي العبادة في اللغة بعدة معان من أهمها: الطاعة، والتذلل، والخضوع.
العبادة اصطلاحا: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وعلى ذلك فجميع أعمال الإنسان التي ترتكز على الإيمان بالله واليوم الآخر، والتي يقصد بها وجه الله تعالى، إذا أديت على وجهها المشروع تعد عبادة. وهي حب الله والخضوع التام له. والعبادة شاملة لكل جوانب الحياة؛ فهي شاملة للدين كله، سواء كانت شعائر أو معاملات أو أخلاق أو فضائل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو جهاد في سبيل الله.
المطلب الثالث: شمول الإسلام لكل زمان ومكان
رسالة الإسلام لكل الأزمنة والأجيال؛ ليست محصورة بعصر معين أو زمن مخصوص، ينتهي أثرها بانتهائه. فليس بعد الإسلام شريعة، ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد محمد- صلى الله عليه وسلم- نبي. وهي رسالة غير محدودة بمكان ولا بأمة، ولا بشعب، ولا بطبقة. إنها الرسالة الشاملة التي تخاطب كل الأمم، وكل الأجناس، وكل الشعوب، وكل الطبقات. فالشريعة الإسلامية بذاتها صالحة لكل زمان ومكان؛ لأن في معانيها ومبادئها وأحكامها، ما يجعلها صالحة لهذا العموم المكاني والزماني.
المطلب الرابع: كمال الإسلام وختمه للرسالات السماوية
إن الإسلام يستمد بقاءه من أمرين:
1- كونه من عند رب العالمين.
2- صلاحيته لكل زمان ومكان بعد مجيئه على يد خاتم النبيين والمرسلين.
وشاء الله للإسلام أن يكون الرسالة العامة الخالدة، فهو هداية الله للناس كافة، فلا غرو إذا كانت نظرة الإسلام جامعة محيطة مستوعبة؛ فقد أودع الله في هذا الدين ما يشبع كل نهمة معتدلة، وما يقنع كل ذي وجهة، ويلائم كل تطور.
المطلب الخامس: تجديد أمر الدين بتجديد متغيرات الحياة
إن التجديد من سنن الإسلام؛ فقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام:” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها”.
ويقصد بتجديد الفكر التربوي الإسلامي ما يعيد للأمة في مجموعها هويتها الدينية، وينمي فيها الاعتزاز بدينها، وتنشط به التربية الإسلامية مرتكزة على سلامة العقيدة والوعي بمستجدات العصر.
وتجديد الفكر التربوي الإسلامي بمعناه الصحيح، يستلزم أن ينهض علماء الأمة بالاجتهاد في علوم الدين والتربية على تنوعها واتساع آفاقها.
ونستطيع أن نحدد مجال الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب. والثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. والثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.
المطلب السادس: تغيير ما في الواقع بتغيير ما في الأنفس
التغيير لغة: تغير الشيء عن حاله: تحول. وغيّره: حوَّله وبدله كأنه جعله غير ما كان. وتغايرت الأشياء اختلفت.
والتغيير اصطلاحا يأتي بمعنيين:
الأول: تغيير صورة الشيء دون ذاته، أو تبديله بغيره. وهو معنى تحويله وجعله غير ما كان.
الثاني: التخفيف وإصلاح شأن الشيء. وهذه مسؤولية الأفراد، والأقوام والجماعات كذلك، مسؤولية تضامنية.
فلا تظن جماعة ما أن الله ينزل عليها التغيير لحالها من السماء، كما أنزل المن والسلوى؛ بل إن التغيير الإلهي لحال البشر، لا بد أن يسبقه تغيير داخلي من جانب البشر أنفسهم أولا. وهذه سنة الله في خلقه، لا بد من مراعاتها، فهي لا تحابي أحدا، ولا تتحيز لأحد، ولا ضد أحد؛ تعمل مع المسلمين كما تعمل مع الكافرين.
الفصل الثالث: معالم الفكر التربوي عند الشيخ محمد الغزالي
المبحث الأول: المنطلقات الفكرية عند الشيخ الغزالي
المطلب الأول: نظرته للكون والحياة
الشيخ محمد الغزالي، في نظرته لهذا الكون، يدعو لاستعمال العقل، كما أن للعقل عنده مكانة متميزة، ولا يسمح لنفسه أن يخالفه. وهذا واضح غاية الوضوح فيما يتحدث به وفيما يكتب. ويوجه الشيخ الغزالي إلى التعرف على الله من خلال آياته المبثوثة بالنفس والكون.
