العناد وتصلُّب الرّأي وعدم المرونة في الحوار، صفاتٌ تُؤثّر سلبًا على الحياة الزوجية، فتخنق المشاعر الطيّبة، وتُلقي بظلالٍ قاتمة على بهجة الأسرة، ما يُنذر بخطرٍ وشيكٍ قد يهدم البنيان المرصوص، ويُفتّت الروابط المتينة بين الزوجين، ويهدد مصير الأبناء، لكن مراعاة كل طرف لطباع الآخر ومحاولة التكيّف والتفاعل مع ما يصعب تغييره بذكاء ووعي، سياجٌ وحمايةٌ من هذا الخطر.
وغالبًا، ما يكون العِناد تُهمة متبادلة بين الزوجين، فالرجال يشكون من عناد الزوجة، وهو سلاحها الذي تدافع به عن نفسها أمام تعنت بعض الرجال، فتجدها تلجأ إلى الرفض لما تراه لا يتوافق مع أسلوبها ومشاعرها، فيترجمه الزوج على أنه عناد وتبدأ المشاكل، وعلى الصعيد الآخر، ترى سيدات أن التصلب في الرأي صفة ذكورية سائدة، وأن كثيرًا من الرجال يرفضون طلبات نسائهم، لإثبات الرجولة وفرض السيطرة والسيادة.
خطر العناد على الأسرة
وفي الآونة الأخيرة، انطلقت بشدة أجراس الإنذار، لكثرة ما يعتري الأُسَر من خللٍ ومشكلات تُوشك أن تُدمر المجتمع، فالزوجة أصبحت تعيش حياة الند للند للزوج، وأنها متساوية معه في كل شيء، سيّما إن كانت تعمل، وتشعر بالاستقلال المادي.
وعنادُ الزوجة مؤشرٌ خطيرٌ على عدم التوافق والتكيّف مع الزوج، لمواجهة المشكلات التي تعترض حياتهما، وتشير الأبحاث الاجتماعية إلى أن العِنادَ بين الزوجين أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم الأزمات بينهما، وأنه يلقي بظلال نفسية وتربوية وانفعالية تمتد إلى الأولاد.
تقول الدكتورة زينب عبد الجليل – الأستاذ المشارك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة -: “يُشير علماء النفس إلى أن العناد صفة موجودة في الرجل والمرأة، لكنه أكثر وضوحًا عند المرأة، فهو سلاحها الوحيد الذي تدافع به عن نفسها أمام ما تعتبره قوة للرجل واستبدادًا لا قبل لها بمواجهته، فتلجأ إلى الرفض السلبي لما تراه لا يتوافق مع أسلوبها ومشاعرها فيترجمه الزوج على أنه عناد وتبدأ المشكلات”.
المودة تحمي الأسرة من عواقب العناد
إنّ الصفات الحميدة، ومنها المودة والرحمة والرأفة، تُحصن الأسرة من عواقب العناد، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
ويقول الحافظ ابن كثير: “المودة هي: المحبة، والرحمة هي: الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد” (1).
وأرسى الله – سبحانه وتعالى – قواعد بيت الزوجية على هذه الصفات الكريمة، التي ترجمها الحسن بن علي – رضي الله عنهما – حينما سأله رجل: “إن عندي ابنة لي وقد خطبت إلي فمن أزوجها؟ قال: “زوّجها من يخاف الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها” (2).
وهي الأركان التي ثبّت قواعدها رسول الله- صلى الله عليه وسلم – بقوله: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير” (رواه الترمذي).
كما وضع الإسلام كثيرًا من الأسس التي تدعم قواعد وتماسك الحياة بين الزوجين، سواء بالكلمة اللطيفة، أو الفعل الجميل، أو حفظ الأسرار والتعاون فيما بينهما، وكذلك ومدح الزوج زوجته أو الزوجة زوجها، وعدم الظلم، والاحترام المتبادل، ومراقبة الله لكل منهما في الآخر.
