لقد خلق الله- عز وجل- الزمان وفضّل بعضه على بعضٍ لمصلَحة العباد، فجعل العشر الأوائل من ذي الحجة وغيرها من مواسم الطاعة تُتيح للعبد سدّ الخلل واستدراك النقص وتعويض ما فات، وشحن الهمّة للسير على طريق الحق، لأن الدنيا مزرعة للآخرة، وميدانٌ للتنافس.
ومن رحمة الله تعالى وحكمته أنْ فاضل بين الأزمنة، فاصطفى منها ما شاء ليكون ذلك عونًا للمسلم على التسابق والتقرب إليه سبحانه بأعمال البر والخير، لذا فإن المسلم الفَطِن عليه اغتنام الأجر في هذه الأيام المباركة، وإحياء العمل بسنة النبي- صلى الله عليه وسلم- فيها، لتحصيل الخير والبركة في الدنيا والثواب الكبير في الآخرة.
فضائل العشر الأوائل من ذي الحجة
بيّن الله- جل وعلا- فضل العشر الأوائل من ذي الحجة، حينما أقسم بها فقال: {وَالْفَجْرِ (1) ولَيَالٍ عَشْرٍ} (الفجر: 1-2). ومن فضلها أنها تُعد من الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (الحج: 28).
ولما كان الصحابة- رضي الله عنهم- قد استقر عندهم أنّ الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعظم الأعمال، فقد سألوا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن العمل الصالح في هذه الأيام، هل يسبق في الأجر والدرجة تلك الفريضة الكريمة السامية؟ فبيّن النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الجهاد لا يسبق العمل الصالح في هذه الأيام إلا في حالة واحدة، وهي أن يخرج المجاهد بماله ونفسه فينال الشهادة ويفقد المال ولا يرجع بشيء.
فعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام يعني أيَّامَ العشرِ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ، إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ”، (صحيح أبي داود).
ومن فضلها، أنّ فيها يوم عرفة، وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، كما فيها يوم النحر وهو أفضل أيام السّنة عند بعض العلماء، قال- صلى الله عليه وسلم: “أعظم أيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر” (صحيح أبي داود).
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: والذي يظهر في السبب في امتياز عشر ذي الحجة اجتماع أمهات العبادة فيها، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج.
وهذه الأيام أعطاها الله لموسى- عليه السلام- كي يتم ميقاته أربعين ليلة، قال تعالى: {ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الأعراف: 142).
ويُضاعف العمل الصالح فيها، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “ما من أيَّامٍ أفضلُ عند اللهِ ولا العملُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ من هذه الأيَّامِ- يعني من العشرِ- فأكثِروا فيهنَّ من التَّهليلِ والتَّكبير وذكرِ اللهِ وإنَّ صيامَ يومٍ منها يُعدَلُ بصيامِ سنةٍ والعملُ فيهنَّ يُضاعَفُ بسبعِمائةِ ضِعفٍ” (البيهقي في شعب الإيمان).
العشر الأوائل من ذي الحجة فرصة للعمل الصالح
وتتعدد مجالات العمل الصالح في العشر الأوائل من شهر ذي الحجة التي أقسم الله- تبارك وتعالى- بها في كتابه الكريم، ومنها:
- التوبة النصوح بالرجوع إلى الله تعالى، مما يكرهه ظاهرًا وباطنًا.
- أن يحث المسلم أهله وأولاده على استقبال هذه النفحة والتعرض لها، ومساعدتهم على فعل الخير وأداء الطاعة في هذه الأيام، فتحيا الربانية في بيوتنا، وأن يتحرك المسلم بهذه التوجيهات والوصايا العملية في محيط عمله بين زملائه وبين جيرانه لحثهم على ذلك أيضا: “والدال على الخير له مثل أجر فاعله”، حتى تعم الفائدة وتتسع رقعة الطاعة فى محيط الأمة.
