كان النبي- صلى الله عليه وسلم- أعبد الناس لله جل وعلا، في صلاته، وصيامه، وقيامه، ودعائه، مع أنه قد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. ولقد نقلت أمهات المؤمنين كل شيء عن العبادة في بيت النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-، ليقتدي به المسلمون في كل زمان ومكان، فهو الذي تركنا على المحجة الصافية النقية، بل إن الله- تبارك وتعالى- علّق سعادة الدّارين بمتابعته في كل تفاصيل الحياة، خصوصًا فيما يتعلق بالأسرة والتربية وغرس الأخلاق الكريمة في الرّعية.
منهج العبادة في بيت النبي
ولقد كانت العبادة في بيت النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- منهجًا لمَن يُريد من أصحابه السير على خُطى نبي الرحمة في التودد إلى الله- جل وعلا-، وما زال شكل هذه العبادة وكيفيتها هي النموذج الذي يُمكن أن نتأسى به.. وتلك بعض من مظاهر هذه العبادة:
- الصلاة: يصف المغيرة بن شعبة اجتهاد النبي- صلى الله عليه وسلم- في عبادته لربّه فيقول: قام النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى ورمت قدماه، قالوا: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: “أفلا أكون عبدًا شكورًا” (البخاري). وعن عبدالله بن الشخير، قال: “أتيتُ رسولَ اللَّه صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ يصلِّي ولجوفِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ منَ البُكاءِ”، (أحمد والترمذي).
وعن حذيفة بن اليمان، قال: “صَلَّيْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَافْتَتَحَ البَقَرَةَ، فَقُلتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المِائَةِ، ثُمَّ مَضَى، فَقُلتُ: يُصَلِّي بهَا في رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلتُ: يَرْكَعُ بهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ، فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلًا؛ إذَا مَرَّ بآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ، ثُمَّ رَكَعَ، فَجَعَلَ يقولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ العَظِيمِ، فَكانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِن قِيَامِهِ، ثُمَّ قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، ثُمَّ قَامَ طَوِيلًا قَرِيبًا ممَّا رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، فَقالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعْلَى، فَكانَ سُجُودُهُ قَرِيبًا مِن قِيَامِهِ. وفي رواية زيادة: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ” (مسلم).
- الصيام: وهو من العبادات التي كان النبي- صلى الله عليه وسلم- مجتهدًا فيها، فقد وَصَفت أم المؤمنين عائشة- – رضي الله عنها- شدة اهتمامه بها فقالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان” (سنن أبي داود).
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؛ فعن مُعاذةَ العَدَوِيَّةِ أَنَّها سَأَلَتْ عائشةَ- رضيَ اللَّه عَنْهَا-: “أَكانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يصومُ مِن كُلِّ شَهرٍ ثلاثةَ أَيَّامٍ؟ قَالَت: نَعَمْ. فَقُلْتُ: منْ أَيِّ الشَّهْر كَانَ يَصُومُ؟ قَالَتْ: لَمْ يَكُن يُبَالي مِنْ أَيِّ الشَّهْرِ يَصُومُ” (رواهُ مسلمٌ).
- الصدقة: فقد كان- صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، لِمَا وَرَدَ عن عقبة بن الحارث- رضي الله عنه- أنه قال: “صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم العصر، فلما سلم قام سريعا، دخل على بعض نسائه، ثم خرج ورأى ما في وجوه القوم من تعجبهم لسرعته، فقال: “ذكرت وأنا في الصلاة تبرًا عندنا، فكرهت أن يمسي أو يبيت عندنا، فأمرت بقسمته” (البخاري).
- الذكر: ولم يخل بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، من الذكر، فقال تبارك وتعالى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) [الأحزاب: 34].
ولقد كَان النبي- صلى الله عليه وسلم- إِذَا فَرغَ مِنَ الصَّلاة وسلَّم قالَ: “لاَ إلهَ إلاَّ اللَّه وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ، وَلا مُعْطيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ ينْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجدُّ” (متفقٌ عليهِ).
وكان- صلى الله عليه وسلم- يكثر من دعاء: “يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ”، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: كان أكثر دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم-: “اللهم ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخِرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ” (متفق عليه). وكان- صلى الله عليه وسلم- يكثر من الاستغفار؛ فعن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا نَعُدّ لرَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- في المجلس مائة مرة: “رب اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم” (رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وَالْتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيْثٌ صحيح).
لقد عرف النبي- صلى الله عليه وسلم- أنّ العبادة هي طريق التمكين، لذا حرص عليها في المنشط والمكره، وحثّ عليها الصحابة الكرام، بل كانت آخر وصيّة له قبل الانتقال إلى الرفيق الأعلى هي الصلاة.