فالعقل عند الشيخ الغزالي له مجال يعمل فيه، وهو المجال الكوني، والأمور الدنيوية البحتة، وله مكانة مرموقة، وهو أعظم منن الله على الإنسان. وكثيرا ما ينعى الشيخ الغزالي على المسلمين عدم استغلال العقل في معرفة الكون في عصرنا هذا.
وأما نظرة الشيخ الغزالي للحياة، فإنه يؤمن بأن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، وأنه الدين الشامل لكافة ميادين الحياة، والنظام الوحيد القادر على ضمان السير المتوازن، والمعتدل لاحتياجات الجسم والروح معا، فهو يقوم على إنصافهما، ومنحهما الحق الطبيعي لنمو سوي، ومتكافئ للوصول إلى الهدف المنشود، وهو عمارة الأرض، والسبيل إلى ذلك هو التدين الحقيق.
والتدين الحقيقي الذي يقصده الشيخ الغزالي: إيمان بالله العظيم، وشعور بالخلافة في الأرض، وتطلع إلى السيادة التي اقتضتها الخلافة، أعني السيادة على عناصر الكون وقواه.
التدين الحقيقي: ليس جسدا مهزولا من طول الجوع، والسهر، ولكنه جسد مفعم بالقوة التي تسعفه على أداء الواجبات الثقال. مفعم بالأشواق إلى متاع الحياة، فإن كان حلالا طيبا ارتفقه، وابتهج به، وإن كان كسبا خبيثا ابتعد عنه، وهو قادر عليه. ويرى الغزالي أن الموقف السلبي الذي تبناه مسلمو القرون المتأخرة تجاه الحياة، كان سببا لتخلفهم الحضاري.
المطلب الثاني: نظرته للإنسان
الشيخ الغزالي تناول الطبيعة الإنسانية، وتحدث عنها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ فتحدث عن خلق الإنسان، وتكريم الله له، والحكمة من خلقه واستخلافه في الأرض، كما تحدث عن مكونات الإنسان من الجسم والروح والعقل، وما يخص كل منهم بالتربية. ثم تحدث عن النفس وأنواعها، كما تناول المحيطة بالإنسان. فيرى أن الله عز وجل خلق الإنسان، وكرّمه على سائر المخلوقات.
ويؤكد الشيخ الغزالي على الحكمة من خلق الإنسان؛ فيؤكد أن الإنسان مكلف بعبادة الله، لا يعبده بشبحه المحدود، وجسمه المادي القاصر، إنما يعبده بتطويع طاقاته كلها لله.
وقد اهتم الشيخ الغزالي بالعقل الإنساني كمكون من مكونات الإنسان؛ فقد أشار إلى مكونات الإنسان الأخرى كالجسم، والروح، والقلب. أما الجسم فإن التربية الجسمية تحتل مكانا كبيرا في فكره، وخاصة بعدما انتشرت بعض الأفكار المغلوطة التي تدعو إلى الجوع، أو ترك التداوي، أو إهمال الجسد، بحجة الزهد. فنجده يدعو إلى الاهتمام بالتربية الجسمية والاعتدال في الطعام والشراب، والاعتدال في تصريف الطاقة الجنسية، كما أمر الله بالاهتمام بصيانة الجسم.
ولم يفض الشيخ الغزالي في الحديث عن الروح، كما تحدث عن العقل والقلب، وسبب ذلك أن القرآن الكريم أخبر: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).
وأما القلب، فإن الشيخ الغزالي يوضح أن المقصود بهذا اللفظ هو الضمير المسؤول عن تصرفات الإنسان، وليس تلك المضخة للدم. ولقد حارب الإسلام الهوى في سبيل إقامة قلب سليم. والإنسان الذي لا قلب له لا ضمير له، والأهواء تسيطر عليه.
أما فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية أهي خيرة دائما أم شريرة دائما؟ أم ماذا؟ فيؤكد الشيخ الغزالي على أن الفطرة الإنسانية خلقت سوية مستقيمة، وأنها لو بقيت على أصل الفطرة ما فسدت، ولا أشركت؛ فالعوج الذي يلحقها طارئ لا أصيل. فالإسلام وهو فطرة الله في النفس، يريد حماية الإنسانية من هذا التدني.
