بدأ صراع الإنسان مع الشيطان في الجنّة، عندما دُعي الأخير إلى السّجود لأبينا آدم – عليه السلام – فأبى واستكبر، والقرآن الكريم حوى الكثير من الآيات التي تحكي عن طبيعة هذا الصراع الأزلي، ورغم ذلك يغفل عنه الإنسان كثيرًا، بل ينصرف إلى البحث عن أسبابٍ أخرى قد تعيق مسيرته.
وغَفلة بني آدم عن حقيقة هذا الصّراع، يدل على ضعف بصيرته في معرفة عدوّه الحقيقي ووساوسه، فدائمًا يميل إلى الراحة والدّعة، ويكره التعب والمشقة في التصدي للشيطان الذي يُبارزه ويُعاركه كل ساعة.
لكن العبد الذي يتعهد قلبه وعقله وجسده بالرعاية، والأخذ بسُبُل الوصول إلى الله – سبحانه وتعالى – ربما تصيبه بعض الغفلة فيقع في حبائل الشيطان، لكنه سرعان ما يعود إلى الطريق المستقيم، بعد أن تلومه نفسه المتبّصرة لحقائق إبليس وأعوانه.
لماذا يكره الشيطان الإنسان؟
كان الشيطان متنعمًا بطاعته لربّه ومتمتعًا بجنّته، وكان يظن أنه مصطفى عند الله لعبادته، لكن حينما اختبر الله – عز وجل – الخلائق، تكشّفت حقيقة هذا المخلوق الناري، الذي اعترض على أمر ربّه بالسجود للإنسان، فكان الطرد من رحمة الله ونعيمه بل واللعن والخلود في النار هو المصير، وكان الحقد والغل والحسد على الإنسان هو العمل الدؤوب له ولأتباعه إلى يوم الدين.
وإبليس يُدرك أن الإنسان ليس سبب شقائه، وإنما الكبر، لكن كان لا بُد من أن ينتقم، فلم يجد أضعف من بني آدم الذي كرّمه الله على باقي الخلائق، قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82- 83].
ومع ذلك، تكفّل الله بحماية الإنسان المجتهد في التصدي لوساوس هذا المخلوق الخبيث، بل وبصّره بعداوته الدائمة له، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42].
وقال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر:6]، وقال – سبحانه وتعالى – محذرًا الإنسان ومبينًا ما يدعو له الشّيْطَان: {يا أيّها الذِين آمنُوا لا تتّبعوا خُطوات الشَّيْطَان ومَن يتّبع خُطوات الشَّيْطَان فإنّه يأمُر بالفحْشَاء والمنكر} [ النور:21].
أسلحة الشيطان لمحاربة الإنسان
حينما طُرد الشيطان من رحمة الله – سبحانه وتعالى – بسبب كبره، كنّ عداوة شديدة للإنسان، وأقسم ألا يدعه يعيش في أمان، ليصل في نهاية رحلته إلى الجنّة التي حُرم منها بتكبره، واختار أسلحته في مناوراته مع الإنسان يوميًّا، لفتنته وصرفه عن معرفة ربه وطاعته.
وأسلحة إبليس وأتباعه، لا تخرج عن التأثير النفسي، والوسوسة، وحديث النفس، والكلام الخفي الذي لا يُسمع، ومنها:
- التزيّن: فهو لا يدعو الإنسان إلى المعصية أو الكفر بالله – جل وعلا – بصورة مباشرة، لأنه يعرف أن الإنسان سيفطن لذلك، لذا يزين له المعصية في صور مُحببه إليه حتى إذا وقع فيها لم تشعر نفسه بألمها قال تعالى: {وزيّن لهم الشّيْطَانُ ما كانُوا يَعْمَلُون} [الأنعام:43]، وقال تعالى: {وإذْ زيّن لهم الشَّيْطَانُ أعْمَالَهم} [الأنفال:48].
- التسويف: حيث يراقب الإنسان جيدًا، لكي لا يندم أو تصيبه يقظة، فيسارع بالتوبة إلى الله سبحانه، فيفقد كل جهده في الإيقاع به.
- التلبيس: لا يطلب من الإنسان أخذ الحرام أو الاقدام عليه، لكنه يُلبسه ثوب العِفة والشّرف، فإذا أراد الإنسان الحصول على قرض ربوي مثلا للحصول على شقة، يقذف في روعه أن ذلك من أجل ستر أهلك وأبنائك في مكان يحفظهم، أو الرشوة بأن الدولة لا تعطيه حقّه وتظلمه فهذا عوض مقابل الجهد الذي يبذله وغيرها (1).
