حرص الإسلام الحنيف على غرس معاني الفضيلة في النّفس البشرية وتهذيب سلوكها وتقويم اعوجاجها والبعد عن النقائص، ومنها الغيبة التي تنتقص من شيم ومكارم الإنسان الذي كرّمه الله- سبحانه وتعالى-، كونها تخوض في حق الغير أثناء غيابه دون وَجه حق.
وهي تدل على عجز قائلها الذي لا يستطيع الإفصاح عن مثل هذا الكلام في وجود المغتاب، لذا حرمها الإسلام وحرص على تربية الفرد المسلم بعيدًا عنها، سواء كان قائلًا أو مستمعًا دون أن يدفع عن أخيه غيبته، ووضع الإسلام أسسًا تربوية تحث على التلاحم والحب وعدم تجريح الناس وذمهم في غير وجودهم.
مفهوم الغيبة وصورها
لقد شدد الله- عز وجل- في أمر الغيبة وذم الآخرين في غير وجودهم، فقال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}[الحجرات:12] وذلك لعظيم جُرمها.
والغِيبَة في اللغة: هي الوَقيعة في النَّاس؛ لأنَّها لا تُقال إلا في غَيْبَة، يُقال: اغتابه اغتيابًا إذا وقع فيه وذكره بما يكره من العيوب وهو حق، فهي ذكر العيب بظهر الغيب، وغابَه: عابه، وذكره بما فيه من السُّوء.
واصطلاحا: قد عرّفها النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “أتدرون ما الغِيبَة؟” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “ذكرك أخاك بما يكره” (مسلم).
وقال المناوي القاهري: “هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظٍ، أو إشارةٍ، أو محاكاةٍ”(1).
وللغِيبة صور كثيرة لا تقتصر فقط على قول مكروه في حق شخص أثناء غيبته، بل قد تكون بكلمات يقع فيها كثير من المسلمين مثل قولهم حينما يذكر شخص أمامهم: “الله يعافينا، والله يتوب علينا، ونسأل الله السلامة ونحو ذلك”، كما أنها تكون في جميع الصفات الخلقية والخلقية وفي جميع أمور الدنيا والدين.
يقول النووي إن صور الغِيبَة تتمثل في ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو خُلقه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك ممّا يتعلّق به سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز(2).
بواعث الغيبة
أسباب كثيرة تدفع الإنسان إلى الوقوع في الغيبة وذكر الآخرين وتجريحهم، منها:
- ضعف الورع الذي يجعل المرء يستطيل في أعراض الناس من غير روية، فالورع منجاة حيث تورعت السيدة زينب بنت جحش في الخوض في سيرة السيدة عائشة في حادثة الإفك وقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرًا، مما دفع السيدة عائشة أن تقول عنها: “وهي التي كانت تساميني- أي: تعاليني وتفاخرني- من أزواج رسول الله فعصمها الله بالورع”.
- مرافقة الصحبة السيئة التي لا تتورع عن الخوض في أعراض الناس ولا تقر معروفًا ولا تنكر منكرا، يقول تعالى: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}[الطور:11-12].
- الحسد والغيظ والكره الذي يولّد مشاعر الغضب فتدفع الإنسان إلى رمي أخيه بكل نقيصة ليست فيه من أجل التشفي والانتقام وإرضاء الذات، قال ابن تيمية: ومنهم من يحمله الحسد على الغِيبَة فيجمع بين أمرين قبيحين: “الغِيبَة والحسد”.
- حب الدنيا والحرص على العلو، وهو ما يدفع الإنسان إلى غَيبة أخيه حتى يفسح له المجال لتبوء مكانه، قال الفضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغي وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير.
- المرح والهزل الذي قد يجعل الإنسان يكذب بذكر نقيصة في أخيه ليضحك الآخرون، يقول تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر:45](3).