يقول عمار كاظم: الزوجة هي السكن، والزوج يسكن لدى الزوجة. الزوج هو ساكن وليس صاحب السكن حتى وإن كان يمتلكه، السكن شيء أبعد وأعمق من هذا. فالسكن هو سكينة النفس وطمأنينتها واستقرارها؛ السكن هو الحماية والأمن والسلام والراحة والظل والارتواء والشبع والسرور، السكن قيمة معنوية وليس قيمة مادية. ولأنّ السكن قيمة معنوية فإنّ الزوج يجب أن يدفع فيه أشياء معنوية، وهو أن يتبادل المودة والرحمة مع الزوجة. فهذا السكن يُقام على المودة والرحمة؛ فالمودة والرحمة هما الأساس والهيكل والمحتوى، وبغياب المودة والرحمة ينهار السكن (3).
مظاهر عِناد الزوجين
وللعناد بين الزّوجين مظاهر كثيرة، تصدر عن الطرفين، ومنها:
1. تجاهل وجهة نظر الآخر، وعدم الرغبة في الاستماع إليه؛ لأنه لا يحب أن يرضخ لأوامر أحد أو آرائه.
2. رفض الحقائق الثابتة لإظهار الذات.
3. التسرع في الانفعالات، والتمركز حول الذات، وإطلاق الشك والوساوس.
4. القسوة في التعامل، ورفع الصوت في الحوار.
5. محاولة النيل من الآخر، إذا لم يستجب لوجهة النظر.
6. مشكلة في طريقة التفكير، وفقدان التعاون والتواصل مع الآخرين.
أسباب العِنَاد بين الزوجين
إذا بحثنا عن أسباب العناد بين الزوجين سنجدها كثيرة، فربما تلجأ إليه المرأةُ في محاولة لإظهار قوة شخصيتها، أمّا الزّوج فيتصدى لهذه المحاولة بفرض سطوته، وهناك أسباب أخرى، منها:
1. الفوارق الاجتماعية بين الزوجين، وعدم التوافق بينهما ماديًّا وفكريًّا أو حتى فارق السن.
2. عدم وعي المرأة بمكانة زوجها، وأهمية احترامه وطاعته، وجهلها بحقوق الزوج وواجباتها نحوه، وهو ما ينطبق أيضا على الزوج الذي لا يعرف سوى أنه يجب أن يُسمع ويطاع له.
3. ظلم الزوج للزوجة وتقصيره في إدارة شؤون منزله أو في رعاية الأبناء، وعدم مراعاته لحدود الله في التعامل مع زوجته.
4. سوء خلق الزوجين، وعدم النضج، وانعدام القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
5. التمركز حول الذات والأنانية الشديدة، والإصرار على الرأي.
6. فقدان أصول التعايش مع الآخرين، حيث يتعلم الأخطاء من الوالدين.
7. كثرة الأصوات حول المرأة التي تدعو إلى الاستقلال والتحرر عن الزوج، وتأثر الزوجة بها، دون التمييز بين تعاليم الدين وعادات وتقاليد المجتمع الشرقي، ونظير ذلك في المجتمع الغربي.
كيف نتلاشى العناد؟
تضرب المشاكل الأسرية جنبات المجتمع الإسلامي بقوة لما آل إليه الحال من تغيب العلماء والمربّين وكتم أصواتهم، وإفساح المجال لدعاة الانحلال والتغريب وتحرير المرأة، ما جعل المجتمعات كلها على شفا جرف هار يُوشك أن ينهار وتنهار البنية التحتية المجتمعية للأسر.
ولا بُد من وقفة لعلماء الأمة لوضع حلول مؤسسية ومجتمعية وفردية، لعلاج هذه الثقوب التي برزت في جدران الأُسَر، فهناك وسائل عديدة لتفادي العناد بين الطرفين، منها:
1. التمسك بآداب الحوار البناء مع الزوج – ومع غيره – وعدم التشبث المريض بالرأي والاستماع إلى حجة الطرف الآخر وتقديرها.
