سمعت أحد الشيوخ يتكلم عن صلاح الأبناء، وقد نصح الآباء بالتعبد لله بنية صلاح الأبناء، وذكر أن التعبد يمكن أن يكون بصدقة، أو إغاثة ملهوف، أو الاستغفار، أو ركعتين في جوف الليل بنية ذلك، فهل صحيح أننا يمكن أن نتعبد لله بنية صلاح الأبناء أو سترهم من المصائب والبلايا والفتن؟
لا شك أن للصلاح ثمار، قد يجني المؤمن بعضها في الدنيا، وقد تؤخر له في الآخرة. ومن ثمار الصلاح التي أخبر بها رب العزة في كتابه العزيز، ما ورد في سورة الكهف من حفظ الأبناء بسبب صلاح الآباء حين قال الله تعالى في قصة الخضر مع نبي الله موسى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}، فحفظ الله هذا الكنز الذي كان للغلامين تحت الجدار، لكن السؤال الآن، هل كانت نية الأبوين المذكورين في سورة الكهف في الصلاح حفظ أبنائهم من بعدهم؟ هذا ما لا يستطيع أحد القول به، أي أن الله أطلعنا على نتيجة هذا الصلاح بعد وفاة الأبوين، لكن هذا لا يعني أن الأبوين توجها في صلاحهما بنية حفظ الأبناء.
معلوم أيضًا أنه ليس من الضروري أن يحفظ الله الأبناء بصلاح آبائهم، فنموذج نبي الله نوح مع ابنه خير دليل، وما ورد في سورة الكهف ذاتها عن الغلام الذي قُتل خشية على دين أبويه منه، لما قال الله تعالى على لسان الخضر: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، هنا قتل الابن- بأمر الله- حفاظًا على دين الأبوين وليس العكس.
نعم هناك بعض الطاعات التي لها ثمار دنيوية وعد بها رب العزة، كما قال- صلى الله عليه وسلم- عن صلة الرحم ترغيبًا: (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)، وهنا هي ثمار ذكرت على سبيل الترغيب، لا لأن يتوجه المرء ابتداءً في صلة الرحم لتحصيل المنفعة الدنيوية، وإنما لابد أن يتوجه ابتداءً بنية الطاعة وتلبية داعي الله والتقرب إليه وإرضائه، ثم لعل الله حين يجد هذا الإخلاص في العمل يثيب عليه بالتبعية ثوابًا دنيويًا، فيجد المرء ثمرته. وقد يأتي عبد آخر ذات العمل الصالح مخلصًا لله لكن دون أن يجد له ثمرة دنيوية واضحة، وقد يكون هذا تربية له وتمحيصًا واختبارًا لإخلاصه وثباته.
ومع وجود بعض الثمار الدنيوية التابعة لبعض الأعمال الصالحة يجب أن يتنبه المرء جيدًا لئلا يقع فيمن قال الله عنهم في سورة هود: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}، لذا لابد من التنبه أن تكون أعمالنا خالصة لله حتى وإن تحصل المرء منها على منفعة كصلاح الأبناء أو زيادة الرزق أو الصحة أو لم يتحصل، ومعيار اختبار هذا الثبات على فعلها مهما تبين من عدم وجود ثمرة آنية لها.
وما نخشاه أن يكون أحيانًا لجوء بعض الآباء لفكرة التصدق أو الإتيان بالأعمال الصالحة بنية صلاح الأبناء هو من قبيل العجز الذي يشعر به بعض الآباء تجاه أولادهم، فيدفعهم ذلك- بدلًا من الأخذ بالأسباب اللازمة- إلى الاكتفاء بالقيام بالأعمال الصالحة ظنًا منه أنه كذلك يقوم بما عليه، فالذي يتعبد بهذه النية دون أن يأخذ بأسباب التربية الأخرى مخطئ لا شك، فعليه أن يصاحب ويوجه ويربي ويبين ويأخذ بالأسباب الأخرى فهذا أدعى وأوجب.
وهو يفعل هذا عليه أن يعي وأن يضع نصب عينيه قول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، وأن يدرك أن القلق الزائد عن الحد تجاه الأبناء ضار بكلا الطرفين، الوالد والولد، فإنه ليس على الآباء سلطان على الأبناء ولا على هدايتهم ولا على قلوبهم، وهم كذلك لا يعرفون مصيرهم، ولا يملكون جلّ أمرهم، بل الله. ومن هنا فعليهم السعي ما استطاعوا لذلك سبيلًا، مع الاطمئنان أن الأمر كله بيد الله؛ فليهون الآباء على أنفسهم فقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ …}.
ولأننا نتحدث عن فلذات الأكباد، والخوف والقلق والشعور بالهم تجاههم أمر لا مناص منه فإن للآباء متسع وبراح في اللجوء إلى الدعاء: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، فليخصصوا من أوقات الليل في السحر دعوات لا ترد، وليصبوا كل همهم في المناجاة وإظهار الضعف والحاجة لله لإصلاح أحوال أبنائهم، لكن أن يخصصوا ركعات بسور معينة من القرآن مثلًا بهدف صلاح الأبناء هذا فيه ابتداع لم يرد عن رسول الله.
ومما لا شك فيه أن صلاح الآباء وإتيانهم الطاعات له منافع من زاوية أخرى مع الأبناء- دون أن يتوجهوا بالنية لذلك بصورة مباشرة- من قبيل تنشئة الأبناء على رؤية قدوات صالحة وتوفير بيئة تشجعهم على الالتزام بأمور دينهم وتعليمهم أمور دينهم بشكل عملي.