السؤال سمعتُ كثيرًا مقولة “التقبُّل سحر التربية”، لكني لم أعرف كيف أنفذ التقبُّل مع ابني الذي يؤخِّر الصلاة أو يتلفظ بألفاظ غير مناسبة، وغير ذلك من التصرفات السيئة. أعلم أن التقبُّل لا يعني الموافقة على تصرفاتهم، لكني حاولت مرارًا أن أعذرهم حين يخطئون، وأتفهم أن الخطأ جزء من التعلُّم. ورغم ذلك، أكتم غضبي كثيرًا بسبب تكرار الأخطاء، فتتأثر علاقتي بالأبناء. يبدأ صوت النقد يعلو ولا أرى فيهم نفعًا، فكيف أصل إلى حالة من التقبُّل الحقيقي لأخطاء الأبناء حتى لا تفسد علاقتي بهم؟
الرد
أهلاً بكَ ضيفاً كريماً على موقع المنتدى الإسلامي العالمي للتربية ومختلف صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي.
صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الذي جاءه غلامٌ شابٌّ فقال: «يا نبيَّ الله، أتأذنُ لي في الزنا؟» فصاح الناسُ به، فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «قرِّبوه، ادْنُ»، فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبيُّ – عليه الصلاة والسلام -: «أتحبُّه لأُمِّكَ؟» فقال: لا، جعلني اللهُ فِداك، قال: «كذلك الناسُ لا يُحبُّونه لأمهاتهم، أتحبُّه لابنتِك؟» قال: لا، جعلني الله فِداك، قال: «كذلك الناس لا يُحبُّونه لبناتهم، أتحبُّه لأختك؟» وزاد ابنُ عوف حتى ذكر العمة والخالة، وهو يقولُ في كلِّ واحدة: «لا، جعلني الله فِداك»، وهو – صلى الله عليه وسلم – يقول: «كذلك الناس لا يُحبُّونه». وقالا جميعًا في حديثهما – أعني ابنَ عوف والراوي الآخر -: فوضع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدَه على صدره وقال: «اللهمَّ طهِّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصِّن فرجه»، فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه (رواه الإمام أحمد).
إن أبناءنا يأتون إلينا بشَعرٍ طويل وهيئةٍ رثّة، وتصرّفاتٍ أدنى بكثيرٍ مما جاء به الغلام إلى خير البرية. تكون ردّة فعلنا الصياح، كما صاح الناس حول الغلام، بينما ننظر إلى فعل الحبيب – صلى الله عليه وسلم – كيف عالج الأمر.
فقد:
1. أدناه منه.
2. خاطبه بما يفهم: «أترضاه لأمّك؟/لابنتك؟/لأختك؟…إلخ».
3. وضع يده على صدره، فلم يصفعه على وجهه، ولم يسبّه، ولم ينعته بأقبح العبارات.
4. استخدم لغة التلامس، ففيها تهدئةٌ وقربٌ.
5. دعا له.
في هذا الحديث نجد الحل الذي يعين الآباء على التخلص من حالة التيه التي تحدث وقت التعامل مع الخطأ.
التقبُّل لا يعني أبدًا الموافقة..
التقبُّل يعني التفهُّم، تفهُّم أنَّهم صغارٌ، وأنَّهم ما زالوا في مرحلة التعلُّم، وأننا بشرٌ من طبيعتنا الخطأ، وأننا نحمل الشيء ونقيضه بداخلنا؛ فكما جاء في الحديث، كان الغلامُ لديه شهوةٌ، ولكنه في الوقت نفسه لم يرضَ بتخيل ذلك على محارمه!
إذا بحثنا في دواخلنا عن موانع التقبُّل، نجد أنَّ لدينا ما يعطِّل ذلك، مثل:
1. صورتنا أمام الناس
فنلجأ إلى استخدام الحزم والمنع الشديدين حتى لا نسمع تعليقات من الناس، أو يُظَنَّ أننا أهلٌ متراخون مقصِّرون.
