أثار مصطلح العولمة حيرة وقلق الكثير من المفكرين، سيما أنه شاع بسرعة تفوق شروط تشكُّله، إضافة إلى أنه ليس بالوضوح الذي يتشدّق به المتشيعون له، وفي الوقت نفسه فقد ثبت للجميع مدى التناقض الفج بين خطاب هذا الفكر وسلوكه على الأرض، وافتقاره إلى الشرعية الأخلاقية التي امتلكتها حضارات سابقة على رأسها الحضارة الإسلامية الغرّاء.
ويتساءل العديد من المفكرين عن قدرة هذا الفكر على الاستمرار، وإعادة توليد نفسه، وبخاصة وأنّ الفساد أصبح سمة لازمة وقطعية للمجتمعات في ظله وغيره من الأفكار البعيدة عن المنهج الإسلامي، ومن خلال هذا الموضوع نُوضح مفهوم هذا المصطلح، وآثاره السلبية على الثقافة والهوية الإسلامية، كما نحاول وضع أسس للحد من التأثيرات السلبية لهذا الفكر.
مفهوم العولمة
تعددت تعريفات العولمة من قبل الباحثين والمهتمين، حسب توجهاتهم الفكرية، والعقدية، وثقافاتهم المختلفة، وتعدد الزوايا التي ينظرون منها، والمتأمل في تعريفاتها يخرج بنتائج لعل أهمها، تعدد المفاهيم المطروحة حول هذا الفكر، ما يدل على أنه ينطلق من خلفيات ثقافية مختلفة، كما أنه مفهوم أو ظاهرة ذات أبعاد عديدة، سياسية، وثقافية، واجتماعية تؤثر في حياة الأفراد والجماعات.
وهو- أيضًا- عبارة عن مصطلح ينتهي بتفريغ المواطن من وطنيته، وانتمائه الديني، والاجتماعي، والسياسي، وبعبارة أخرى تضاؤل الاعتبارات المحلية من فكرية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية، في تشكيل حياة الناس لمصلحة انعكاسات دولية عامة، كما أنه مصطلح يتضمن زيادة وتيرة الاتصالات العالمية وتظهر تجلياتها في كل مكان ومن هذه التجليات الإنترنت الذي احتل عقول الناس ونفوسهم وأزال الحدود.
وفي المجمل فإن هذا المصطلح ليس له تعريف جامع مانع، لأنه غامض في أذهان الكثير، ويرجع سبب ذلك إلى أنه ليس مصطلحًا لغويًا يسهل تفسيره بشرح المدلولات اللغوية المتصلة، بل هو مفهوم شمولي يذهب عميقًا في جميع الاتجاهات لتوصيف حركة التغيير المتواصلة، ويمكننا إجماله في أربعة مفاهيم: ظاهرة اقتصادية، وهيمنة القيم الأمريكية، وثورة تكنولوجية واجتماعية، وحقبة تاريخية.
العولمة وآثارها السلبية
ومن منظور تربوي إسلامي، فإن العولمة لها آثار سلبية على الثقافة والهوية، يمكن إجمالها في هذه النقاط:
1- غياب مفهوم التوحيد وتسلل الشرك والصنمية (عولمة الدين): فالتوحيد عصب التصور الإسلامي للكون والحياة والوجود، وعصب الوحدة الإسلامية بين الشعوب، ومن الطبيعي أن يستهدفه هذا الفكر الدخيل على الثقافة والهوية، فيصبح المسلم بلا دين أو يعدُّ الدين شكلًا دون مضمون، فهذا الخلل يقود إلى حالة من الشركيّات والصنميّات وعبادة غير الله، ويسلب المسلم روحه وقدراته الفاعلة في الوحدة الإسلامية، وتهدر كرامته وحريته وتفقده القدرة على الفعل.
فهذا الفكر يسعى إلى ضرب العقيدة الدينية- التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة القيم الأخلاقية والخلقية والاعتقادية- وتحويلها إلى عقيدة أرضية مادية، لتفقد الجانب الروحي من دعوتها الأخروية.
2- العدوان على الهوية الثقافية للأمة: حيث تعرضت إلى محاولات غزو وطمس، وتفتيت، وخاضت الأمة معارك عسكرية من أجل المحافظة عليها. ولعل أهم المحاولات الغزو الصليبي، والغزوات التتارية المتتالية، ثم الغزو الأوروبي، ثم الهجمة الصهيونية، وفي هذا العصر جاء هذا الفكر ليضع الأمة في حالة خوف من فقدان الهوية، فمخاطره على الهوية إنما هي مقدمة لمخاطر أعظم على الأمة الإسلامية، واستقلالها، وإرادتها، وذلك بكل الطرق.
