إنَّ طريقَ الدعوة إلى الله- عزَّ وجل- ليس هينًا لينًا وليس مفروشا بالزهور، لكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك والمحن، وإذا طالعنا مواقف الصبر في حياة الدعاة والمصلحين على مر العصور، وعلى رأسهم الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين؛ تثبتنا من هذه الحقيقة.
ولو كان سلوك طريق الدعوة سهلًا لينًا لا يكلف عرقًا وروحًا ودمًا، لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت حينئذٍ دعوات الحق ودعاوى الباطل، يقول تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت 2-3]، فعلى الداعية والمربي أن يعلم أنه لا بقاء للحق إلا بالصبر الذي ثوابه الجنة، وعليه أن يعلم أن طريق الدعوة شائك قد يقل فيه المناصرين والمستأنسين.
الصبر في حياة الدعاة والمصلحين.. الأنبياء نموذجا
ومن خلال قراءتنا لآيات القرآن الكريم يتبين لنا تاريخًا كبيرًا من الصبر في حياة الدعاة والمصلحين ممن اختارهم الله لتبليغ دعوته ونشر رسالته، وعلى رأس هؤلاء الأنبياء والمرسلين الذين صبروا على قومهم فلم ييأسوا حتى كتب لهم الفوز بالقلوب وإقبالها على الله- عزوجل-، قال سبحانه: (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
فها هو نوح- عليه السلام- يستفرغ قصارى جهده لتبليغ دعوته لقومه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَّنَهَارًا} [نوح :5]، {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 8-9] ومكث عليه السلام على هذه الحالة تسعمائة وخمسين عامًا.
وينتقل خليل الرحمن إبراهيم- عليه السلام- من موقفٍ إلى موقف ومن حالة إلى أخرى في الدعوة إلى الله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [ الأنعام: 74]، وقال سبحانه: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا) [مريم:42].
وصبر إسماعيل- عليه السلام- على الذبح ففداه الله بذبح عظيم، وصبر يعقوب على كيد ولده وفراق يوسف فأظفره الله، وصبر يوسف على ترك الشهوة الحرام لما دعته ذات المنصب والجمال فقال: معاذ الله، وصبر على السجن مظلوما، بل لما خُيّر بين الفحشاء والسجن، قال: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]، وكان عاقبة صبره أن رفعه الله في الدنيا، ولأجر الآخرة أكبر.
وصبر أيوب على مرضه، قال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)، قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم إن أيوب كان رجلًا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه، فامتلك الأنعام، والعبيد، والمواشي، والأراضي المتسعة في أرض حوران في بلاد الشام، ناحية سوريا والأردن، وأَذن الله تعالى بابتلاء واختباره فجعل للشيطانِ سلطانًا في إيذائه وأعلن حربه على ممتلكاته فسلَّطَ جنوده وأتباعه ليحرقوا كل ما يملك، وكان يأتيه كل مرة بخبر هلاك جزء من ممتلكاته فيجيبه أيوب: “إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، لله ما أعطَى، ولله ما أخذ”.
وذكر الله تعالى الصبر على لسان لقمان الحكيم حيث وصى ابنه بالصبر على ما يصيبه من بلاء وأذى عقب وصيته له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تعالى على لسانه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ (لقمان:17). وكأنه يقول له: ما دمت تدعو الناس إلى الخير، وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فوطِّن نفسك على احتمال المكاره منهم، وتقبل الأذى من جهتهم فهم خصوم لمن يأمرهم بالمعروف، لأنه ثقيل عليهم، وينهاهم عن المنكر، لأنه محبب إليهم.
وكان أهل مصر يأكلون ويشربون بينما نبي الله يوسف- عليه السلام- في أصفاد السجن وحده، حيث يقول: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [يوسف: 33]، فقد اختار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي، وطلب سؤال الله ودعائه أن يثبّتَ القلبَ على دينه، ويصرفه إلى طاعته.
وحكى الله عن يوسف- عليه الصلاة والسلام- قوله لإخوته حينما سألوه: (أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90 ]، ولا بد بعون الله وتوفيقه من النصر للداعية المتقي الصابر العامل بما أمره ربه، ومن ذلك الأخذ بجميع الأسباب المشروعة: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ) [هود: الآية: 115].
واستحق موسى- عليه السلام- أن يكون من أولي العزم من الرسل، حيث ضرب مثالًا رائعًا في الصبر على فرعون الذي اتهمه بالسحر لما جاءه بالآيات، وقال: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) [الشعراء:34]، ورماه بالجنون لما عرفه بالله تعالى وقال: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27[، وادعى أنه مسحور فقال: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) [الإسراء:101]، وزعم أنه في دعوته كذاب: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ) [القصص:38]، وبلغ الأذى بموسى ومن معه منتهاه حين توعدهم فرعون قائلًا: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127].
