تعد سورة مريم السورة الوحيدة التي سميت باسم امرأة؛ تكريمًا للسيدة العذراء مريم، ويلاحظ في هذه السورة تناولها للكثير من تفاصيل العلاقات الأسرية. كما أنها من أوائل سور القرآن التي ترشد المسلمين إلى القيم الأسرية الحسنة، التي يثني عليها القرآن الكريم ويجعلها من أهم الأسس التي تقوم عليها الحياة الأسرية الإسلامية.
إن في تدبر سورة مريم، وآياتها المختلفة، عظة وحكمة في بر الوالدين، والعلاقة التربوية بين الأب وابنه، والابن وأمه، والأخ وأخيه.. فخلال أسطرها بيّن الله عز وجلّ لنا رحمته العظيمة في أجل معانيها، وكل مشاهد السورة تنبض برحمته سبحانه وتعالى.
جاء في فضائل هذه السورة ما رواه الإمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة هجرتهم إلى الحبشة والنجاشي، وفيه: أنه دعا أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، وقالوا لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: هل معك مما جاء به -يعني النبي صلى الله عليه- وسلم من شيء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليَّ. فقرأ عليه صدراً من {كهيعص}. قالت: فبكى -والله- النجاشي، حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون».
واشتملت السورة أيضا على معاني الرحمة الأسرية بمختلف ألفاظها، ففي قصة يحيى قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴿١٤﴾) بينما عيسى عليه السلام قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴿٣٢﴾) ونجد حديثًا عن البر والرحمة بالوالدين، فهذه التعابير (برا بوالدتي) و(برا بوالديه) لم ترد إلا في سورة مريم.
أهداف تربوية
لقد اشتملت سورة مريم على الكثير من الأهداف التربوية الأسرية التي حاولت السورة أن تعالجها وتوضح علاقة بعض أفراد الأسرة بعضهم البعض ومن هذه الأهداف:
1- الدعوة إلى تربية الأولاد على حب الدين والقيم والأخلاق الإسلامية وإعدادهم لحمل راية الإسلام.
2- الدعوة إلى الاهتمام بالأسرة وحثها على فعل الخيرات وإقام الصلاة.
3- الدعوة إلي الإيمان بقدرة الله تعالى وأنه يفعل ما يريد ويخلق ما يشاء.
4- الدعوة إلى حث الأبناء على حسن معاملة الآباء والتأدب معهم وإن اختلفوا معهم في الرأي أو في العقيدة.
يقول عمران سميح نزال: إن تركيز القرآن الكريم على بناء الإنسان المسلم المؤمن كبير جداً؛ لأن بناء الإنسان هو أساس كل بناء اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي (أسري أو قبلي أو وطني أو قومي أو دولي).
ومن ثم فالإسلام يبنـي الإنسـان المسـلم معرفيا وعقليا، ويعـول علـى هـذا البنـاء المعرفـي والعقلـي القويـم فـي تثبيـت المسـلم علـى الحـق وعـدم الانهيـار أمـام الباطـل الضعيـف، ولا يأمـر الإسـلام المسـلم أن يتخلـى عـن عقلـه وتفكيـره إذا أمـره االله تعالـى بمعـروف أو نهـاه عـن منكـر، وإنمـا أمـره بـأن يتفكـر بـكل مـا كتبـه عليـه، وأن يبحـث عـن معقولـه ومقصـده وصلاحـه فيـه.
والاستخلاف أمر أوجبه الله سبحانه على البشرية ذرية بعضها من بعض حينما قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، فُعلم أن السكن في الأرض هو للحياة الزوجية الأسرية التي جمعت بين آدم وحواء وليس لآدم وحده ولا لحواء وحدها، ثم من بعدهم نسلهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
قراءة سرية تربوية
جعل سبحانه الأزواج سكنًا: {وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]، فالأسرة سكن الزوج، وسكن الزوجة، ومنشأ الولد، وموطن التربية، فإذا صلحت الأسرة صلحت الأمة، وإن الأمة التي تعنى بالأسرة هي التي تفلح في القيادة والريادة، لذلك كان الشرع الشريف حريصًا على حماية الأسرة والعناية بها من كل جانب، فكان البيان لحدود كل من الزوجين حقوقًا وواجبات، وكان القرآن الكريم توضيحًا لموضع الامتنان من الله سبحانه بالأسرة في بنائها حتى لا يغفل الإنسان عن تلك النعمة واليقين بمنزلتها من العظمة بين سائر النعم.
