حضّ الإسلام على الصدقة والتكافل الاجتماعي، وبيّن مدى التأثير المادي والمعنوي على المتصدِّق والمتصدَّق عليه، ومدى سيادة روح الحب والإخاء بين أفراد المجتمع.
وفضّل الله، عز وجل، بعض الناس على بعضٍ في الرزق، لحكمة التمايز، وتنقية النفس من شُحّ مطاعٍ وتكالب على الدنيا، فجعل للصدقة نماء وبركة في القلب والمال.
ولا يقتصر التّصدق على المال فحسب، بل يتنوع بين القول الحسن، ومساعدة الضعفاء، والتراحم، وحتى الابتسامة، مثلما أوضح النبي، صلى الله عليه وسلّم، كما عبّر عنها الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بقوله: “ذُكر لي أن الأعمال تتباهى، فتقولُ الصدقة: أنا أفضلكم” [شعب الإيمان للبيهقي].
ويؤكد المعنى الإمام ابن القيم، رحمه الله، بقوله: “وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، صلى الله عليه وسلم، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير، يمينه كالريح المرسلة، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه” (1).
الصدقة في القرآن والسنة
تختلف الصدقة في الإسلام عن الزكاة التي هي ثالث أركان الدين، فالزكاة فرض، بما فيها زكاة الزروع، والأموال، وأمور حدّدها الشرع حسب شروط معينة، أما الصَّدَقة فتعني صِدق المُتصدِّق في إيمانه مع الله، سبحانه وتعالى، في إخراج ما في يديه حسبة لله.
ولقد حضّ الإسلام على هذه الفضيلة، ليشيع التكافل والتراحم، والألفة والحب بين الناس، ففي القرآن الكريم تزاحمت العديد من الآيات الكريمة موضحة فضل التصدّق وأهميته، قال تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [إبراهيم:31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم} [البقرة:254].
وقال عز وجل: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267].
وقال، جل وعلا: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
وقال، أيضًا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
وأكد القرآن أنها نقاء للنفس من الشُّحّ، فقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة التغابن:16].
وروى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم قوله: [مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ، وإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ] (البخاري).
حتى بعد الموت يستفيد الإنسان من صدقةٍ تخرج عنه، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له] (مسلم).
والمتأمّل في النصوص التي جاءت آمرة بالتصدّق مُرغبة فيه يُدرك الفضل الذي قد لا يصل إليه من غير هذه الفضيلة.
لماذا حثّ الإسلام على الصدقة؟
الإسلام أساسه دين التعارف والتكافل والتكامل بين أفراده، وهو ما جعله يضع القوانين الربانية لضبط العلاقة بين الناس على أساس الرحمة والعدل والمودة، لذا حثّ على تزكية القلوب وتنقية النفوس وطهارة الأبدان، لتنطلق كل الأعمال من قلوب زكية ونفوس تقية.
وحينما شرع في تبيان أهمية الصدقة على الفرد والمجتمع، أوضح تزكي الفرد وتدعم الروابط بين الجميع. بل تُطفئ غضب الله، سبحانه وتعالى، فعن كعب بن عجرة عن النبي أنه قال: [والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ] (الترمذي).
وهي تُرقّق قلب المؤمن وتبعد عنه البغضاء، والكراهية، والحقد، وتدفع عنه البلاء، مصداقا لحديث النبي، صلى الله عليه وسلم: [إنْ أردتَ أنْ يَلينَ قلبُكَ، فأطعِمْ المسكينَ، وامسحْ رأسَ اليتيمِ] (حديث حسن).
كما أن المتصدّق في ظل صدقته ودعاء الملائكة له ليل نهار، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا] (البخاري).
وبها تَحُل البركة في المال وتتحقق راحة البال، وهى أمور دنيوية يلمسها المسلم في حياته بخلاف ما يراه من نعيم في القبر ويوم القيامة وفي جنات الخلد (2).
أثر الصدقة على المجتمع
تُبنى المجتمعات على العلاقات القوية والمتماسكة بين أفراد، فطبيعة الأمر أن الإنسان لا يعيش وحده في الكون، ويجب ألا يعيش لذاته فحسب. والمجتمعات التي تقوم على التعاون والمحبة وشيوع روح الإنسانية بين أفرادها والتعاون هي مجتمعات قوية في مواجهة التحديات.
فإذا وقعت كوارث أو مصائب يقف الجميع بجوار بعضهم البعض، لتخفيف المصاب، لا فرق بين المجتمعات الإسلامية في ذلك وغيرها، غير أن الإسلام حثّ على الصدقة والتكافل، ووضع لها مميزات تعود على الفرد في الدنيا والآخرة، كما تعود على المجتمع الذي يعيش فيه.
ومن أثر الصدقة على المجتمع أنها تخفض الفوارق الاجتماعية بين الأفراد، فلا تعرف الغني من الفقير، وتؤصل قِيَم الروابط التكافلية.
وتعمل هذه الفضيلة على خلق مجتمع سليم ومُعافى من الجريمة بأنواعها، وتساعد على بثّ روح المحبة والتفاهم والألفة، وتخلق مؤسسات وخدمات وأبنية مفيدة للمجتمع وأفراده.