3- التأثير في اللغة العربية: حيث أخذت اللغة الإنجليزية موقعها في العلم، والتكنولوجيا، فالعولمة تسعى إلى تهميش اللغات، وبخاصة اللغة العربية؛ لأنها من أهم أسباب الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، وترسيخ الوحدة الإسلامية. والقائمون على هذا المشروع يجعلون همهم ابتعادنا عن لغتنا الأم، ساعين قدر استطاعتهم أن يكون كلامنا أو نصفه من كلامهم ولغتهم لهثًا وراء طمس معالم هويتنا العربية والإسلامية، بل يريدون بعد ذلك أن ندخل كلامهم في كتاباتنا.
4- عَولمة الأسرة: لأنها بوجه عام هي الجماعة الصغيرة ذات الأدوار المركزية، التي يربطها رابط الدم، وتشترك في سكن واحد، وتتعاون اقتصاديًّا فيما بينها، وهي الحصن الباقي إذا انحرف المجتمع، فهي التي أبقت شعلة الإيمان في الصدر زمن الحكم الشيوعي للبلدان الإسلامية، وهي الشعلة الباقية لإحداث الوحدة الإسلامية من خلال غرس القيم الإسلامية المتعلقة بالأمة، لذا يسعى هذا الفكر جاهدًا إلى تفكيك الأسرة من خلال تحولات اجتماعية، وثقافية عاصفة، والتفكك المنشود هو فقدان الأسرة لقدرتها على الاستمرار كمرجعية قيمية، وأخلاقية للناشئة، وذلك بسبب نشوء مصادر جديدة لإنتاج القيم والأخلاق في المجتمعات.
5- التأثير في تطور الحضارات وتذويب بعضها: وهو ما يشكل خطرًا على الثقافة الإنسانية عمومًا، والعربية والإسلامية خصوصًا، فالحضارات الإنسانية لم تتطور إلا بفعل تنوع الثقافات، وعندما تريد مجموعة معينة من البشر أن تفرض ثقافتها على الأمم الأخرى، فإنها بذلك تريد أن تجعل من بقية الشعوب خدمًا وأشباه آدميين، وهذا ما يتناقض مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومع خصائص الإنسان كمفكر ومبدع. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22).
6- التأثير في العملية التربوية: إن محاولة محو الثقافات خروج على طبيعة الأشياء، وتمرد على سنن الفطرة، وخرق للقوانين المتعارف عليها عند البشر، بل تهديد للسلم والأمن العالميين، فالثقافة لها كرامة وقيمة يجب احترامها، والمحافظة عليها، فمن حق كل شعب أن ينمي ثقافتة، ويحافظ عليها؛ لأنها عنوان حضارته، والمس بها مس بالحضارة بشكل مباشر، فإذا تم الاختراق الثقافي سهلت التبعية السياسة والاقتصادية والتربوية.
7 – السيطرة على الأسواق المحلية: وذلك من خلال قوى فوقية تمارس سطوتها وتأثيرها ذات النفوذ القوي على الكيانات المحلية الضعيفة وتحولها إلى مؤسسات تابعة لها.
سبل مواجهة العولمة
العولمة الثقافية ذات تأثير بالغ في الثقافات والحضارات المختلفة، وحتى نحد من تأثيراتها يجب علينا القيام بخطوات، أو الانطلاق من مرتكزات عديدة، منها:
- المرتكز الأول: تلمس براعم القوة والمنعة في أمتنا، وعلينا أن ننطلق منها للتعامل مع الآخر، وينبغي كسر حدة الانبهار بالغرب، ومقاومة جذبه ورده إلى حدوده الطبيعية، فنحن نملك ما يمتلك الآخرون وأكثر، وعندنا القدرة على الإبداع.
- المرتكز الثاني: وضع استراتيجية ثقافية إسلامية للأمة، تتحرك باتجاهين، الأول باتجاه وحدة المسلمين ثقافيًا، والثاني باتجاه التعامل مع الآخر؛ فالوحدة مصدر خصب للحضارة، وعامل إغناء، والوحدة الثقافية تعطي المسلمين مكانًا مرموقًا، ومميزًا في العالم، وتؤهلهم للتعامل مع الآخر، تعاملًا لا يلغي الهوية، ولا يذيب الشخصية. قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة، 48).