المطلب الثالث: نظرته للمجتمع
1- نظر الشيخ محمد الغزالي للمجتمع الذي يعيش فيه، نظرة إشفاق ورحمة، وكان تركيزه منصبا على معالجته لأمراض وجروح المجتمع العامة والمنتشرة بشكل كبير.
2- ولقد جأر الشيخ الغزالي في وجه التيار العلماني الذي حاول سلخ المجتمع عن عقيدته وشخصيته المتميزة، كما كانت له صولات وجولات في مقاومة الزحف الأحمر والمد التبصيري.
3- وتحت عنوان: كيف ندعو إلى الإسلام؟
يقول: أنا لا أحسن جر الإسلام من ذيله، إنني أشيد القواعد وأبدأ البناء بعدئذ، وأبلغ ما أريد بالحكمة. فالأول هو الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، والسمع والطاعة لما جاء به الوحي في الكتاب والسنة، والأركان التي يوجد الإسلام إلا بها في مجال العبادات والأخلاق، ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بالزي والهيئة.
4- كما أن الشيخ الغزالي وفي علاجه لأمراض المجتمع، كان يدعو الناس إلى عدم تهويل التوافه وتهوين العظائم. فالإسلام عقائد وعبادات، وأخلاق وشرائع، ومن التقاء هذه الأنواع تتكون المعالم لمجتمع كامل، وجماعة قائمة.
كما أن الشيخ الغزالي كان يدعو إلى الاختلاط بالناس ومراعاة أحوال المجتمع، حيث كان يدعو الدعاة إلى أن يختلطوا بالناس ويعيشوا معهم. فالعبادة الحقيقية لله أن تغرس الفطرة الإنسانية، وأن ندخل في حرب دائمة مع البيئة التي تريد تشويهها أو تغييرها أو تحريفها، فكل مولود يولد على الفطرة، والتقاليد الفاسدة والعقائد الزائفة، هي التي تتلقف الأجيال الناشئة، وتنحرف بها ذات اليمين وذات الشمال بعيدا عن حقائق الإسلام وصراطه المستقيم، فكيف نترك المجتمعات يستقر فيها الباطل. ويتلاشى منها الحق، ويحل الرجس محل الطهر، والكفر مكان الإيمان. وكذلك مراعاة أحوال الناس حين عرض الدعوة عليهم وتقدير الفوارق بين السائلين.
5- وفي نظرة الشيخ الغزالي للمجتمع، فإنه لم يهمل المرأة، حتى إنه أفرد لها كتابا كاملا سماه (قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة).
إن التلطف مع الإناث والرفق بهنَّ عند الشيخ الغزالي آية اكتمال الرجولة ونماء فضائلها، وهو أدب يبذل للنساء عامة. ومع استقامة الفطرة الإنسانية قلما يتخلف هذا المسلك العالي. إن مجتمعا من المجتمعات لن تكتمل حياته إلا بشقيه الذكر والأنثى. ولا يتصور مجتمع صالح عندما تكون المرأة حيوانا يحسن تقديم الأكل والمتعة وحسب. ويرى الشيخ الغزالي أن أشرف وظائف المرأة، وأرقى أعمالها، أن تكون ربَّة لبيتها، ما لم تخرجها ضرورة ملجئة، لأن وظيفتها إنشاء الحياة وصيانتها وتعهدها حتى تؤدي رسالتها كاملة.
المطلب الرابع: الوسطية
الوسطية هي كل أمر اتصف بالخيرية والبينية، وهي كل أمر وسط بين الإفراط والتفريط. فالوسط من كل شيء أعدله، وهو معنى يتسع ليشمل كل خصلة محمودة لها طرفان مذمومان. والقارئ لفكر الشيخ الغزالي يتعرف على منهجه الوسطي، وعلى رحابة الآفاق التي يحملها، فهو أحد روّاد الفكر المتجدد. ويشهد بذلك جموع الناس.
ومن وسطية الشيخ الغزالي أنه يتصف بالتجرد وعدم الانحياز في كثير من آرائه وخاصة مع الأشخاص.