وضمت سورة مريم مشاهد تربوية أسرية بين آياتها، ففيها الابن المهتدي الذي يلتقي مع أبيه الضال الذي يجاهد من أجل إيمان أبيه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، ومثال الابن الرحيم بوالدته وظروفها: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.
ومع كل ذلك أودع الإسـلام للحياة الاجتماعية الأسرية حقوقا وواجبات خاصة وعامة، فمـا كان فـي حـدود الحيـاة الأسـرية الخاصـة فهـو فـي دائـرة المعاشـرة بالمعـروف، وأمـا مـا كان مـن حقـوق وواجبـات فـي الحيـاة الاجتماعيـة العامـة، فـإن الدرجـة فيهـا ترتفـع لأولي الأمـر الاجتماعيين والسياسـيين للقيـام علـى الحيـاة العامـة بمـا يصلحهـا اجتماعيا وسياسيا.
بين الأب وابنه
بدأت سورة مريم بسرد قصصي رائع لتوضيح العلاقة الأسرية بين الأب وابنه، وهي العلاقة التي يسعى إليها كل أب، علاقة الحب والرحمة وفي المقابل يجني الأب إحسانا وبرا من ولده، وتتحقق البشارة التي تمناها زكريا عليه السلام من ربه: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (مريم: 5- 6).
لقد دعا زكريا ربه دعاء خفيا فذلك أحرى للإخلاص في الدعاء، يناجي ربه بعيدا عن أعين الناس وأسماعهم، ويتذلل لله ويتوسل إليه بضعفه، وهي من الأمور التي يجب أن تلازم الآباء والتي تبدأ من قبل الزواج: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38).
لقد توسل زكريا إلى ربه بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى الله، لأنه يدل على التبرؤ من الحول والقوة، والتعلق بحول الله وقوته، وأيضا لما طلب الولد حرص أن يطلب الولد الرضيّ: أي المرضي عنه من أبويه ومن عموم الناس، ويرضى عنه ربه. هذه بعض آداب الدعاء، وكان من أبرز مميزات هذا الولد الصالح أنه كان باراً بوالديه.
إن ســؤال زكريا انصــب علــى تكويــن أسـرة ممتـدة منـه ومـن آبائه آل يعقـوب، وهـذه حالـة لا تخلو الحيـاة الاجتماعيـة البشـرية منهـا، ألا ينقطـع رجـاء الرجـل مـن الولـد الصالـح مهمـا بلـغ مـن العمـر.
فالعلاقة الاجتماعية بين الابن ووالديه قائمة على البر وانعدام الجبروت، قال تعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا} (مريم: 14).
بين الأم وابنها
تجمع بينهما علاقة قدسية وصفها النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: من أحق بحسن الصحبة؟ قال: [أمك، ثم أمك، ثم أمك] (رواه مسلم).
وهكذا تأسست العلاقة بين مريم البتول ووليدها، وعلى الرغم من كونها وحيدة وجديدة في مجال العناية بالأولاد حيث كان عيسى – عليه السلام – ابنها البكر والوحيد، إلا أن العلاقة الأسرية جاءت بردا وسلاما من الله عليها فكان ابنها بارا بها، محسنا إليها.
لقد تجلت التربية الإيمانية في عفة السيدة مريم حينما أخبرها الملك بحملها فاستشعرت الطامة وتمنت الموت خوفا من هذا الحدث فنطق لسانها: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}، لكن كان النداء الرباني مطمئنا أن هذا الحدث فخرٌ وشرف وليس شرا وعارا: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مريم: 24).
ومع ذلك – ومع تجلي هذه البشارات – إلا أن الخوف ظل سيد الموقف لديها؛ فحينما جاءت إلى قومها خائفة من الفضيحة والتي حدثت من خلال كلمات قومها: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}، فتجلت العلاقة الاجتماعية بين الابن وأمه والذي استشعر – رغم صغره – مكانة أمه عندهم فراح يبرأ ساحتها ويؤكد عفتها وطهارتها، ثم يعلن طبيعة علاقته بها ما دام حيا حيث البر بالوالدين وطاعة الله فيها، فقال: {وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا} (مريم: 32).
بين الابن وأبيه
إن الإحسان إلى الوالدين خلق عظيم، بغيره تضطرب الحياة الاجتماعية، وبه يستقيم التفاعل والتواصل، والحوار بين الآباء والأبناء من ضروريات الحياة، ولذا وصانا الله سبحانه بحسن التأدب معهما.
