تُعدّ ظاهرة العودة للذنب بعد التوبة ظاهرة إنسانية شائعةٌ، تُقلقُ الكثيرين وتُشعرهم باليأسِ، لكن الإنسان ما دام يتنفس ويعيش في الحياة لا ييأس من رحمة الله- سبحانه وتعالى- فهو الغفور الرحيم، الذي يعين الإنسان على الطاعة ويقوي إرادته للابتعاد عن المعاصي والذنوب.
وتكرار الذنب يعود إلى أسباب عديدة، أبرزها ضعف الإيمان بالله وبرحمته ومغفرته، وقوة الشهوةِ التي تعيق النفس عنِ مقاومةِ الإغراءاتِ، وسوءُ الظنِّ باللهِ، وكل ذلك له خطورة كبيرة، أخطرها الابتعاد عن رحمة الله، وقسوة القلب، ثم سوءِ الخاتمةِ والعياذُ باللهِ، لذا على الإنسان تكرار التوبة مع العودة للمعصية، ودعاء الله بإلحاح، والصحبة الطيبة، ومجاهدة النفس، وفعل الخيرات، لينقذ نفسه من المهالك.
حكم العودة للذنب
والإنسان محل الخطأ، ومحل التقصير، ومحل الجهل والضعف والنسيان، فإن العودة للذنب بعد التوبة ليس استهزاء بالمولى سبحانه وتعالى، بل على الإنسان أن يتوب إلى الله توبة أخرى، وأن يبادر بالتوبة، فالله جواد كريم، يتوب عليه إذا صدق في التوبة، كما تاب عليه في الذنب الأول، وهو القائل سبحانه: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82].
وفي حالة العودة للذنب يبادر الإنسان بالتوبة الصادقة ويكثر من الاستغفار، ويعزم على عدم الرجوع، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:135-136].
ومَن يفعل المعاصي عليه أن يُكثر من التوبة مهما كرّر المعصية حتى يُوّفقه الله- سبحانه وتعالى- للامتناع عن المعصية لقوله- جل وعلا-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
والله- عز وجل- وعد عباده التائبين بأن يغفر لهم الذنوب ما داموا قد شعروا بعظمة الذنب وتوجهوا إلى ربهم بالتوبة رغبةً بنيل مغفرته والنجاة من عقوبته، فهو الذي قال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عَنِ النبيِّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ-، فِيما يَحْكِي عن رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قالَ: “أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قالَ عبدُ الأعْلَى: لا أَدْرِي أَقالَ في الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: اعْمَلْ ما شِئْتَ” (مسلم).
ومتى وقعت التوبة مستكملة شروطها من الندم على ما فات، والإقلاع عن الذنب في الحال، والعزم على عدم العود إلى الذنب فإنها تمحو الذنب قبلها، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له” (رواه ابن ماجه).
واقترافُ المعاصي عند أهلِ السُّنَّةِ لا يُخرجُ من دينِ اللهِ، ولا توقِعُ صاحِبَها في الرِّدَّةِ إن لم يَقتَرِنْ بها سَبَبٌ من أسبابِ الكُفرِ كاستحلالِ المعصيةِ أو الاستهزاءِ بحُكْمِها. قال الطَّحاوي: “لا نُكَفِّرُ أحدًا من أهلِ القِبلةِ بذَنبٍ ما لم يَستحِلَّه”، ثم عَقَّب على ذلك بقَولِه: “ولا نقولُ: لا يَضُرُّ مع الإيمانِ ذَنبٌ لِمن عَمِلَه”.
أسباب العودة للذنب
وتتعدد أسباب العودة للذنب بعد التوبة، ومن ذلك ما يلي:
- ضعف الإيمان واليقين بالله وعدم الخوف منه سبحانه: فضعف الإيمان وعدم الخوف من الله تعالى وعدم خشيته ومراقبته تجعل الإنسان يستخف بوعد الله ووعيده، فأما وعد الله في الدنيا فبالنصر والسعادة والسيادة، وأما في الآخرة فجنته التي عرضها السموات والأرض، لذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أخوف الناس وأشدهم خشية لله تعالى، قال- صلى الله عليه وسلم-: “والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له”، (مسلم). وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال لي: ضع رأسي. قال: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وَوَيل أمي إن لم يرحمني ربي).
- حب الدنيا والركون إلى الشهوات: قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آل عمران 14]. فعدّد الله- سبحانه وتعالى- في هذه الآية جملة من الشهوات التي يرغبها ويحبها البشر ويطمأنون إليها، ثم بيَّن سبحانه أن ذلك كله متاع زائل عاجل، وعند الله أفضل المرجع والمنقلب والثواب، فالواجب على الإنسان أن يكون على حذر من الدنيا، وأن يتذكر ما ذهب من عُمرِه، وحذَّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من الافتتان بالدنيا والركون إلى شهواتها فقال: “فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككلم كما أهلكتهم” (البخاري ومسلم).