- أداء الحج والعمرة: وهما واقعان في العشر من ذي الحجة، باعتبار وقوع معظم مناسك الحج فيها، ولقد رغّب الشرع الحنيف في هاتين العبادتين العظيمتين وحثّ عليهما.
- أن يستحضر كل مسلم ومسلمة (من غير الحجاج) مناسك فريضة الحج، ويعايش الحجاج في مناسكهم المختلفة وشعائرهم وكأنه بينهم، ويستشعر بوجدانه معاني التضحية والفداء والبذل وحسن الامتثال لأمر الله عز وجل.
- الحرص على صلاة الجماعة في وقتها خلال هذه الأيام، سيما في المسجد، ثم الحفاظ على السنن الراتبة قبل وبعد الصلوات المفروضة (12 ركعة). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم-: “مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ” (رواه ابن ماجة).
- والمحافظة على صلاة النوافل يوميًّا، سيّما (الضحى، والوتر، وقيام الليل). ففى الحديث القدسي، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيما بلغ عن ربه سبحانه: “مَن عادى لي وليِّاً فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أَحبَّ إليَّ مما افترضتُهُ عليه، وما يزال عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها، وإنْ سألني لأُعطِيَنَّه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه” (البخاري).
- الحرص على عبادة المكث في المسجد بين الفجر والشروق بحد أدنى مرتين خلال هذه الأيام، ففي الحديث: “من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة”، (رواه الترمذي وصححه الألباني).
- الاجتهاد في ختم القرآن تلاوة بحد أدنى مرة واحدة خلال هذه الأيام الطيبة (بمعدل ثلاثة أجزاء يوميًّا). والأحاديث في فضائل تلاوة القرآن كثيرة، منها: عن أُمَامَةَ الْبَاهِلِي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول- صلى الله عليه وسلم- يقول: “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ”، (رواه مسلم). وما رواه عبدُ الله بن مسعودٍ- رضي الله عنه-: أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ”، (رواه الترمذي).
- الذكر: وله مزية خاصّة على غيره من الأعمال؛ لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام} (الحج:28)، وقال ابن عباس- رضي الله عنهما-: أيام العشر، أي: يحمدونه ويشكرونه على رزقهم من بهيمة الأنعام، ويدخل فيه: التكبير، ولقوله- صلى الله عليه وسلم-: “فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد”.
- التكبير: يُسن إظهار التكبير في المساجد والمنازل والطرقات والأسواق وغيرها، إعلانًا بتعظيم الله تعالى.
- الصيام، فقد روى أبو داود (2437) عن هُنَيْدَةَ بن خالد رضي الله عنه عن امرأته عن بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- رضي الله عن الجميع قالت: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ”، قال الشيخ الألباني رحمه الله: “إسناده صحيح” في “صحيح سنن أبي داود”. أو صيام ما تيسر من هذه الأيام المباركة، بحد أدنى الاثنين والخميس ويوم عرفة، ومَن قدره الله على صيامها جميعا واجتهد في ذلك، فأجره على الله وذلك من فضل الله عليه. فمن أفضلِ نوافلِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله عبادةَ الصيامِ، قال- صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا” (رواه البخاري ومسلم).
- الأضحية: وهي شعيرة من شعائر الدِّين الظاهرة، وهي النُّسك العام في جميع الأمصار، وقد ورد فيها من النصوص ما يدل على عِظَم منزلتها، قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر:2).
- والمراد بالنحر هنا الأضحية، والصلاة هي (صلاة العيد)، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام:162)، والنسك هو الذبح تقربًا إلى الله تعالى، وعن أنس- رضي الله عنه- قال: “ضحى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما” (البخاري).
- صلاة العيد، وهو شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، ومظهر من أجلّ مظاهره، والناس يجتمعون فيه أعظم من اجتماعهم للجمعة، وقد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بخروج النساء لصلاة العيد، ولم يستثن منهن أحدًا، حتى إنه أمر مَن كان عندهن عذر يمنعهن من الصلاة بالخروج إلى المُصلى؛ ليشهدن الخير ودعوة المسلمين. وقد ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان يخرج يوم العيد، فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة، وحكمة التكبير في العيد هي مضادة المشركين فيما يفعلونه من تعظيم أوثانهم، وبخاصة الذبح لهم.
