إنّ العملية التعليمية في معظم بلاد الإسلام قد خرجت عن مقاصد الشريعة الغرّاء، وإذا نظرنا إلى مناهج التعليم في بلادنا نجدها تُهيّء الأمة للذوبان والتلاشي، وتجعل الأجيال مُنفصلة عن بعضها البعض، ومُغرقة في القُطرية والهامشية.
ولقد حاول كثيرٌ من العلماء المسلمين الغيورين على دينهم تسليط الضوء على هذه المُعضلة، ومحاولة وضع حلول لها، سيّما أنّ المقاصد أرواح الأعمال، فكما أنه لا جسد بلا روح، فلا عمل بلا مقصد، والتعليم أحد هذه الأعمال، فلا بُد من ضبطه في بلادنا ضبطًا شرعيًّا من حيث المنهج والأداء، والأهداف والغايات؛ حتى لا تتفرق بنا المقاصد، ونجد أنفسنا نسير وفق مقاصد الآخرين.
مفهوم العملية التعليمية وأهميتها وعناصرها
وتُعرف العملية التعليمية بأنها مجموعة أنشطة وإجراءات تهدف إلى تلبية الاحتياجات التعليمية ضمن الشروط والأهداف التي يُحددها التعليم في الدولة، وهي ترتكز على مبادئ أساسية، وتهدف إلى إكساب المتعلم العديد من المهارات تجعله أكثر قوة واتزانًا.
وتسعى هذه العملية إلى بناء جيل متعلم يعرف الفرق بين الصواب والخطأ والحلال والحرام، لذا لا بد من أن تكون وفق ضوابط متزنة وشروط تتوافق مع مقاصد الشريعة الإسلامية، حتى نجدها تنمي التفكير الإيجابي النقدي للمتعلم، وتكون شخصيته على نحو يستطيع به أن يقود مجتمعه في المستقبل.
وهذه العملية الخاضعة لضوابط الشّرع، تُعلّم المُتربي كيفية معرفة حقوقه وواجباته نحو أسرته ومجتمعه ووطنه، وتقود المجتمع إلى النهوض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فتتلاشى المشكلات المزمنة، ويحل الرخاء والأمن.
وتتضمن هذه العملية مجموعة عناصر، أهمها:
- المُعلّم: وهو العنصر الأساسي، والأكثر أهمية من بين عناصر تلك العملية، وبالتالي فلا بد من الاهتمام به من حيث التكوين الثقافي وفق ضوابط الشريعة الإسلامية.
- المنهاج: ويجب أن ينطلق من تعاليم الإسلام لا من ثقافة وحضارة الغرب التي هضمت شخصية المسلم وميّعتها.
- المكان: لا بُد من توفير مكان آمن لعملية التعلم يناسب جميع الطلاب والمتربين.
- الطلاب: يجب معرفة قدرات الطلاب ومهاراتهم وغرس القيم الإسلامية فيهم، وتعزيز الهوية الإسلامية لديهم منذ الصغر.
- التمويل: وهو عنصر لا غنى عنه لحفظ هذا المقصد المهم؛ لأن التقصير فيه ينحرف بعملية التعليم عن الكفاءة المطلوبة وتحقيق الأهداف المنشودة، وهي تخريج أجيال تحمل راية الأمة لمستقبل أفضل.
العملية التعليمية في الإسلام
ولقد حظيت العملية التعليمية بأهمية قصوى في الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الوحي على النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق: 1-5]، وقال- عز وجل-: (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[التوبة:122].
وقال الله- سبحانه تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران: 187]، وفيه إيجاب للتعليم، كما حرّم- جل شأنه- كتمان التعليم، فقال سبحانه: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة:146].
وحثّ الإسلام على تعلم العلم النافع بصفة عامة -الديني والدنيوي- وأعلى من قدر أهله، فقال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) {المجادلة: 11} وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) {الزمر: 9}.
وجاء قول الله تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر: 28]. تعقيبًا على قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {فاطر:28}، وهو ما يدل على أهمية معرفة علوم الكون والحياة.
وأمر النبي- صلّى الله عليه وسلم- أصحابه بالتعلم، وحضّهم على طلب العلم ورغبهم فيه، فقد روي عن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَانَ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ” (البخاري).
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ” (صحيح أبي داود).
فنجد هنا، أن قول المصطفى- صلى الله عليه وسلم-: “العلماء ورثة الأنبياء” يدل على شرف العلم والتعلم، ومكانة العالم، حيث إنه لا درجة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف وراثة تلك الدرجة. أما قوله: “وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض”، فأي منصب وأي مكانة تزيد على مكانة ومنصب من تشتغل الخلائق ممن يعلمهم الله في السموات والأرض بالاستغفار له.