2. الفهم الخاطئ
فنستمد الصواب والخطأ من العُرف والتقاليد، أو نفسر مدلول الآيات والأحاديث تفسيرًا خاطئًا؛ فلا نتقبَّل من الأبناء إلا ما نفهمه أو ما تربَّينا عليه.
3. المثالية الشديدة
فنضع معايير عالية جدًا لمفاهيم تربوية ليست بالضرورة صحيحة، وليست بالضرورة تستحق تلك المرتبة.
على سبيل المثال، نضع معيارًا للابن المؤدب بأنَّه قليل الجدال، كثير الفعال، شديد الخصال، دؤوب، مقدام، منضبط في نومه، ملتزم بصلواته، وغرفته مرتبة.. إلخ. ونعتبر أي خلل في تلك الصفات نكوصًا شديدًا.
والصحيح أنَّ لكل طفل مناطق تميُّز ومناطق ضعف، ودورنا تعزيز القوي والأخذ بيد الضعيف.
4. تفعيل التربية الوالدية
بمعنى أنَّا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فلا نجتهد في تغيير طريقتنا بما يتناسب مع فهم ووعي أبنائنا، فنمرِّر ما مرره أهلونا ونقف على ما وقفوا عليه رغم اختلاف الأفراد والظروف.
5. الخوف من انفلات زمام الأمور
فيخشى الأهل من موافقة الأبناء على بعض المباحات، خوفًا من أن يسيء الأبناء فهم ذلك ويختارون الأسوأ. بينما لو أدرك الأهل أن قبول الوضع أسهل من تغييره، لكانت العلاقة مع الأبناء أوثق، فيعود الأبناء إلى فطرتهم الطبيعية التي تدفعهم إلى التغيير والإصلاح من تلقاء أنفسهم.
6. استعجال النتائج
وكأن أبناءنا آلة نضغط على زر النظام لنحصل على أطفال منظمين، ونضغط على زر الصلاح ليكونوا على ما يرام.
نعم، هناك بعض الوسائل الناجعة، لكنها لا تأتي إلا في إطار مليء بالحب والتقدير والتقبُّل؛ فيكفي مع طفلٍ نظرةٌ ومع آخر نحنحةٌ حتى يرتدع. لكن هذه الوسائل تصلح للمواقف العارضة، ولا تنفع مع السلوك المعوَّج الذي نشأ في غفلةٍ من الأهل.
فهل قوَّمناهم وعلَّمناهم قبل أن نلومهم ولا نتقبل اعوجاجهم؟
فكيف نعرف أننا كأهل لدينا قدرٌ معقول من التقبُّل؟
يقاس ذلك بنظراتك للأبناء، وبالسماح لهم بالخطأ، وشعورهم بالأمان حينما يخطئون، وحديثهم معنا كأهل في أسباب الخطأ.
هل نستخدم مع أبنائنا عباراتٍ تشعرهم بحبنا لهم؟
هل نسأل عن أحوالهم، وكيف كان يومهم؟ أم أن كلامنا معهم أكثره عتابٌ ومتابعةٌ وتقويمٌ وتوجيه؟
هل نقف عند الخطأ أم نعفو، ونذكرهم بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»؟
هل نتغافل عن الصغائر ونترك مساحةً للأطفال يتنفسون؟
عودة إلى ما بدأنا به كلامنا، كلام المصطفى – صلى الله عليه وسلم -، فهو نبراسٌ لنا ونور.
نضع بين أيديكم حديثين يحكيان عن مواقف توضِّح كيف يكون التعامل مع المخطئ، وكيف يكون التقبُّل، وأن التقبُّل لا ينافي التوجيه والتزام الحدود والشرائع.
الحديث الأول
جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – فقالَ: «يا رَسُولَ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا فأقِمْهُ عَلَيَّ» قالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى مع رَسُولِ اللهِ – صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قالَ: «يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فأقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللهِ» قالَ: «هلْ حَضَرْتَ الصَّلَاةَ معنَا؟» قالَ: «نَعَمْ» قالَ: «قدْ غُفِرَ لَكَ» (رواه البخاري).