- يوم عرفة: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن صيامه: “يُكفّر السَّنة الماضية والباقية” (مسلم)، وعن عائشة- رضي الله عنها- أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من يومٍ أكثرُ من أن يعتِقَ اللهُ فيه عبيدًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ، وأنه لَيدنو، ثم يباهي بهم الملائكةَ فيقول: ما أراد هؤلاءِ؟ اشهَدوا ملائكتي أني قد غفرتُ لهم” (مسلم).
- يوم النحر: لهذا اليوم فضائل عديدة، فهو يوم الحج الأكبر، وهو أفضل أيام العام؛ لحديث: “إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر ثم يوم القر” (صحيح أبي داود).
- ويوم القر: هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ سُمّي بذلك لأنّ الناس يقرون فيه بمنى، وهو بذلك أفضل من عيد الفطر؛ لكونه يجتمع فيه الصلاة والنحر، وهما أفضل من الصلاة والصدقة.
- الإنفاق في سبيل الله، سيما صدقة السّر فإنها تطفئ غضب الرب، فليحرص كل منها أن يحدد جزءًا من ماله يخرجه فى أحد مصارف الخير وأبوابه، وهي كثيرة.
حال السلف الصالح في عشر ذي الحجة
وكان السلف الصالح يجتهدون اجتهادًا كبيرًا في العشر الأوائل من ذي الحجة، لاغتنام فضلها والثواب العظيم الذي يُحصّله العبد فيها، مقارنة مع الأيام الأخرى. فهذا سعيد بن جبير- رضي الله عنه- “إذا دخل أيامُ العشرِ اجتهد اجتهادًا شديدًا، حتى ما يكادُ يقدرُ عليه” (البخاري).
وهذا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، قال: “لا بأس بقضاء رمضان في العشر”، وعن أبي إسحاق عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال: من كان عليه صوم من رمضان فلا يقضيه في ذي الحجة فإنه شهر نسك، وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال إذا بدأ بالفريضة لا بأس أن يصومها في العشر.
بل إنَّ بعض السلف كان يترك مدارسة طلابه في هذه الأيام، قال الأثرم: أتينا أبا عبد الله ويعني أحمد بن حنبل، فقال: في عشر الأضحى: قال أبو عوانة: كنا نأتي سعيد الجريري في العشر فيقول: هذه أيام شغل وللناس حاجات.
وقال مجاهد: كان أبو هريرة وابن عمر- رضي الله عنهما- يخرجان أيام العشر إلى السوق فيكبران؟ فيكبر الناس معهما، لا يأتيان السوق إلا لذلك.
ومن هنا فإن العشر الأوائل من ذي الحجة تُعد من أهم النفحات الربانية التي أنعم الله- عز وجل- بها على عباده المسلمين، ليتصدوا لها فيزدادوا إيمانًا على إيمانهم، ويُحققوا من خلالها معاني الربانية في نفوسهم وبيوتهم وأمتهم.
المصادر والمراجع:
- معاوية محمد هيكل: دراسة عن العشر الأوائل من ذي الحجة.
- محمد بن إبراهيم التويجري: كتاب موسوعة الفقه الإسلامي، ج 3، ص 322.
- عبدالله بن صالح الفوزان: أحاديث عشر ذي الحجة وأيام التشريق ص 5.
- مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، جزء 30، ص 118.
- البيهقي، شعب الإيمان، كتاب الصيام- تخصيص أيام العشر من ذي الحجة بالاجتهاد بالعمل فيهن: (5/ 309)، برقم (3476).
- أحمد بن حنبل: كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد الفقه، ص 468.
- ابن أبي شيبة: المصنف، ص 488.