ما استقبل قومٌ نبيهم بالترحاب والورود
ولم يقابَل مصلحٌ يومًا بباسمي الثغور
ولا بالكلام الحلو المعسول
بل بالعنت والشدة
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)
هكذا هي طرقُ المصلحينْ
وهكذا هي رسالتُهمْ
الخَيرُ محمولٌ على أعناقِ الصابرينْ
*************
لقمانُ كلِّ زمانٍ وحكيمُه يدركُ هذا
فيسلكُ دربَه خلفَ نورِ الآيةْ
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ إنما يتبعُهما صبرُ المبلّغْ
صبرٌ حين تظنُّ استجابةً من المَدُعوُ فلا تَجِدْهَا
وصبرٌ حين يقابِلُكَ مَنْ دَعَوْتَهُ بالإساءةْ
فتستمرُّ في إلقاءِ الخيرِ من جعبتِكْ
كما تُلقي الأشجارُ ثمرَها لمن يرميها بالحجارةْ!
وصبرٌ حين تجدُ نفسَكَ وحيدًا تدعو للخيرْ
وسطَ أمواجٍ هادرةٍ من الفَتَنِ والضلالاتْ
******************
بعضُ آياتِ القرآنِ تُسَرِّي عن خيرِ الدعاةْ
فتُطلعُهُ على حالِ الأممِِ السابقةْ
أنهم جانبوا التكذيبَ والمعاندةْ
(وَلَقَدِ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ)
ثم تُوجِّهُ الآيةَ همَّ الداعي لا إلى تكذيبِهم.. بل إلى ما يجبُ فعلُهْ
فتخبرُه بردةِ فعلِ المُرسَلِينْ
(وَلَقَدِ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا ..
فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا)
هذا الصبرُ لا يستقرُّ فِي وعاءِ العَجَلةْ
فكلُّ مستعجِلٍ خاسرْ إِلَّا فيما أَمَرَ الإسلامُ فيه بالعجلةْ
فلو كَانَ عاجلًا إلى اللهِ ليرضَى عنه فنعمَ العجلةُ هِي
كموسى حين سَبَقَ قومَهُ إِلَى اللهِ قائلًا:
(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)
وإن كانَ قاضيًا لدينٍ أو تائبًا فما أحسَنَهْ!
أما حين يكونُ مضمارُ السباقِ تهذيبَ الأنفسْ
فلا مجالَ للعجلةِ في الميدانْ
أنتَ- مصلحٌ كنتَ أو مربٍّ – مطالبٌ بدوامِ الحركةِ والسعيْ
لا يوجدُ خَطُّ نهايةٍ تبلغُهْ
إنما خطواتٌ للأمامِ دون نظرٍ أو التفاتٍ إلى الخلفْ
ثباتٌ على الطريقِ دونَ مغادرةْ
كتلك التي عوتبَ من أجلِها ذا النونِ حين ذهبَ عن قومِهِ مغاضبًا
لا تغادرْ طريقَ الإصلاحِ والتربيةْ
ولو لَبِثْتَ فيه قرابةَ ألفِ سنةٍ كنوحٍ عليه السلامْ
بلِ اصبرْ وداومْ
فقَدْ كشف اللهُ لنوحٍ عليه السلامْ
(أَنَّه لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ)
(وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)
وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُحَاسِبْهُ اللهُ على هذا أو يعاتِبْهْ
بل واساه عزََ وجلَّ قائلًا:
(فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
قَد رضيَ اللهُ عن نبيِّهِ رِضًا بلغَ المواساةْ
رضيَ عن تمسُّكِهِ برسالتِه، وتنفيذِه العهدَ الذي أخذَه على نفسِه بتبليغِها:
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)
ثم رضيَ عن صبرِه في أدائِها
(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)
ونوحٌ أولُهم في الزمانْ
شُرِّفُوا تَشْرِيفًا فَوْقَ تَشْرِيفِ النبوةْ
لمّا كانوا مشكاةَ نورٍ لكلِّ داعٍ ومربٍّ صبورٍ دؤوبْ
****************
ثلاثُ مراتٍ يصفُ القرآنُ أمرًا أنه من عزمِ الأمورْ
أيْ من أعظمِ الأمورِ وأجلِّها والتي يجبُ الحرصُ عليها
في كلِّ مرةٍ يكونُ الموصوفْ (الصبرَ على الأذى في طريقِ الدعوة)
أولُها
( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
وثانِيها نصيحةُ لقمانٍ لابنهْ
وثالثُها
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ** وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
*************
وتلكَ آياتٌ محكماتٌ سنَّ لنا رسولُنا المصطفى- سيدُ الصابرين- أن نكررَها ختامَ كلِّ مجلسْ
آياتُ سورةِ العصرِ التي قَرَنتِ الصبرَ بالحقْ
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
فيا كلَّ حاملٍ للحقِّ.. اصبرْ وتواصَ مع غيرِكَ بالصبرْ
فلا حملٌ للحقِّ بغيرِ صبرْ
*************
فيا كلَّ مصلحٍ في قومِهْ
ويا كلَّ معلمٍ وسطَ تلاميذِه
ويا كلَّ والدٍ مع ولدِه
بَلِّغْ رسالتَكَ وازرعْ ثم لا نُقولَ لكَ احصدْ
بلْ عُد فبلغْ ثُم عُد فبلغْ واصبرْ
فحصادُك هو بلاغُك وعُدَّتُكَ هي صبرُكْ