وقد تجلت وسطية الشيخ الغزالي في أنه شجع عطاء المرأة في خدمة المجتمع، والعمل خارج المنزل. وذلك عبر المشاركة في الأعمال التي تناسبها، ولا توجد حاجة لأن نخير المرأة بين البيت أو العمل خارجه، طالما أنها تستطيع الوفاء بحق الوظيفتين بصورة متوازنة.
واستخدم الشيخ الغزالي رؤية نقدية لنشر أفكاره التي حاول أن تكون معتدلة. فانتقد تقاليد الشرق المجحفة، التي لا تقل خطرا عن تقاليد الغرب المسرفة، وصورت كتاباته قصة ظلم المرأة بين مطرقة المغالين، وسندان المقصرين.
لقد كان انتماء الشيخ الغزالي إلى جماعة الإخوان المسلمين لاتفاق منهجها مع رؤيته الشرعية الوسطية، والمدرسة الفكرية التي كان ينتمي إليها، والتي وصفها بأنها “تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية، والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي، كما ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ. وخرج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة”.
ويبين الشيخ الغزالي أن الغلو في الدين قد ينتج عن خطأ في الفكر أو عوج في الطبع، وغالبا ما يزيغ عن الحق، وينتهي بالانسلاخ عن الدين الصحيح. إن الإسلام يجعل التوسط فضيلة في شؤون الدين والدنيا جميعا.
المطلب الخامس: الأصالة والمعاصرة
تقوم منظومة الفكر التربوي عند الغزالي على أساس احترام مبدأ الحرية، والاختيار والشورى الملزمة. واحترام الخلاف العلمي النزيه، والنقد النزيه، والتعددية الموضوعية. ومن الواضح أن الغزالي بذل جهدا كبيرا ليحقق الأصالة والمعاصرة من خلال الحرص على فتح نوافذ فكرية للاستفادة من الدراسات المعاصرة مع الاستعانة بالمصادر القديمة. وذلك عن طريق استلهام النافع من محاسن تراثنا الإسلامي مع مواكبة الصالح من العلوم المعاصرة.
ويرى الشيخ الغزالي أن الفقهاء اجتهدوا لعصرهم، وعلينا أن نسلك نهجهم، وأن نجتهد لعصرنا مع الاستفادة من التراث الزاخر.
وتعرض الغزالي في كل أو جل فقهه التربوي لكثير من المسائل الخلافية، وتميز بصراحة المواجهة، وسلامة المنهج.
ومنهج الغزالي العام في الاجتهاد والاختيار يرحب بالتنوع ويرفض الوصاية الفكرية. والمتابع لمصادر الغزالي يجد الكثير من الأفكار التي استعان بها تستند إلى اجتهاد من اجتهادات الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء. ولا شك أنه لم يتقيد بتقليد مذهب معين أو إمام معين!
المبحث الثاني: مواقف الشيخ محمد الغزالي الفكرية
المطلب الأول: موقفه من التعامل مع القرآن الكريم
أولا: حفظ القرآن الكريم
حفظ الشيخ الغزالي القرآن الكريم وعمره عشرة أعوام. يقول:” لقد صحبني القرآن من طفولتي، وحفظته في سن العاشرة، وما زلت أقرأه وأنا في العقد الثامن من العمر”؛ يقصد استظهارا من الذاكرة.
ثانيا: تدبر القرآن الكريم
أيقن الشيخ الغزالي مدى أهمية كتاب الله العظيم، وأدرك أنه ليس مجرد كتاب للتلاوة والتعبد فحسب، بل إنه الكتاب الوحيد الذي تمكّن أتباعه بقيادة الرسول- صلى الله عليه وسلم- من إقامة أكبر وأعظم دولة، وحضارة إسلامية، ومن ثم فإن هذه المكانة الكبيرة له تفرض على أتباعه بعد تلاوتهم له، أن يتعهدوه بالدراسة والتدبر والتحليل، إيمانا منهم أن ثمرة التلاوة هي التدبر والتذكر. يقول:” إن هذا القرآن وفر للنهضة الإسلامية من عناصر الوجود والاكتمال، ما لا تستطيع صنعه ألف وزارة للدعاية، تجند فيها لتغذية العواطف والآراء آلاف الأقلام الواعية والألسنة الحادة”. وهذا تأكيد على أن كل مواقف الشيخ الغزالي الفكرية، وآرائه التجديدية مستوحاة من فهم الرجل لكتاب الله.