- المرتكز الثالث: إبراز عالمية الإسلام وإنسانيته، فالعالمية صفة تميزت بها رسالة الإسلام، وتعني الانفتاح على العالم، والثقافات الأخرى مع الاحتفاظ بالخصوصية، والعالمية الإسلامية تسعى إلى نشر الفكر والثقافة الإسلامية من خلال الإيمان بأحقية هذه الحضارة، وإبراز إيجابيتها، ليس بفرضها على الآخرين وتمزيق حضارتهم، وإلغاء هويتهم.
- المرتكز الرابع: الاهتمام بمؤسسة الأسرة، التي يولد فيها الفرد نقيا كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ” (البخاري)، وفيها يُلقّن الفرد القيم واللغة والعقيدة، وفيها تُحفر الخطوط العميقة في شخصية الطفل؛ لذا من أهم أدوارها أن تجذر القيم الإسلامية في النفوس، وبث الوعي في النفوس، وأن يكون أسلوب التربية فيها هو التربية الشورية، وأن تقوم بتعديل سلوك الأفراد وفق منهج الله سبحانه وتعالى.
- المرتكز الخامس: الحد من التلوث الثقافي والإعلامي الموجه للأمة الإسلامية، فهذا الفكر فيه كثير من السلوكات، والقيم والمبادئ التي تُسهم في تكوين جيل مُشوّه الأفكار، والاتجاهات، والقيم.
- المرتكز السادس: الوعي بالمستقبل، بفهم المتغيرات المحتملة في الفترات الزمنية المقبلة، وتوجيه السلوك نحو التعامل مع هذه المتغيرات سواء بجانبها الإيجابي، أو السلبي. فالوعي بالمستقبل يمكننا من القدرة على التخطيط السليم، والإعداد للمستقبل، ومن أهم معالم التخطيط للمستقبل ومواجهة تحدياته دخول علوم المستقبل مثل علوم الاقتصاد والمال والسياسة، ولا بد لدارس مثل هذه العلوم أن ينطلق من خلفية فكرية متينة.
- المرتكز السابع: تحديد الخصوصيات الثقافية للأمة الإسلامية، وهذا من الخطوات الرئيسة في التعامل مع هذا الفكر، فلا بد من تحديد خصوصياتنا الثقافية، والمتمثلة بمكونات الهوية العربية الإسلامية، والخصوصية الدينية أي الإسلام كمنبع للثقافة، والحضارة الإسلامية، وأنه دين عالمي يصلح لكل مكان وزمان والرسول- صلى الله عليه وسلم- عالمي أُرسل إلى العالم أجمع، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107).
- المرتكز الثامن: الاهتمام بالتعليم من أجل غرس روح الانتماء للأمة، ويتجسد ذلك من خلال المراحل الأولى للتعليم بالتأكيد على تدريس اللغة العربية، والتراث الإسلامي إلى جانب العلوم الحديثة، والتكنولوجيا، وأن يسود التوازن في التدريس دون أن يطغى جانب على آخر، فلا يسود تدريس العلوم الحديثة والتكنولوجيا على تدريس اللغة وعلوم الشريعة. كذلك يجب غرس الانتماء العربي والإسلامي في نفوس أبنائنا الطلاب وتنميته، وأن يبين لهم أن هناك فرقًا بين تعلم علوم أمة من الأمم، واعتناق حضارتها والانتماء إليها كما فعلت كثير من دول العالم.
إن مخاطر العولمة على الهوية الإسلامية كثيرة، وتأثيرها السلبي يزداد باستمرار، بعدما أخذت تدس أنفها في كل دولة ومدينة وتبسط نفوذها في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والإعلام والحرب والثقافة والرياضة، وهي تتسرب بكلمتها تلك تحت شعار “العالم الذي أصبح قرية واحدة” عن طريق الخبر والجندي والكومبيوتر والقروض والمؤتمرات ومراكز البحوث.
لذا على الأمة الإسلامية الانتباه، وحسم الصراع مع هذا الفكر الذي يسعى جاهدًا إلى إبادة الحضارات الأخرى، والشرائع السماوية وعلى رأسها الإسلام؛ ليتمدد هو في سلاسة دون منافس.
المصادر والمراجع:
- الدكتور عماد عبد الله الشريفين: دراسة بعنوان: “العولمة الثقافية من منظور تربوي إسلامي“.
- السيد ياسين: العالمية والعولمة، ص 39.
- عبد المنصف حسين رشوان: العولمة وآثارها، ص 50.
- حيدر حميد الدهوي: العولمة والقيم، ص 53-54.
- بلقاسم محمد الغالي: العولمة.. تداعياتها والبديل الإسلامي، ص 109.