تأصيل شرعي
لا شك أن الغيبة مُحرمة بالكتاب والسنة والإجماع، فقد شبّه الله تعالى المُغتاب بآكل لحم أخيه ميتًا فقال: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12]، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}[الهمزة:1].
وقال- جل شأنه-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، قال: “أتدرون ما الغِيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته”(مسلم).
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: “مرَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- على قبرين، فقال: إنَّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، ثُمَّ قال: بلى، أمَّا أحدهما: فكان يسعى بالنَّمِيمَة، وأما الآخر: فكان لا يستتر من بوله” (البخاري ومسلم).
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت للنَّبي- صلى الله عليه وسلم-: حسبك من صفيَّة كذا وكذا، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته” (أبو داود والترمذي).
وجاءت آخر خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- مُحذّرة من سلوك الغِيبة والخوض في أعراض الناس، كونها تشعل الحروب وتأتي على الأخضر واليابس، فقال- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: “إنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت” (البخاري ومسلم).
وعنه- صلى الله عليه وسلم- قال: “إن من أرْبى الربا الاستطالةَ في عرضِ المسلمِ بغيرِ حقٍّ” (أبوداود).
واختلف العلماء في عد هذا الذنب من الكبائر أو الصغائر، ونقل القرطبي الاتفاق على كونها من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة. وقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل لحم أخيه ميتًا، ولا يخفى أن هذا المثال يكفي مجرد تصوره في الدلالة على حجم الكارثة التي يقع فيها المغتاب، لذا كان عقابته في الآخرة من جنس ذنبه في الدنيا، فقد مرَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة عرج به بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قال: فقلت: “من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم” (رواه أبو داود).
ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}[الأحزاب:58]. والمستمع للغيبة شريك للقائل بها، ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر، لزمه ذلك.
وقد أوضح النبي- صلى الله عليه وسلم- عقوبة المغتاب والمستمع له في قصة ماعز بن مالك الأسلمي حينما جاء مقرًا بالزنا ويريد أن يتطهر، فأمر به النبي فرُجِمَ، فسمع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رجلينِ من أصحابِه يقولُ أحَدُهما لصاحِبِه: انظُرْ إلى هذا الذي ستَرَ اللهُ عليه فلم تَدَعْه نفسُه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكَلبِ! فسكَتَ عنهما ثمَّ سار ساعةً حتى مَرَّ بجيفةِ حمارٍ شائِلٍ برِجْلِه، فقال: أين فلانٌ وفلانٌ؟ فقالا: نحن ذان يا رسولَ اللهِ، قال: انزِلَا فكُلَا من جيفِة هذا الحِمارِ، فقالا: يا نبيَّ اللهِ، من يأكُلُ مِن هذا؟! قال: فما نِلْتُما من عِرْضِ أخيكما آنفًا أشَدُّ مِن أكلٍ منه! والذي نفسي بيَدِه إنَّه الآنَ لفي أنهارِ الجنَّةِ يَنغَمِسُ فيها. (سنن أبي داود).
وعلى هذا يجب على كل مَن حضر مجلس اغتيب فيه إنسان أن يذبَّ عن عرضه إذا خاض فيه منافق أو ظالم، وهذا من حق المسلم على أخيه المسلم.
آثار سلبية على الفرد المجتمع
وتُخلّف الغيبة آثارًا سلبية على الفرد والمجتمع، منها ما يلي:
- تساهم في إسقاط شخصية قائلها وتجعله ممقوتًا في المجتمع ومكروهًا.
- لا يغفر لصاحب الغِيبَة حتى يعفو عنه الذي وقعت عليه الغِيبَة.
- تؤثر على علاقة الإنسان بربه، فتساهم في إبعاد هذا الشخص روحيًا عن الله تبارك وتعالى.
- تبذر سموم البغضة والفرقة في صفوف المسلمين فتعكر صفو المحبة وتنشر الفساد في المجتمع.
- تعمد إلى تفكيك المجتمعات وانعدام الثقة بين أفرادها.
- تجعل المجتمع فريسة سهلة للإشاعات المغرضة.