2. معرفة أسباب العناد وتصلب الرأي، وما يُغضب كل طرفٍ، لمراعاة مشاعره، وفي حالة الخطأ يعترف ويعتذر.
3. استحضار نية حسن التبعّل عند وقوع الخلاف مع الزوج.
4. احترام الرأي الآخر ونسيان المواقف السلبية السابقة والتعامل بروح التسامح، والعفو بين الزوجين حتى تسير الحياة في أمان واستقرار.
5. من المهم إبعاد الأطفال عن دائرة الخلاف الناجم عن العناد وعدم الاستعانة بهم للانتصار وإثبات صحة الرأي.
6. منح الزوجة مزيدًا من الحب والاهتمام والتقدير والاحترام.
7. تجنب الأسباب المؤدية للعناد، وإذا كان طبعا في أحد الطرفين فلا بُد من الصبر والعمل قدر المستطاع على تجنب مواطن النزاع.
8. هناك جانب إيجابي في عناد الزوجة، حيث تدفع الزوج للعمل والنشاط والتفوق والبحث عن مجالات جديدة لزيادة الدخل، ونقصد بالعناد هنا إصرارها على دفعه نحو الأفضل.
9. يجب مراعاة عدّة أمور عند الرغبة بالتحدث إلى أحد الطرفين، مثل: اختيار الوقت المناسب، والتّعامل بلباقة واحترام.
توجيهات نبوية في اللين بين الزوجين
ولنا في سيرة الحبيب – صلى الله عليه وسلم – مع زوجاته أرقى معاني الحب، فقد كان يُسامر زوجاته ويؤنسهن ويدخل السرور في قلوبهن وكان يداعبهن ويلاعبهن حتى كان يرسل الهدايا لصديقات السيدة خديجة – رضي الله عنها – ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي”.
كما كان – صلى الله عليه وسلم- يُنادي عائشة يا عائش، ويا حميراء، بتآلفها ويدخل الأنس في قلبها، وربما وضع خده على خدها ويده بيدها، وكان يضع رأسها على منكبيه، وورد عنه أنه وضع رأسه بجوار ميمونة، وربما كان ينام في حجر زوجاته، وقد أردف صفية خلف ظهره، وهذه كلها لمسات حانية في حياته – صلى الله عليه وسلم.
وكان يجلس بجوار نسائه وربما وضع فمه على موضع شرابهن، وهن يبادلنه ذلك، وكان يتزيّن لهن عند اللقاء، قال أنس – رضي الله عنه – كان للرسول صلى الله عليه وسلم ملحفة مصبوغة بالورس والزعفران ويدور بها على نسائه، فإذا كانت ليلة هذه رشتها بالماء (4)، والغاية أن تنبعث منها رائحة طيبة فيطيب بها المجلس بين الزوجين.
بل كان النبي – صلى الله عليه وسلم يدهن رأسه، ولم يُرَ منه شيء قبيح في حياته، وكان يُسرح لحيته، ويتطيب ويغتسل مع زوجاته، وكان لا يُفاجئ زوجاته، ويراعي مشاعرهن حتى عند النوم يخفض صوته أو حركته.
أخيرا
إن نجاح الحياة الزوجية يتطلب قدرًا من التفاهم والاحترام ومزيدًا من الحب، وتقديم بعض التنازلات، والتجاوز عن الهفوات، والتغاضي عن الزّلات والتعالي على العناد والأنانية وتصيد الأخطاء.
المصادر
- ابن أبي الدنيا: كتابَ العيال (1/273).
- عمار كاظم: المودة والرحمة.. أساس البناء الأسري https://2u.pw/7sg7N
- السيوطي: الجامع الكبير، ص 6843.
- الحافظ بن كثير: تفسير ابن كثير (6/309).