ثالثا: التوجه إلى الدراسة القرآنية والإنتاج فيها
ترك الشيخ الغزالي تراثا فكريا عظيما، دلّ على رحلة طويلة في التعامل مع القرآن الكريم، والبحث ضمن آياته وفي ثنايا سوره، عن السبيل الواقعي للنهوض بالأمة، ورد العدوان عنها من أطراف متعددة.
رابعا: فهم الشيخ الغزالي للقرآن الكريم
لقد كان القرآن الكريم محور اهتمام الشيخ الغزالي طوال مسيرة حياته. وهو يعتقد أن الانغلاق والانكفاء على قراءة النص القرآني باعتباره مصدرا تشريعيا، بصورة تجزيئية، هو خطر عظيم. ولا بد من توافر قراءة شاملة الأبعاد مترابطة الوشائج، تختزن الرؤية التوحيدية في نظرتها للكون والحياة. ومن هنا جاءت دعوته إلى التفسير الموضوعي، وتجاوز التفسير الموضعي الذي شاع تاريخيا.
ويرى الشيخ الغزالي أن ترجمة القرآن الكريم إلى واقع موضوعي، لا يتأتى إلا من خلال وعي السنن الكونية في المجتمعات؛ كسنة التداول الحضاري، وسنة المدافعة، وسنة التسخير، وسنة النصر، وسنة التغيير.
المطلب الثاني: موقفه من حديث الآحاد في السنة النبوية
تعرض الشيخ الغزالي لحملات إساءة وتشويه من فئات معينة. هذه الزوبعة ظهرت بعد إصدار كتابه” السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”؛ فلجأ هؤلاء إلى شتم الشيخ والتهكم عليه، والشيخ الغزالي كان أكثر انتسابا للسنة منهم، ولم يرد عليهم.
وأشار الشيخ إلى أن القرآن هو قانون الإسلام، والسنة هي تطبيقه، والمسلم مكلف باحترام التطبيق، كتكليفه باحترام القانون نفسه. وحذر الشيخ الغزالي من اتخاذ نقد السنة سندا أو متنا غطاء للطعن لا في السنة فحسب، بل لرفض الدين، والعمل على ضياع الإسلام. ويرى أن اعتبار تكذيب السنة احتجاجا بأن القرآن حوى كل شيء بدعة جسيمة الخطر؛ لأن الله تعالى ترك لرسوله السنن العملية يبينها ويوضحها. وقد ثبتت هذه بالتوار الذي ثبت به القرآن فكيف تجحد؟ بل كيف تجحد وحدها ويعترف بالقرآن؟
وفي علاقة السنة بالقرآن، فقد بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ عن الله، ويوضح مراده، ويكمل الأحكام في الصور الجزئية الكثيرة، التي ليس من شأن الدستور العام (القرآن) أن يتعرض لها، وللسنة عدا هذا النطاق التشريعي ميدان أوسع، ينبغي أن نطيل التأمل فيه.
وحديث الآحاد: هو ما دون المتواتر، وما دون المشهور، من حيث إنه ليس له إلا راو واحد أو قلة من الرواة في كل طبقة من الإسناد.
وقد رفض الشيخ الغزالي اعتماد أحاديث الآحاد في إثبات العقائد. وأحاديث الآحاد الصحيحة التي ردها الشيخ الغزالي، كما يقول الشيخ القرضاوي:” لا يتوقف عليها أي أمر من أمور الدين، فلو مات المسلم ولقي ربه دون أن يقرأها أو يعرف عنها شيئا ما نقص من إيمانه ذرة”.
وهو لم يردها لهوى في نفسه، ولا لتنكر للسنة، بل حرصا أن يجد العلمانيون واللادينيون فيه ثغرة ينفذون منها للطعن فيه.
المطلب الثالث: موقف الشيخ الغزالي من الاشتراكية
النظام الاشتراكي هو إفراز للنظام الشيوعي الذي ظهر في روسيا. هذا النظام الذي تبنى الصيغة الاشتراكية، المعادية والرافضة للصيغة الرأسمالية، لتحقيق العدل الاجتماعي.