- قد تتصاعد إلى مرحلة الاستهزاء والتنمر والإيذاء.
- التجرد من الإنسانية ونزع الصفات من شخصية الأفراد بهدف الإيذاء، ما يتسبب في الكثير من المشكلات بين الأفراد(5).
وقد تجوز الغِيبَة في عدة حالات من أجل الإصلاح وليس بهدف الإفساد، ومنها:
- التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو القاضي، وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه.
- الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته، فلان يعمل كذا فازجره عنه.
- الاستفتاء، بأن يقول للمفتي ظلمني فلان أو أبي أو أخي بكذا فهل له كذا؟ وما طريقي للخلاص ودفع ظلمه عني؟
- تحذير المسلمين من الشر، ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئا معيبًا، أو شخصًا يصاحب إنسانًا سارقًا أو زانيًا أو ينكحه قريبة له، أو نحو ذلك، فإنك تذكر لهم ذلك نصيحة، لا بقصد الإيذاء والإفساد.
- أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كشرب الخمر ومصادرة أموال الناس، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ولا يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
- التعريف، فإذا كان معروفًا بلقب: كالأعشى والأعمى والأعور والأعرج جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنقيصًا(6).
أسس تربوية
ويجب على المسلم إدراك مغبة الغيبة والنتائج المترتبة عليها على نفسه ومجتمعه، ويجب أن يسلك درب الصالحين في عدم تجريح أو غيبة أحد، وأن يتعاون الجميع في ذلك، ومن المعينات:
- تقوى الله تعالى: قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطلاق: 5].
- انشغال الإنسان بعيوبه وأن يتذكر قبح هذه المعصية، وما مثل الله به لأهلها.
- محاسَبة النفس، وتذكر أن الحسنات ستنقل إلى المغتاب يوم القيامة فإن انتهت حمل من سيئات من اغتابه.
- مداومة ذكْر الله سبحانه فإن ذلك أدعى لبعده عن غيبة أو ذم أحد، بالإضافة لطهارة قلبه وتزكية نفسه.
- ينظر الإنسان إلى حال نفسه، ويتأمل السبب الباعث له على الغِيبة فيقطعه، فإن علاج كل علةٍ بقطع سببها.
- الحرص على مجالس الصالحين ومن يُذكّرون بالله سبحانه دائمًا، وقراءة سير الصالحين والنظر في سلوكهم وكيفية مجاهدتهم لأنفسهم.
- سعي المغتاب لمعاقبة نفسه بما يعززها حتى ترتدع وتبعد عن الغيبة(7).
- كظم الغيظ في حالات الغضب، حفظ اللسان.
- القناعة والرِّضا بما قسم الله لنا.
ومن هنا فإن الغيبة منكرة ومحرمة بدليل من القرآن والسنة، ولا بد من عدم التهاون بها لأنها تحبطُ الأعمالَ، وتأكل الحسنات؛ لذا فقد قال ابن المبارك: “لو كنتُ سأغتاب أحدًا لاغتبت أمي وأبي، فهم أحقُّ النَّاسِ بحسناتي”.
المصادر والمراجع:
- محمد المناوي: فيض القدر شرح الجامع الصغير، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1972م، صـ199.
- النووي: الأذكار، دار ابن حزم للطباعة والنشر، طـ1، 2004م، صـ35.
- الدكتور منقذ بن محمود السقار: الغيبة.
- الشيخ ندا أبو أحمد: حُكم المستمع إلى الغِيبة، 15 يوليو 2015.
- صبحي محفوظ: ما هي آثار النميمة على الفرد والمجتمع؟، 27 يوليو 2021.
- صلاح نجيب الدق: تجوز الغيبة في ستة مواضع، 12 ديسمبر 2017.
- الغيبة والنميمة وما يتعلق بهما من أحكام: 18 يناير 2001.
1 comments
جزاكم الله وبارك فيكم مقالة مفيدة