يعاني الإنسان منذ بدء الخليقة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، من الضغوط والشدائد وإن اختلفت أنواعها ودرجاتها وتعدّدت مصادرها، فقد بدأت الحياة على الأرض بأن قتل أحد ابني آدم أخاه، وكأنما وضع بذور المشقة والمعاناة من جراء التنافس والمشاعر السلبية والانفعالات الطائشة، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]؛ في مكابدة ومشقة، وجهد وكد، وكفاح وكدح.
الضغوط والشدائد تلازم للإنسان
منذ اللحظة الأولى لوجود الإنسان يبدأ الجهد والكبد؛ فلا تكاد الخلية الأولى تستقر في الرحم حتى تبدأ في المعاناة، لتوفير الظروف الملائمة للحياة بإذن ربّها، وما تزال كذلك حتى ساعة الميلاد، فيذوق الجنين من آلام المخاض ما تذوقه الأم، ثم يبدأ في تنفس الهواء الذي لا عهد له به، ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يدل على مشقة البداية، وتبدأ دورته الهضمية في العمل على غير عادة، ويُعاني في إخراج الفضلات حتى يُدرّب أمعاءه على هذا العمل الجديد.
وكل خطوة بعد ذلك كبد، فالوليد عندما يهمّ بالحبو يبذل جهدًا، وعند بروز الأسنان يعيش في كبد، وكذلك عند الوقوف، وفي بداية المشي، وخلال التعلّم، ومع كل تجربة جديدة حلقة من سلسلة الضغوط والشدائد.
ثم تتفرّق السُّبل وتختلف المعاناة بين أبناء آدم، فهذا يكدح بعضلاتِه، وذاك يكدح بفكرِه، وآخر يكدح بروحِه، وهناك مَن يكدح للقمة العيش ومضاعفة المال والثروة، بل إن الذي يسعى إلى ملكٍ أو جاهٍ أو شهوةٍ، أو حتى المعاصي التي تُودي إلى النار فهو يكدح، كما يكدح كل من يرغب في الجنة ويتخذ طريق الله منهجًا، والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه، وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء.
الضغوط والشدائد في حياة الأنبياء
وقصّ علينا القرآن الكريم من أخبار الأنبياء وما فيها من الضغوط والشدائد، أنواعًا من البلاء جرت عليهم، وأول الممتحنين آدم عليه السلام، قال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117]، وتعرّض نوحٌ، عليه السلام، للسخرية والأذى من قومه، فقال عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38]، وألقى الخليل إبراهيم، عليه السلام، في النار: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68]، وتعرّض يوسف عليه السلام لعددٍ غير قليل من المحن والابتلاءات، فأُلقي في الجُبّ، ثم تعرّض للغِواية والفتنة، ودخل السجن دون ذنب جناه، وعانى أبوه يعقوب، عليه السلام من مرارة فقدان أحب أولاده إلى قلبه.
وأُوذي موسى وعيسى، عليهما السلام، فكانا من أولي العزم من الرسل، وتحمل خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد صلى الله عليه وسلم، في سبيل دعوته إلى الحق، ما لم يتحمّله بشر، بل إنه لم يَسلَم مِن أذى أقرب أقاربه، وتوالت المحن والشدائد على الأنبياء والرسل، وكُذّبوا وحُوربوا.
وإذا كان الله، سبحانه وتعالى، قد ابتلى الأنبياء والرسل بالابتلاءات والشدائد، فإن البشر عموما مهما اختلفت درجاتهم وخصائصهم، عُرضة لأنواعٍ شتّى من الضغوط والشدائد والاختبارات، فالمتتبع لأحوال الأمة الإسلامية على امتداد تاريخها، خصوصًا في الحقبة الراهنة، يكتشف أن المسلمين تعرضوا ويتعرضون لضغوط ربما لم يتعرض لها غيرهم، فقد عانت معظم الدول الإسلامية، إن لم تكن جميعها، من الاستعمار الذي حلّ بهم لفترات طويلة، وما نتج عن ذلك من نهب ثرواتهم وانتشار الفقر والجهل والتأخر في بلادهم، كما ترك لهم الاستعمار بذور الفتنة والصراعات.
و اليوم من ضغوط كبيرة في سبيل الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم، ويتعرضون صباح مساء لحملات التشويه والتضليل، ولا تقتصر الضغوط والشدائد التي يتعرضون لها على الضغوط العامة، وإنما هناك ضغوط فردية يتعرّض لها المسلم سواء في حياته اليومية ومعيشته أو في محاولته التمسك بدينه والحفاظ عليه.