ونموذج الحوار الراقي بين سيدنا إبراهيم وأبيه نموذج يحتذى به، فمع كون والد إبراهيم كافرا – بل صانعا للأصنام – إلا أن كلمات إبراهيم – عليه السلام – جاءت تحمل التعظيم والتبجيل للأب، عرفانا لما بذله من أجل أبنائه منذ ولادتهم، فجاء لفظ [يا أَبَتِ] تأدبا وتجنبا للكلمات والعبارات التي قد تجرحه وتضايقه، وظهر حرصه على نجاة والده من النار لكونه عرف الطريق الحق فأراد أن يكون أبواه معه في هذا الطريق، فجاءت كلماته وعباراته سلسلة ليس فيها تعالٍ ولا إساءة أدب، بل حرص وخوف على أبيه، بل زاد في الدعاء أن يُغفر لأبيه: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا* يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا* يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ عَصِيًّا* يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم: 42- 45)، ثم: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}.
لقد انحصرت عبارات إبراهيم عليه السلام مع والده حول: يا أبت إني أخاف عليك؛ وإني حريص عليك؛ وإني لا أرضى لك سوء العاقبة بعد الموت؛ لأنك أبي ولأني أحبك، وهو ما يجب أن يتعلمه الأبناء.
بين الأخ وأخيه
غالبا ما نعيش محنة المشاكل التي تحدث بين الإخوة بعضهم البعض سواء كانوا صغارًا أو كبارًا، لكن العلاقة التي جمعت بين موسى عليه السلام وأخيه هارون سطرت معاني تربوية حكمت هذه العلاقة، فعلى الرغم أن أحدهم هو من يكلم الله، والآخر وهبه الله اللباقة وحسن التعبير فيحدث الناس، إلا أن الرحمة بينهما كانت واضحة حتى وفاتهما، حتى في عتابها: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه: 94)، فجاءت علاقة الرحمة بينهما التي رزقهما الله بها: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (الأعراف: 151)، فجاءت رحمة الله بينهما: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (مريم: 53).
فحينما بُشر موسى بالنبوة دعا ربه أن يُشرك معه أخاه هارون بهذه الميزة وهذا الفضل، فكان موسى لهارون أكرم منّةٍ لأخ على أخيه على مر الدهور.
بين الرجل وأهل بيته
الرجل وهبه الله القوامة، ولذا يجب أن يكون قدوة لمن بعده في الاعتناء بالأسرة ووصلها بالله، فمن كان بحبل الله موصولاً سعد وأُكرم، وسيدنا إسماعيل عليه السلام ضرب النموذج الواقعي والحي في الحرص على تعليم أهل بيته أمور دينه ويصطبر عليها، فقال تعالى: { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 55).
فقـد أخـرج ابـن كثير حديثا عـن النبـي – صلى الله عليه وسلم – قـال فيـه: «إذا اسـتيقظ الرجـل مـن الليـل وأيقـظ امرأتـه فصليـا ركعتيـن كتبـا مـن الذاكريـن والذاكـرات» (رواه أبـو داود والنسـائي وابن ماجه).
لقد كان إسماعيل عليه السلام يأمر أسـرته بـأداء حقـوق االله وحقـوق النـاس، وفـي ذلك تعليـم بأهمية بناء الأسـرة على طاعة االله بالعبـادة والصـلاة والـزكاة وحسـن الأخـلاق حتـى يكسـبوا مرضـاة االله تبـارك وتعالـى.
وقـد خـص المولـى – سبحانه – منهـا علاقاتـه الأسـرية للدلالـة على أهمية العلاقة الأسـرية الــمرضية، وأسسـها الصحيحـة التـي تبنـى علـى طاعـة االله فـي عبادتـه ثـم فـي إحسـان الخلـق مـع النـاس.
أخيرا
لقد سطرت سورة مريم – وهو سورة مكية نزلت في وقت مبكر من الدعوة – بين الجميع ووضعت أسس الرحمة بينهم، وقدمت صورة من النموذج السري الاجتماعي الذي ينبغي أن يسود ويُقتدى به أسريا واجتماعيا.
يقول عمران سميح: الدعـــوة الإســـلامية منـــذ بدايتهـا كانـــت متطلعـــة إلـــى بنـــاء الأســـرة الرضيـــة لتكـون نـــواة المجتمـــع الســـليم، وليكــون المجتمــع السـليم نــواة الأمــة الوســطى، ولتكــون الأمــة الوســطى نــواة العالـــم الآمـــن والعـــادل.