وهذا النظام وإن حمل في صورته الخارجية المظهر الاقتصادي والاجتماعي؛ فإنه في حقيقته انطوى على مبادئ دينية واخلاقية وفكرية هدامة، تدعو في مجملها إلى ضرورة مخاصمة الدين، ومحاربته للقضاء عليه.
وكان الشيخ الغزالي من أوائل المحاربين للنظام الاشتراكي، ولم يتوان لحظة عن كشف حقيقة الاشتراكية وتعرية أهدافها، مبررا أن الاشتراكية لم تأت لتحقيق المساواة، والعدالة الاجتماعية للمستضعفين، والفقراء؛ إنما جاء يتذرع بها لإعلان الحرب على الأديان، وقطع الصلة بين الأرض والسماء، وبين الإنسان والله. مبينا أن انتشار الاشتراكية مشروطة بإزاحة أي دين أو عقيدة من طريقها. ولقد تحقق هدف الاشتراكية حين وجدت من يسمعها ويتبنى أفكارها في العالمين العربي والإسلامي.
وإذا كان الشيخ الغزالي دعا إلى “الاشتراكية الإسلامية” في مرحلة من المراحل، لكنه نقد نفسه فيما بعد، وتراجع عن مصطلح” الاشتراكية الإسلامية”، وسجل ندم الدكتور مصطفى السباعي على استخدامه لفظ الاشتراكية. والسبب أن الاشتراكيين الشيوعيين تركوا رأي الإسلام ومنهجه الاعتدالي، واعتبروه دليل مشروعية لمناهجهم الاشتراكية.
المطلب الرابع: موقف الشيخ الغزالي من الديمقراطية
إذا كان تعريف الديمقراطية هو: أنها حكم الشعب بالشعب للشعب؛ وهذا التعريف يتحدث عن آليات الحكم والتأثير في القرار السياسي. فهذا المعنى هو الذي يركز عليه فكر الشيخ الغزالي، ويحاول أن يؤصله إسلاميا. فقد أكد أن الوضع الطبيعي لاختيار الحكام في المجتمع المسلم هو الوضع الشوريّ. أي الوضع الذي يختار فيه الناس حكامهم. والشيخ الغزالي صرح بأن تكوين أحزاب سياسية في النظام السياسي الإسلامي أمر مباح ومشروع. وهذا مبدأ تقترب به الديمقراطية الغربية من الإسلام وليس العكس. لقد كان إيمان الشيخ الغزالي بأن الاستبداد هو سر انحطاط المجتمعات المسلمة، وانكماش حركة الدعوة الإسلامية، بسبب ثورته العنيفة عليه. فإن طريقة الإسلام في إدارة دفة الحكم بالشورى هي التي جعلت الشعوب تفتح ذراعيها له. ورد الشيخ الغزالي على منتقديه الذين عابوا عليه أخذه بالديمقراطية قائلا: “إنني شعرت بجزع عندما رأيت بعض الناس يصف الديمقراطية بالكفر”.
المطلب الخامس: موقف الشيخ الغزالي من المرأة
شكلت قضايا المرأة اهتماما واسعا في فكر الشيخ الغزالي؛ فقد اهتم بتربية المرأة المسلمة، وأكد على أحقيتها في طلب العلم، ودورها في البناء والتحرير والتربية، كما حاول أن يصحح المفاهيم الخاطئة والقاصرة، التي تبناها بعض الإسلاميين المتشددين، الذين يروجون لنصوص واهية، كان لها أثرها في حرمان المرأة من التعليم والتربية وتولي المناصب.
ففي مطلع الثمانينيات من القرن العشرين أسس الشيخ الغزالي منهجا متكاملا للتعامل مع الأصول- قرآن وسنة- وبدأ في بلورة وتطوير أفكاره بشأن المرأة وبسياق أوسع. ويتوج الشيخ الغزالي جهده ونظره في شؤون الأمة وحال نسائها بكتابه: قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، في أوائل التسعينيات. وربما كان ذروة ما كتبه الشيخ الغزالي عن النساء هو ما ذكره في كتابه: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل. إذ ينتقل خطوة أبعد من تكريم المرأة في ذاتها إلى تكريمها في كفاءتها ومشاركتها في صنع حضارة الإسلام وتراثه، وحمل أمانة هذا الدين. وأن حضارة الأمة بناها وبيَّنها الرجال والنساء معا.