سلوكيات وأخلاق في بيت النبي
وكما أنّ العبادة في بيت النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- كانت مثالا يٌحتذى به، كان هناك- أيضًا- سلوكيات وأخلاق في جميع المواقف تدل على رفعة منزلة النبي الكريم وسمو أخلاقه، فهو الذي قال فيه ربه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، ومن هذه السلوكيات والأخلاق:
- السلام أثناء الدخول: لم يكن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليفاجئ أهله بغتة يتخونهم، ولكن كان يدخل على أهله على علم منهم بدخوله، وكان يسلم عليهم.
- مساعدة الأهل في أعمال البيت: فعن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة رضي الله عنها، ما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يصنع في البيت؟ قالت: «كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ- تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ” (مسلم).
- حفظ اللسان: تقول أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها-: “لم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح” (أحمد).
- عدم البطش: فعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: “ما ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط بيده، ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى” (أبو داود).
- البشاشة وطيب المعشر: فقد كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- يتبسط مع أهله ويبتسم دائما، كما قالت عائشة رضي الله عنها: “ما رأيت رسول الله مستجمعًا قط ضاحكًا حتى ترى منه لهواته (اللم في أقصى سقف الفم)، وإنما كان يبتسم” (متفق عليه).
- الذكر عند النوم: فعن عائشة قالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كفيه فنفث فيهما، وقرأ فيهما: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يصنع ذلك ثلاث مرات” (البخاري).
- الإحسان إلى الخدم: عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “خدمت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته (لم صنعته؟) ولا لشيء تركته لم تركته؟” (مسلم).
- إكرام الضيف: عن سهل بن سعد- رضي الله عنه-: أن امرأة جاءت إلى رسول الله ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي- صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها فقال: “نعم” فجلس النبي- صلى الله عليه وسلم- في المجلس، ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، لبسها النبي- صلى الله عليه وسلم- محتاجًا إليها، ثم سألته، وعلمت أنه لا يرد سائلاً، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني قال سهل: فكانت كفنه” (البخاري).
- الرحمة بالأطفال: فعن أنس- رضي الله عنه-: “أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ ولده إبراهيم فقبله وشمه” (البخاري). وهذه الرحمة ليست خاصة لأقاربه فحسب، بل عامة لأبناء المسلمين، قالت أسماء بنت عميس زوجة جعفر- رضي الله عنها-: دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعا بني جعفر فرأيته شمهم، وذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله، أبلغك عن جعفر شيء؟ قال: “نعم، قتل اليوم” فقمنا نبكي ورجع فقال: “اصنعوا لآل جعفر طعامًا فإنه قد جاء ما يشغلهم” (أحمد والترمذي).
- الذب عن أعراض الآخرين: فرغم محبته لأم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- فإنه أنكر عليها الغيبة، وأوضح لها عظم خطرها. عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت للنبي- صلى الله عليه وسلم- حسبك من صفية كذا وكذا، قال بعض الرواة: تعني قصرها، فقالت: “لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته” (أبو داود).
- حب الخير للأقارب: عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: لما نزلت هذه الآية: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ، وقال: “يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئًا غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها (أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئًا)” (مسلم).
- ذكر الله عند الطعام: وكان من هديه- صلى الله عليه وسلم- أن يسمي الله تعالى في أول طعامه ويحمده في آخره ، فعن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل بسم الله أوله وآخره” (أبو داود)، وعند الفراغ من الطعام يقول: “الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مَكْفِي- أي لا يستغني عنه الخلق-، ولا مودّع ولا مستغنى عنه ربنا” (البخاري).
- التنفس ثلاثًا أثناء الشراب: فعن أنس- رضي الله عنه-: “أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتنفس في الشراب ثلاثًا” يعني: يتنفس خارج الإناء. ونهى عليه الصلاة والسلام “أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه”.
لقد كانت العبادة في بيت النبي- صلى الله عليه وسلم- مثالا لمَن يريد بلوغ أعلى منزلة في الجنة، كما كانت أخلاقه وسلوكياته مع أهل بيته وأقاربه سببًا في تشبثهم به وتقليده في كل صغيرة وكبيرة، ولا عجب فقد أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلًا، وأكثرهم أدبًا، وأوفرهم حلمًا، وأكملهم قوة وشجاعة وشفقة، وأكرمهم نفسًا، وأعلاهم منزلة، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله- صلى الله عليه وسلم- منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه وأبعدهم عنه شهد له بذلك العدو والصديق.
المصادر والمراجع:
- عائض القرني: عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- عايد بن علي القزلان التميمي: عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضل شعبان.
- ابن حجر الهيتمي: أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل، ص 372.
- الدكتور عبد الملك القاسم: يوم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ابن القيم الجوزية: زاد المعاد، 2/381.