- الجهل بالله تعالى: لقد ذمَّ الله تعالى الجهل وأهله وبين قبح أثره ووخيم عاقبته، فقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة 50]. وتتحدث السنة المطهرة عن الجهل، فيقول- صلى الله عليه وسلم-: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئلوا فأفتَوا بغير عِلم فضلّوا وأضلوا” (البخاري).
- الغفلة وعدم الاعتبار: حيث غرَّت الأماني أكثر خلق الله فتركوا سبيل الهدى وأعرضوا عن دار التهاني والقرار، فوقعوا في شرَكِ الردى، وظنوا أن يتركوا سدى، وغفلوا عن قوله تعالى: ﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ [القلم 45].
ماذا يفعل المسلم لعدم تكرار المعصية؟
وحتى يأمن الإنسان المسلم من العودة للذنب بعد التوبة إلى الله- جل وعلا- عليه الالتزام بالتالي:
- العلم بقبح المعصية: وأن الله إنما حَرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالدُ الشفيق ولدَه عما يضرُّه، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها، ولو لَم يعلق عليها وعيد بالعذاب.
- ثبات الإيمان في القلب: فصبرُ العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانُه أقوى كان صبره أتمَّ، وإذا ضعُف الإيمان ضعف الصبر؛ فإن من باشر قلبَه الإيمانُ بقيام الله عليه، ورؤيته له، وتحريمه لما حرَّم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله، وباشر قلبَه الإيمانُ بالثواب والعقاب، والجنة والنار – امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم.
- الحياء من الله: فإنَّ العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وكان- حييًّا – استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
- خوف الله وخشية عقابه: وهذا إنما يثبت بتصْديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه وبرسوله، وهذا السبب يقْوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما؛ قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر: 28]،
- محبة الله: وهي من أقوى الأسباب في الصَّبْر عَنْ مُخالفَتِه ومَعاصِيه، فإنَّ المُحبَّ لِمن يحب مطيع، وكلَّما قوِي سلطان المحبَّة في القلب، كان اقتضاؤُه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالَفة مِنْ ضَعْف المحبة وسلطانها، وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبُّه لسيده.
- شرف النفس: وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطّها، وتضع من قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
- مراعاة نعَمه علينا وإحسانه إلينا: فإنَّ الذُّنوب تزيل النِّعَم، ولا بُدَّ، فما أذْنَبَ عبْدٌ ذنبًا إلا زالتْ عنه نعمة مِنَ الله بحسب ذلك الذنب، فإنْ تاب ورجع، رجعتْ إليه أو مثلها، وإنْ أصَرَّ لَم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة، حتى تسلبَ النِّعَم كلّها؛ قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
- قوة العلم بسوء عاقبة المعصية: وقبْحِ أثرها، والضرر الناشئ منها؛ من سواد الوجه، وظلمةِ القلب، وضيقه وغمِّه، وحزنه وألمه، وانحصاره وشدة قلقه، واضطرابه وتمزُّق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوِّه، وتعرِّيه من زينته، والحيرة في أمره، وتخلي وليِّه وناصره عنه، وتولِّي عدوِّه المبين له.
- قصر الأمل: وعلمُه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قريةً وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكبٍ قال في ظل شجرة ثم سار وتركها.
- مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه، وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس: فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب لها مصرفًا، فيضيق عليها المباح، فتتعدَّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالتُه وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة؛ بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلتْه بما يضره ولا بد.
فعلى المسلم أن يجتهد حتى لا يكرر الذنوب والمعاصي، ولو ضعفت نفسه ثم عاد للذنب مرة أخرى، فعليه- أيضا- أن يُبادر بالتوبة من جديد، لكن عليه أن يتحلى بالعزيمة حتى يخرج من دائرة التلاعب “ذنب ثم توبة”، ولا ينسَ أن الله يعفو عمّا فات فيتوب ويرجع إلى ربه، والمهم أن تكون نيته صادقة.
مصادر ومراجع:
- إسلام أون لاين: العودة للذنب بعد التوبة.
- خالد عبد المنعم الرفاعي: العود للذنب بعد التوبة، والأسباب المانعة من الوقوع في المعصية.
- الإسلام سؤال وجواب: هل يقبل الله توبة العبد كلما أذنب وتاب حتى لو عاد مرات كثيرة؟
- د. يوسف القرضاوي: التطهر من الذنوب.
- الدرر السنية: الإصرارُ على المعصيةِ.
- الطحاوي: متن الطحاوية، ص 60.
- البغوي: شرح السنة 14/373.