المناهج الإسلامية في مرمى نيران الغرب
ورغم العلم الدنيوي الذي تتطور كثيرًا في دول الغرب، فإن العملية التعليمية في بلاد المسلمين قد تأثرت سلبًا من الثقافة الأجنبية التي استوردها بعض الحكام على حساب تعاليم الإسلام ومنهجه القويم، ففي مناهج الغرب تطرف وإساءة للعرب والمسلمين، ولم نسمع مَن يطالب بتغييرها، وأما مناهج المسلمين فقد دأب الأعداء على محاصرتها، بل إن المخططات لإفسادها قديمة، وكانت تُعدُّ على نار هادئة.
وسعت أجندة الغرب إلى تصدير مناهج تعليمية هدفها صناعة عقل لا يشعر بالهوية ولا يعترف بالقيم، وإنما يؤمن فقط بالمصلحة البراجماتية والنفعية، وقد تسرب هذا الفكر إلى مناهج التعليم عامة، وإلى مناهج العلوم الشرعية خاصة، للتأثير على الأجيال القادمة للأمة الإسلامية، والسيطرة على المستقبل في العالم الإسلامي.
ويرى بعض السّاسة في الغرب أن في انتشار المراكز والمدارس الإسلامية خطرًا كامنًا يهدّد المجتمعات الغربية، ويمثّل فيروسًا داخليًّا ينخر في بنيان المجتمع الغربي الذي يقوم على ثوابت وأسس لا تتوافق مع رؤية الإسلام ومنهجه ومبادئه، لذا ظهرت تقارير تشجع الحكومات الغربية على الضغط على تلك المراكز والمدارس لتحجيم أدوارها، بل ووصفها في بعض الأحيان بـ”مفرخة الإرهاب” لنشر هذا الافتراء وخلق رأي جمعي.
بل استهدف الغرب مناهج المسلمين من الناحية المادية البحتة، إذ نشر العديد من المؤسسات التعليمية التابعة له في كثير من الدول الإسلامية والعربية، بحجة رفع الكفاءة التعليمية للطلاب الملتحقين بها في المراحل التعليمية المختلفة، وتوفير فرص للخريجين منها برواتب مُغرية، وهو ما أدى إلى زيادة الإقبال عليها، وربط أبناء هذه الدول بأنماط الثقافات الغربية، بل ضمان ولائهم للغرب.
وعلى إثر ما جرى من سلام بين مصر وإسرائيل، فقد عُقدت ندوة في جامعة تل أبيب بعنوان: “دراسة تأثير القرآن الكريم في عرقلة التطبيع مع إسرائيل”، وقد شارك فيها مصطفى خليل رئيس وزراء أنور السادات السابق، وبطرس غالي، ثم طالب بيجن بإغلاق دور القرآن الكريم في مصر وتأميم المساجد، وقد جرى من ذلك الكثير على المستوى العملي؛ فجرى حذف بعض آيات القرآن الكريم من المناهج التي يدرسها الطلاب.
وقد جرى استبعاد عضوين من لجنة تطوير التربية الدينية في مصر، نتيجة خلاف وقع بينهما ومقررة اللجنة (ليندا لامبرت) الأمريكية الجنسية عن المحرمات الإسلامية؛ فقد رأت ليندا أن منهج التربية الدينية يُصوّر الغرب بالنسبة للأطفال تصويرًا سيئًا في مثل موضوعات الخمور والربا وغيرها من المحرمات، وعندما اعترض الباحثان على ذلك بسبب تحريم القرآن للخمر والربا استُبعدا من اللجنة.
محاولة أسلمة المعرفة
وحاول الباحث عرفان عبد الدايم عبد الله، الحاصل على الدكتوراه في اللسانيات العربية من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، من خلال قراءة كتاب “أسلمة المعرفة للفاروقي.. قراءة نقدية تحليلية” إعادة ضبط العملية التعليمية في ضوء المقاصد الشرعية من خلال مشروع مقترح.