الحديث الثاني
بينَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النبيِّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: «يا رَسولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ» قَالَ: «ما لَكَ؟» قَالَ: «وقَعْتُ علَى امْرَأَتي وأَنَا صَائِمٌ» فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -: «هلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟» قَالَ: «لَا» قَالَ: «فَهلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟» قَالَ: «لَا» فَقَالَ: «فَهلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟» قَالَ: «لَا» فَمَكَثَ النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – فَبيْنَا نَحْنُ علَى ذلكَ أُتِيَ النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – بعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ – والعَرَقُ المِكْتَلُ – قَالَ: «أيْنَ السَّائِلُ؟» فَقَالَ: «أنَا» قَالَ: «خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ به» فَقَالَ الرَّجُلُ: «أعَلَى أفْقَرَ مِنِّي يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ ما بيْنَ لَابَتَيْهَا – يُرِيدُ الحَرَّتَيْنِ – أهْلُ بَيْتٍ أفْقَرُ مِن أهْلِ بَيْتِي» فَضَحِكَ النبيُّ – صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ – حتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «أطْعِمْهُ أهْلَكَ» (رواه مسلم).
رجلٌ أتى بكبيرةٍ مقِرًّا معترفًا، يريد تنفيذ حدِّ الله فيه، فلم يُبكِّته الحبيب – صلى الله عليه وسلم – ولم يلمه، بل ذهب لما يقتضيه التشريع في حقه.
فهل نستطيع أن ننهج مثل هذا المنهج حيال أخطاء أبنائنا، ونتخلَّى عن الخطب العصماء، وننزل إلى ساحتهم نستجلب رضا الرحمن وعفوه في التماس صدق رعايتنا لهم، لا انتقامنا من أخطائهم؟
في الحديث الأول، لم يعترف الرجل بفعلته كما الثاني؛ قال: «ارتكبتُ حدًّا»، وترك الأمر مفتوحًا. فكان جواب النبي – صلى الله عليه وسلم -: «أنت حاضر بين أيدينا تُصلي؛ إذًا غُفر اللهُ لك».
فهل نستطيع إيجاد بيئة يشعر فيها الأبناء بالقبول، ويرغبون في الرجوع لأنهم يعرفون الله ويخافون عذابه، لا خوفًا من عقابنا ورفضنا لهم ولأخطائهم؟
إنَّ الأمر يستحق أن نتعلم كيف نتقبَّل أبناءنا.
فالتقبُّل يبدأ أولًا على مستوى الأفكار؛ فنغيِّر نظرتنا للأمور، ثم يحدث تغيُّر في الشعور، من الكراهية إلى إمكان التفهُّم، ومن كراهية الفاعل إلى كراهية الفعل.
بعدها، يتغير سلوكنا تجاه تصرفات الأبناء نتيجة لتغيُّر الشعور؛ فنُدرِب أنفسنا على عدم الحكم، فنرى الفعل في صورته دون أن نضيف إليه تفسيرات أو معانٍ بناءً على تصوُّرنا.
فمثلًا، إذا ضرب طفلٌ أخته، نتعامل مع الحدث كما وقع، ولا نفسره تلقائيًّا بأنه يغار منها أو يكرهها، أو يقلد فلانًا. بينما قد تكون الحقيقة أنه جائع، فغضب وتصرَّف بعنف مع أول من قابله. فالحكم المُسبق يعطِّل نظرتنا ويحدُّ من تقبُّلنا للأحداث كما هي.
التقبُّل قرارٌ يتبعه تسليمٌ بأن أمرنا كله لله، وبالتالي نتخلى عن الشعور السلبي الذي يحدث تجاه أخطاء الأبناء ما دمنا قد بذلنا جهدنا وسلمنا أمرنا لله. وبهذا يحدث داخلنا حالة من الاستواء والرضا، فتعظم قيمة القبول والعفو، فنحوز منافعَ عظيمة في علاقاتنا مع أبنائنا.
رزقنا الله الفهم الجميل ووضوح الرؤية، والتماس هدي الحبيب – صلى الله عليه وسلم – والعمل به.