- تهوين المعصية وتحقيرها حتى لا يراها الإنسان عظيمة في نفسه فيسارع بالتوبة والندم، بل يظل يهونها له، ذنب وراء ذنب حتى يألفها وكأنها أصبحت عادية وطبيعية، قال – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ سُقِلَ قلبُهُ، وإن عادَ زيدَ فيها حتَّى تعلوَ قلبَهُ، وَهوَ الرَّانُ الَّذي ذَكَرَ اللَّه كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ” (الترمذي).
- التيئيس: عن طريق إيهام الإنسان بأنّ ذنوبه عظيمة، ولن يقبل الله توبته أبدًا، لذا أكد الله – تبارك وتعالى – غير ذلك، في قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
- الغضب: ينفث في بني آدم بالغضب حتى ينتهك المحرمات ويرتكب الجرائم، ويقطع الأرحام، بل ربما تنشب الحروب التي تدمر البشرية.
- الوعود والأماني التي تجعل الإنسان في خوف مِن أنْ يتحوّل من نعمة وغنى إلى فقر، فيسعى للمحافظة عليها حتى ولو بالظلم أو البغي أو الطرق غير المشروعة، أو فقير يعمل للغنى بطرق غير سليمة (2).
- وللشّيْطَانِ أسلحة كثيرة تتشابك كلها في ركيزة واحدة وهي محاولة فتنة الإنسان وصرفه عن ربّه وطاعته، والحقائق تؤكد أنها أسلحة معلومة لكن لا يفطن لها إلا المؤمن صاحب النفس اللوّامة دائمًا.
نماذج من الصراع في القرآن
القرآن الكريم مليء بنماذج مُتعدّدة عن الصراع بين الحق من جهة، والباطل الذي يقوده الشيطان وأتباعه، ومنها:
صراع ابني آدم إذ قرّبا قربانًا لله وَحده، فسارع إبليس بإيغار صدر الأخ على أخيه حسدًا، لقبول الله عطية هابيل الذي كان يستشعر عِظَم مَن يقدم له العطية فجاءت على أحسن صورها، بخلاف قابيل الذي لم يُكبّر الله في قلبه فجاءت هديته هزيلة، فحرّك الشَّيْطَانُ مكامن نفس قابيل فقتل أخيه.
وأكبر قصة في القرآن تُصور الصراع بين حقائق الإيمان وبواطن الكفر الممزوج بالكبر، ما حدث بين فرعون وسيدنا موسى – عليه السلام -، والأساليب المتعددة التي يسوقها مُمَثّل الحق سيدنا موسى، والمتحدث باسم الشَّيْطَان وأعماله فرعون (3).
مظاهر نجاح الشيطان في إغواء الإنسان
وينجح الشيطان في إغواء الإنسان، حينما يصرفه عن حقيقة خلقه، وهي حُسن عبادة الله فحسب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومظاهر هذا النجاح تتمثل في:
- الفتور في طاعة الله وضعف الإيمان، فيشعر الإنسان بانصرافه عن الطاعة والتكاسل، والاستهانة بوقت العبادات.
- عدم الخشوع والتركيز في أداء العبادات، حيث يُؤدي صلواته وعبادته وهو لاهٍ غير مُدركٍ ما يقوم به، وكأنها وظيفة روتينيّة يُؤديها حتى يتخلص من عُقدة النفس وغيرها من المظاهر (4).
توجيهات نبوية لمواجهة عدو الإنسان الحقيقي
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يتعوّذ دائمًا من الشيطان الرجيم، فعن عبد الله بن عمرو، قال: “كان إذا دخل المسجدَ قال أعوذُ باللهِ العظيمِ وبوجهِه الكريمِ وسلطانِه القديمِ من الشيطانِ الرجيمِ قال: أقطُّ ؟ قلتُ: نعم. قال فإذا قال ذلك قال الشيطانُ: حُفِظَ مني سائرَ اليومِ” (أبو داود).
وهو المعنى الذي أكده ربّ العزة في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98- 100].
لقد وضّح القرآن الكريم والسنة النبوية، أنّ وساوس الشيطان شيء وهمي لا يُؤثر على أصحاب المعاصي، لأنّ كيد الشّيطان ضعيف أمام كل مؤمن، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
وهذا توجيه نبوي شامل، حيث ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا كانَ جُنْحُ اللَّيْلِ، أَوْ أَمْسَيْتُمْ، فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فإنَّ الشَّيْطَانَ يَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، فإنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ” (مسلم).