ورأى الباحث أنه ليس من المرجو من الحكومات الإسلامية اليوم القيام بمثل هذا المشروع، فهي- في أغلبها- مفلسة فكريًا، لذا فهو يرى أن السبيل في مخاطبة العلماء الحريصين على بناء هذه الأمة بناءً إسلاميًّا، ثم مخاطبة العقلاء القائمين على أمر الجماعات الإسلامية الرشيدة، ثم مخاطبة الأغنياء المخلصين لهذا الدين من أبناء الأمة، ليلتفوا حول منهج إسلامي رشيد، مُوحّد على مستوى العالم الإسلامي شرقه وغربه، مبني على مقاصد الشريعة الإسلامية، ويشتمل على العلوم الدينية والعلوم المدنية، ويقوم على معايير ومبادئ نابعة من عقيدتنا، معبرة عن ثقافتنا، منضبطة بمقاصد شريعتنا دون تعظيم الآخرين أو الافتنان بّهم.
أما عن ملامح مشروع أسلمة المعرفة وربطة التعليم في البلاد الإسلامية بمقاصد الشريعة، فقد أوضحه الباحث في النقاط التالية:
- حفظ القرآن الكريم، ودراسة العقيدة، وشيئًا من علم الكلام والفلسفة، فعليهما بُنيت الأطر النظرية لكثير من العلوم العربية والإسلامية.
- التمكن من التراث اللغوي والإسلامي: حفظًا ومدارسةً، ولهذا التمكن أدوات ووسائل، على رأسها إتقان اللغة العربية، وحفظ نصوصها التراثية أو مجموعة كبيرة من نصوصها على الأقل؛ حتى يستقيم اللسان، وتنقدح الملكة استعدادًا لتلقي العلوم الإسلامية الأخرى، ومن هذا الباب ما كان يفعله أسلافنا من إرسال أبنائهم إلى البادية لتلقي اللغة عن أهلها، ومعرفة مقاصدها، كما أن الأعاجم كانوا يرسلون أبناءهم إلى الحواضر العربية الفصيحة لتلقي اللغة ثم العلوم الإسلامية.
- حفظ بعض المتون العربية والشرعية؛ لتكون معينًا لطالب العلم على تذكر كليات العلوم.
- التعمق في دراسة القراءات القرآنية، فإنها معين للّغوي، ودليل للفقيه، وسعة للمشرع والسياسي.
- دراسة الفقه بمذاهبه، والتعمق في مجالاته، لاسيما المعاصر منها.
- دراسة الأدب العربي، وما وافق الروح الإسلامية من الأدب العالمي.
- إتقان العلوم الحديثة، ونبوغ نفر غير قليل من علمائنا الأوائل في هذه العلوم دليل على أهميتها واحتفاء الإسلام بها؛ إذ بها تسَدُّ حاجةُ الأمة، ويستغنَ بها المسلمون عن غيرهم، وهي سبيل واسع من سبل بناء الحضارة وعمارة الأرض.
- إقامة العلاقة المناسبة بين التصور الإسلامي وبين مجالات المعرفة الحديثة، فنُقِر ما ائتلف منها مع التصور الإسلامي وننكر ما اختلف عنه.
- مراعاة المراحل العمرية في كل هذا؛ لأن متطلبات كل مرحلة تختلف عن الأخرى وبناء على اختلافها تختلف الأهداف والبرامج والمناهج، ففي الصغر يكون الصبي إلى الحفظ أسرع، وفي المراحل المتوسطة يطلب الفهم وينهض للحوار والمناقشة، ثم يكون في طور الشباب مستعدًا لتكوين شخصيته، وامتلاك المهارات التي تناسب قدراته وتحدد مجالاته، ومن ثم تبدأ مرحلة التخصص، ثم مزاولة عمله حسب علمه.
إن التعليم في بلاد المسلمين يحتاج إلى مخلصين يحملون همّه، ويدركون جيدًا ما خُطّط ومورس ضده، حتى صارت المناهج بلا هوية واضحة ولا علم دُنوي نستند إليه، وإذا أردنا أن نعود إلى سابق عهد المسلمين حيث الحضارة والتّقدم الذي بنى الغرب عليه حضارته، فلا بُد من تبني النظريات والمقترحات الناجعة للنهوض بالتعليم الديني والدنيوي.
المصادر والمراجع:
- الدكتور عرفان عبد الدايم عبد الله: قراءة حول كتاب “أسلمة المعرفة للفاروقي.. قراءة نقدية تحليلية”.
- عبد الباقي خليفة: العدوان على التعليم في بلاد المسلمين.
- سلفانا نعوم: مفهوم العملية التعليمية وشروط نجاحها.
- موقع المسلم: المناهج في العالم الإسلامي.
- خالد محمد خالد، أسباب أربعة للتطرف، مجلة العربي، ع 287، ربيع الأول، 1402هـ، ص 53.
- موقع طريق الإسلام: مناهجنا بين التطوير والتغريب.. الهجمات على المناهج الشرعية.