الشدائد عند التربويين العرب
كان للتربويين المسلمين إسهاماتهم في تناول ظاهرة الضغوط والشدائد بطرق مختلفة ورؤى متعددة، ونحن لا نزعم أن المسلمين الأوائل قد درسوا الظاهرة دراسة علمية منهجية، كما هو الحال في الوقت الحاضر، لكن أفكارهم حولها كانت بمثابة السبق والفتح، كما هو شأنهم في علوم كثيرة، مثل: الطب، والفلك، والهندسة، وغيرها.
ويقول أبو حامد الغزالي: بعد أن يتخطى العبد عقبة العوائق وينوي الإخلاص في العبادة، يجد نفسه أمام أربعة أمور تشغله وتقلقه وتعوقه عن حب العبادة وهي:
1- الرزق الذي تطالبه به نفسه.
2- الأخطار من كل شيء يخافه أو يرجوه ولا يدري هل في هذا الأمر صلاحه أو فساده فينشغل قلبه بعواقب الأمور وهی مبهمة فيقعد عن العبادة.
3- الشدائد والمصائب التي تنصب عليه وتتكاثر فوقه وهنا تزيد أحزانه.
4 أنواع القضاء والابتلاء من الله بالحلو والمر، وبخاصة أن النفس ميّالة إلى السخط والتبرم.
ويرى فخر الدين الرازي، أن “الدنيا كلها كثيرها وقليلها، حلوها ومرها، أولها وآخرها، وكل شيء من أمرها بلوى من الله تعالى للعبد واختبار. وبلواها وإن كثرت وتشعبت واختلفت فهذا كله مجموع في خلتين الشكر والصبر، فإما أن يشكر على نعمة، وإما أن يصبر على مصيبة”.
ويقول الحارث بن أسد المحاسبي: “من أقوى أعراض النفس الجزع، وهو عرض يعتري الإنسان من فقد محبوبًا من أهل أو مال أو شيئًا عزيزًا عليه، ويعتريه لذلك حزن شديد ويشتد ذلك الحزن حتى يصير جزعا”، ويرى أن الفزع ربما يقع للفرد من شيء يفكر فيه ويروعه، أو شيء ينظر إليه فيهوله منظره أو من شيء يسمعه كصوت شديد تأدى إلى سمعه فلا يحتمله لشدته.
تعريف الضغوط النفسية عند العلماء المسلمين
رغم أن العلماء المسلمين الأوائل لم يستخدموا كلمات مثل الضغوط والشدائد التي يشيع استخدامها حاليا، فإنهم استخدموا ما يقترب منها كثيرا، مثل: الابتلاء، والاختبار، والضيق، والقهر، والاضطرار، ونجد في قول، رسول الله صلى الله عليه وسلم “تَعرّفْ إلى اللهِ في الرخاءِ يعرفْكَ في الشدةِ” (رواه الترمذي) تعريفا للشيء بذكر ضده، أي أن الشدة هي كل ما يناقض الرخاء والراحة ورغد العيش.
ويحدد النبي، صلى الله عليه وسلم، بعض مُثيرات الضغوط في الدعاء المأثور عنه عليه الصلاة والسلام “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وغلبة الدين وقهر الرجال”. (رواه البخاري)، وللرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة تشرح جانبًا من المفهوم نسوق بعضا منها:
قال صلى الله عليه وسلم: “ما يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِن وصَبٍ، ولا نَصَبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ حتّى الهَمِّ يُهَمُّهُ، إلّا كُفِّرَ به مِن سَيِّئاتِهِ” (رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: “وإنَّ اللهَ إذا أحَبَّ قَومًا ابتَلاهُم؛ فمَن رَضِيَ فله الرِّضا، ومَن سَخِطَ فله السَّخَطُ ” (صحيح الترمذي).
وقال عليه الصلاة والسلام: “ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ، حتّى يلقى اللهَ وما علَيهِ خطيئةٌ” (رواه الترمذي).
فالضغوط، حالة تحدث عندما يُواجه الأفراد أحداثًا يعتقدون أنها تُهدد وجودهم الجسماني والنفسي، وليس لديهم القدرة على التعامل معها.
ولم تقتصر استبصارات العلماء المسلمين الأوائل على تحديد مسببات الضغوط والشدائد ومترتباتها، وكيفية التعامل معها وإدارتها، وهو ما سنوضحه في مقال آخر إن شاء الله.
المصادر:
1- أبو حامد الغزالي: منهاج العابدين.
2- أبو علي التنوخي: الفرج بعد الشدة .
3- جمعة سيد سيف: إدارة الضغوط النفسية.
4- سيد قطب: في ظلال القرآن.
5- فخر الدين الرازي: عجائب القرآن.
6- الحارث بن أسد المحاسبي: آداب النفوس.