المبحث الثالث: الشيخ محمد الغزالي المربي
المطلب الأول: خصائص المربي الناجح ومقوماته عند الشيخ محمد الغزالي
1- حسن الصلة بالله: يوضح الشيخ الغزالي أن خشية الله هي من عناصر الإيمان الأولى.
2- إصلاح النفس: هو واجب كل مسلم، وأوجب على المربي. ومن أحسن صلته بالله تعالى بصَّره الله بعيوب نفسه.
3- ذكاء العقل ونقاء القلب: وأن حاجة الإسلام للذكاء لا تقل عن حاجته للإخلاص. أما نقاء القلب فيعني أن يملك المربي قلبا محبا للناس عطوفا عليهم، يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب.
4- الإخلاص: لا يُغني الإخلاص شيئًا إذا كانت الصلة بالله ضعيفة؛ بل هما متلازمان، وكذلك إذا كان مخلصًا ولا يتعهد نفسه بالعلاج والمجاهدة، أو يخالف قوله فعله.
5- الثقافة الواسعة: غزارة الثقافة، وسعة الأفق، وروعة الحصيلة العلمية، خصال لا بد منها لأي داعية أو مربٍّ ناجح.
6- الجرأة والشجاعة: الداعية أو المربي على حق في مواجهة باطل. وهذه صفة يسقط عندها كثير من الدعاة والمربين إلا من عُصم وسدِّد.
هذه هي مقومات المربي الناجح التي ركز عليها الشيخ الغزالي، ومن شأن هذه المقومات المهمة إذا ما توفرت في المربي والداعية أن يلقي كلامه إنصاتًا من الناس، واستجابة لما يدعو له.
المطلب الثاني: أساليب التربية عند الشيخ محمد الغزالي
1- التربية بالقدوة الصالحة.
2- التربية بالقصة.
3- التربية بالوعظ والتذكير والتلقين الواعي.
4- الترغيب والترهيب.
5- التربية بالمواقف والأحداث.
6- التربية بشغل أوقات الفراغ.
7- أسلوب التدريب والممارسة العملية.
8- أسلوب التربية بالعادة.
المطلب الثالث: الإصلاح التربوي عند الشيخ محمد الغزالي
الفرع الأول: العدل الاجتماعي
في أربعينيات القرن الماضي بدأ الشيخ الغزالي معركته ضد الظلم والتفاوت الاجتماعي. ونادى بضرورة حل المشاكل الاقتصادية كضرورة لعمل المربين. يقول: إن تجويع الجماهير بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والظلام؛ ومن هنا انتشر الفقر في الشرق، وسخّر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته.
الفرع الثاني: مقاومة الاستبداد السياسي
يؤكد الشيخ الغزالي أن الفساد السياسي كان أهم عوامل انهيار الحضارة الإسلامية ورسالتنا خلال قرون مضت. إن حكامنا كانوا القشرة العفنة في كياننا منذ زمن بعيد.
الفرع الثالث: توحيد الأمة
أكد الشيخ الغزالي أن المسلمين لن يتمكنوا من تحقيق نهضتهم المنشودة، ولا كسر قيودهم الثقيلة، إلا إذا عملوا بجد على إعادة وإحياء وحدتهم وأخوتهم من جديد. وقد حدد جملة من الخطوات الهامة لبلوغ ذلك، وهذه الخطوات هي:
أولا: الإسلام هو نبض الوحدة، فأول خطوة لتحقيق الوحدة- كما يرى الغزالي- هي دعوة المسلمين إلى الإسلام.
ثانيا: إعادة الخلافة الإسلامية فرض عين على المسلمين.
ثالثا: التحرر من النزعات القومية.
رابعا: الدور العربي الفعال في بناء الوحدة الإسلامية. فعلى العرب أن يربطوا ولاءهم بدينهم لا بجنسيتهم.
خامسا: الموقف تجاه الأقليات المسلمة.
الفرع الرابع: محاربة الفهم غير الصحيح للدين
يرى الشيخ الغزالي أن الذي يكفل للمسلمين تصحيح وعيهم الديني، هو عودتهم للإسلام الحقيقي. وهذه العودة تتم من خلال أمرين؛ أولهما: تلقي الإسلام من منابعه الأصلية، وثانيهما: قيام العلماء بواجبهم في حمل رسالة الإسلام، وتنوير الجماهير الغفيرة بتعاليمه الكريمة.