إبليس لا يترك شيئًا للإنسان
لا يترك إبليس وأعوانه، شيئًا للإنسان لينعم به دون أن يأتيه منها، ويفسدها عليه، حتى يصيب هدفه الذي أقسم عليه من قبل، لكن الإنسان بيده أن يُحوّل حياته كلها لله، ويفلت من فخاخ إبليس، بالتزام تعاليم القرآن والسّنة النبوية، حتى تدركه المنية وهو على ذلك، فالأعمال بالخواتيم.
وعلى الإنسان ألا يستعظم التوبة والمسارعة بالعودة إلى الله – جل وعلا -، لأنّ بابه لا يُغلق أبدًا، حتى تصل الروح الحلقوم أو تقوم الساعة.
كيف نكذب ظن إبليس؟
منذ بدأ الصراع بين الشيطان وآدم – عليه السلام – ومن بعده أبنائه، ظن الشَّيْطَان أن أسلحته قوية وخير دليل أنه أخرج آدم وزوجه من الجنة.
يقول الحسن البصري – رحمه الله – كما جاء في تفسير ابن كثير: لما أهبط الله آدم من الجنة ومعه حواء، هبط إبليس فرحًا بما أصاب منهما، وقال: إذا أصبت من الأبوين ما أصبت، فالذرية أضعف وأضعف، كان ذلك ظنا من إبليس. فأنزل الله عز وجل: “وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ”، فقال عند ذلك إبليس: لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح، أعده وأمنّيه وأخدعه. فقال الله عز وجل “وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت، ولا يدعوني إلا أجبته، ولا يسألني إلا أعطيته، ولا يستغفرني إلا غفرت له” (5).
وآدم وأبناؤه من بعده يدركون طبيعة المعركة مع إبليس وأتباعه، والإنسان له أن يُقرر بنفسه المصير، فإن أراد كسب المعركة، له ذلك. أو يترك الأمر لعدوه، فتكون النتيجة خسائر متتالية دون أدنى ريب (6).
كيف ينجح الإنسان في معركته مع إبليس؟
يمتلك الإنسان في معركته مع الشيطان، أسلحة كثيرة، أهمها حفظ الله وتعهده سبحانه بعدم ترك الإنسان وحيدًا، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} [الإسراء:65]، وقال تعالى: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:99].
ودعّم الله – عز وجل – الإنسان بأسلحة تُعينه على منجازة الشَّيطَان حتى ولو ضعف أو وهن بعض الشيء، ومنها:
- الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه: فهو أعظم سبيل للحماية من إبليس وجنده.
- المداومة على ذكر الله والمحافظة على الطاعات والعبادات والامتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى.
- لزوم جماعة المسلمين، فإنّما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولا يظن الإنسان أنه قادر على التّصدي للشّيطان وحده.
- الإخلاص والاستعاذة دائمًا من الشَّيطَان الرّجيم.
- كثرة القراءة، لمعرفة أسلحة الشَّيطَان، والتصدي لها.
- الوقوف على حقائق وأوامر الشرع الحنيف، وتجنب الحرام والتقليل من المباح حتى لا يغريه بالحرام (7).
فيا أيها الإنسان أنت سيد المعركة، وبيدك النصر أو الهزيمة، فانظر ماذا ترى، ولا تغرنّك الدنيا، وخذ نصيبك بالحسنى، وتذكر الحياة الآخرة، لتكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس مع إبليس وأتباعه.
المصادر
- طرق الشيطان الرجيم في إضلال العبيد: 22 يونيو 2006،
- إسراء عبد القادر: وسائل الشيطان في إغواء بني آدم، 16 أكتوبر 2016،
- شريف عبد العزيز: تأصيل الصراع وحقيقته في القرآن الكريم، 18 يوليو 2017،
- نصائح للتخلص من وساوس الشيطان: 22 أبريل 2015،
- عمر بن محمد السكوني المالكي: التمييز لما أودعه الزمخشري من الاعتزال في تفسير الكتاب العزيز، جـ3، دار الكتب العلمية، صـ64.
- عبد الله العمادي: لأحتنكن ذريته إلا قليلا،
- أسلحة المؤمن في حربه مع الشيطان: 8 نوفمبر 2007،