كما تُطهّر قلوب الأفراد، وبخاصة الفقراء ومشاعرهم نحو الأغنياء، إذا وجدوا منهم حسن التعامل والتكافل والتلاحم.
تعمل، أيضا، على إكساب المجتمع المسلم روح الإيثار وحب الآخرين، ما يجعله متماسكًا ومتكاتفًا.
ومن الآثار المهمة، سيادة العدل والتكامل والإحسان والتواصل والتواد والبر، فعن النعمان بن بشير عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: [تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى] (البخاري) (3).
الصدقة وحفظ ماء وجه المتصدق عليه
النفس المسلمة عفيفة لا تقبل المنّ والأذى ولا تعتبرها أمور هينة عليها، لذا ذكر الله، سبحانه وتعالى، ذلك بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
وحثّ الإسلام على حفظ ماء وجه المتصدَّق عليه، وحفظ كرامته، والعمل على جبر خاطره.
فالصّدَقة إن كانت خير في العلن، فهي في السرّ أفضل، قال تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة:271].
واستشعر السلف الصالح أهمية هذا الأمر فكانت معظم صدقاتهم في السّر، فهذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم، كان يحمل ليلا أكياس الدقيق على ظهره ويضعها أمام بيوت الفقراء، ثم ينصرف. وظل على هذه الحال إلى أن وافته المنيّة، فلما غسّلوه وجدوا آثار الحبال سوداءَ على ظهره، فقالوا: ما هذا؟ فحدث أهلُه الناسَ بصنيعه.
ويُحكى أن رجلا من العرب شُوهد في يده قطع من الخبز يكسرها ويلقيها بجانب جدار بيته إلى النمل. فقيل له: مالك وللنمل؟ فأجاب: هن جارات ولهن حُرمة. حتى يرسخ معاني أن الصدقة ليست لبني آدم فحسب، بل [في كُلِّ كَبِدٍ رطبَةٍ أجرٌ]. وكُتُب السّير بالمواقف التي جسّدت تفاعل الصحابة والسلف الصالح مع هذه القيمة (4).
الصدقة وعلاج الأمراض
والصدقة من أهم الوصفات العلاجية التي ذكرتها روشتة الشريعة الإسلامية، فهي تعمل على تطهير القلوب، وتنقية النفوس، وإثلاج الصدور، ورقة العيون، وإمساك اليد عن الظلم، وسعي القدم لتفَقّد حال الفقراء والمساكين، وطهارة المال، والبركة في الأهل والأولاد، وراحة البال، والصّدق في القول، والجمال في المظهر، وطهارة البدن.
وهي شفاء للأمراض الجسدية، وقضاء للحاجات، وترضية للكريم الرزّاق، سبحانه وتعالى، وقائدة إلى الجنان، ومضاعفة للأجر والثواب، وستر وحجاب من النار، وأمان من الخوف يوم الحشر الأكبر، وممحاة للذنوب، وحجاب من المعاصي، وسبب في حسن الخاتمة.
حسن البنا والتربية العملية للتكافل
اهتم الإمام الشهيد حسن البنا بتعظيم شعائر الإسلام، وتطبيقها عمليًّا في حياته ومجالات دعوته. حيث اهتم بالجانب التكافلي بين الأفراد وتقويته حتى يتلاحم المجتمع ويقوى.
وبدأ هذا الأمر داخل جماعته، فكان مبدأ التكافل الذي دعى إلى تعميمه بين أفراد صفوف الإخوان قبل أن يشمل المجتمع المصري ثم المجتمع الإسلامي، وفي هذا الصدد يقول: “فتكافلوا، وليحمل بعضكم عبء بعض، وذلك صريح الإيمان، ولب الأخوة، فليتعهد بعضكم بعضًا بالسؤال والزيارة والبر، وليبادر إلى مساعدته ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتصوروا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرًا” (5).
وفي عام 1942 أَنشَأ الإخوان مكتبًا للمساعدات الاجتماعية، العينية والمالية، ومساعدة العاطلين للحصول على عملٍ بالتواصل مع أرباب العمل، وعلاج المرضى بالمجان أو نظير أجر رمزي.
هذا غير الخدمات الوقائية، مثل: بث الدعوة الصحية بين الأسر، فكان الإخوان أول مَن وقف بجوار الناس في مصابهم، وحينما احترقت الباخرة الغزالة في أسوان عام 1941م، وأصيب بعض العاملين، جمع الإخوان تبرعات للناس، وعندما انتشر مرض الكوليرا عام 1947م شاركوا في التصدّي للوباء بجولاتهم، فتلقوا رسالة شكر من وزير الصحة آنذاك (6).
المصادر
1. محمد ابن أبي بكر ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في ھدي خير العباد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة، مصر، 1970، صـ186.
2. أهمية الصدقة في الإسلام والسنة النبوية وأنواعها: 31 مارس 2020،
3. خالد الدوس: الصدقة.. وأثرها الاجتماعي، 4 يوليو 2015،
4. حميد بن خيبش: نماذج من تاريخ المسلمين في فن الصدقة،
5. حسن البنا: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، رسالة الأسر، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2008، صـ588.
6. الإخوان في مواجهة الأزمات والكوارث.. تاريخ من التكافل المجتمعي (2/ 3): 25 أكتوبر 2019،