وأورد الشيخ الغزالي بعض الخصائص التي لابد من توافرها في حملة الإسلام، والعاملين في ميادينه المختلفة، ومنها ما يأتي:
أ- إرادة الله والدار الآخرة، والتجرد للرسالة التي يحملونها.
ب- سعة المعرفة وغزارة الثقافة الإسلامية والإنسانية.
ت- التوازن الاجتماعي.
ث- استخدام العقل: فالذين يخدمون الإسلام يجب أن تكون لهم عقول كبيرة.
ج- دور المرأة: فالحاجة إليهن ملحة مع الغزو الحضاري الفتّان الذي نتعرض له.
ح- فقه الواقع.
الفرع الخامس: المحافظة على التراث الإسلامي وتنقية الثقافة الإسلامية
من يتتبع فكر الشيخ الغزالي يجد أن مراحل تنقية التراث الثقافي الذي ورثه المسلمون تتمثل فيما يأتي:
أولا: محاكمة التراث الثقافي إلى الإسلام.
ثانيا: دراسة التاريخ الإسلامي.
ثالثا: إعادة ترتيب العقل المسلم.
رابعا: إقصاء الدعاة القاصرين.
خامسا: مواجهة الغزو الثقافي.
سادسا: إعادة الصلة بين الاتجاهين الثقافي والسياسي والعمل على توثيقهما من جديد.
سابعا: التعاون بين مدرستي الأثر والرأي في ثقافتنا الإسلامية.
ثامنا: نقد شامل لمسار العالم الإسلامي.
من فوائد البحث وثمراته:
1- ترك الشيخ الغزالي تراثا ضخما، وفكرا تجديديا، عبرت عنه مؤلفاته الكثيرة، وخطبه، ومحاضراته، وندواته.
2- دعا الشيخ الغزالي إلى احترام العقل، وإلى تدبر الكون التدبر الصحيح، ودعا المسلمين إلى تصحيح موقفهم السلبي تجاه الحياة.
3- نادى الشيخ الغزالي بضرورة علاج أمراض المجتمع السليم، بتناول الكليات، والابتعاد عن الفرعيات.
4- دعا إلى الوسطية، وهو يعد رائد المنهج الوسطي.
5- امتاز فكره بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، وجهده المبذول بهذا الجانب كان كبيرا.
6- المربي الناجح في نظر الشيخ الغزالي خصائص ومميزات ينبغي الاتصاف بها، حتى تؤتي التربية النتائج المرجوة؛ مثل: حسن الصلة بالله تعالى، وإصلاح النفس، وذكاء العقل ونقاء القلب، وإخلاص المربي، وثقافته الواسعة، وجرأته وشجاعته.
7- حارب الشيخ الغزالي التدين المغلوط أو الفاسد كما كان يسميه، ودعا المسلمين إلى التدين الحقيقي الذي هو صنو الفطرة السليمة.
8- تنوعت أساليب التربية عند الشيخ الغزالي، داعيا المربين للأخذ بها، والتعامل معها.
9- عاش الشيخ الغزالي يكتب بقلمه، ويخطب بلسانه، يدافع عن الطبقات الضعيفة، ينادي بالعدل الاجتماعي، يناصر المرأة، ويدعو إلى إعطائها حقوقها التي كفلها لها الإسلام.
10- وقف الشيخ الغزالي طول عمره مناديا بالإصلاح، داعيا للتجديد، منوها بالشورى، مقاوما للطغيان والاستبداد، عاملا لوحدة المسلمين بالعالم.
11- وصف الشيخ الغزالي الفساد السياسي بأنه السرطان للأمة، داعيا إلى محاربته، لأنه وراء تخلف ونكوص الأمة والحضارة الإسلامية.
12- اهتم الشيخ الغزالي بالتراث الإسلامي، داعيا للمحافظة عليه، وفي نفس الوقت تنقية الثقافة الإسلامية مما علق بها من خرافات وأساطير وأكاذيب.
13- أحدث الشيخ الغزالي جدلا واسعا بطرح بعض الأفكار الجزئية مدافعا عنها بكل قوة.