وصبر عيسى- عليه السلام- حتى أراد قومه صلبه لمّا لم يستطيعوا مجاراته فأنجاه الله منهم ورفعه إليه: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء: 157]، ومن قبله صبرت أمه مريم ابنة عمران- عليها السلام- على طعن عفّتها.
وكان صبر نبينا الخاتم محمد- صلى الله عليه وسلم- أعظم الصبر وعاقبته خير عاقبة، وجعل ذكره باقيًا حيث جعل الله معجزة كل نبي تنتهي قبل موته، فلم يبق إلا أكبر معجزة لمحمد- صلى الله عليه وسلم- وهي التي أبقت في القلوب الإيمان بالأنبياء وبمعجزاتهم وبنزاهتهم وصدقهم وصبرهم في دعوتهم لأممهم.
وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم-، لم يكل أو يمل في دعوته لقومه (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أسفًا) [الكهف: 6]، ومع ذلك أمر الله- سبحانه وتعالى- نبيه الكريم بالصبر على الدعوة في كثير من الآيات، فقال عز وجل: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه:130]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [غافر:55]، وقال جل شأنه: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: 5-7].
وخاطب القرآن المؤمنين ليوطنوا أنفسهم على الصبر الطويل، فقال: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (آل عمران: 186)، ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه بمثل قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً﴾ (المزمل:10).
ومشاق الدعوة تتمثل في صورة أخرى هي طول الطريق، واستبطاء النصر، فقد جعل الله العاقبة للمتقين، وكتب النصر لدعاة الحق من رسله وأتباعهم وورثتهم المؤمنين، ولكن هذا النصر لا يتحقق بين عشية وضحاها، ولا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك من الشدائد والمحن المتعاقبة، تزيغ لهولها الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر، ويظن الناس بالله الظنون، يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
ولقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الصابر الأول، وإمام الصابرين في كل أمر، فصبر على المشركين حينما آذوه، ورموه بالكذب، والكهانة، والسحر، قال ابن مسعود- رضي الله عنه-: “بينا النبي- صلى الله عليه وسلم- ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع” (البخاري ومسلم).
وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: “يَا رَسولَ اللهِ، هلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كانَ أَشَدَّ مِن يَومِ أُحُدٍ؟ فَقالَ: لقَدْ لَقِيتُ مِن قَوْمِكِ وَكانَ أَشَدَّ ما لَقِيتُ منهمْ يَومَ العَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي علَى ابْنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلى ما أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ علَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا بقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بسَحَابَةٍ قدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَما رُدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهم، قالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ اللَّهَ قدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بأَمْرِكَ، فَما شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عليهمُ الأخْشَبَيْنِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا” (البخاري ومسلم).
الصبر في حياة الدعاة والمصلحين.. صحابة وتابعين
ولم يقتصر الصبر في حياة الدعاة والمصلحين على الأنبياء والمرسلين، بل ضرب الصحابة والتابعون أروع الأمثلة في التحلي بالصبر، فها هم آل ياسر- رضي الله عنهم- عمار، وأبوه ياسر، وأمه سمية- يعذبهم المشركون بسبب إيمانهم فيصمدون، فعن ابن إسحاق قال: “كان عمار بن ياسر وأبوه وأمه أهل بيت إسلام، وكان بنو مخزوم يعذبونهم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: صبرًا يا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”.
وهذا بلال بن رباح- رضي الله عنه- يعذب من أجل إيمانه فيصبر، “فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد”.
وقال ابن مسعود: “أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وبلال، وصهيب، والمقداد. فأما النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر: فمنعهما الله بقومهما. وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد”.
وعلى مر العصور، تكررت نماذج الصبر والحلم مع كثير من التابعين والسلف الصالح، فها هو عروة بن الزبير، يضرب مثالا للصبر على المرض، فحينما: وقعت الأكلة في رجل عروة بن الزبير، فصعدت في ساقه، فبعث إليه الوليد، فحُمل إليه ودعا الأطباء فقالوا: ليس له دواء إلا القطع، وقالوا له: اشرب المرقِد فقال عروة للطبيب: “امض لشأنك، ما كنت أظن أن خلقًا يشرب ما يزيل عقله حتى يعرف به”، فوضع المنشار على ركبته اليسرى، فما سُمع له حسٌّ، فلما قطعها جعل يقول: “لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت” وما ترك جزءه من القرآن تلك الليلة، قال الوليد: “ما رأيت شيخًا قط أصبر من هذا”.
ثم إنه أصيب بابنه محمد في ذلك السفر، ركضته بغلة في إصطبل، فلم يُسمع من عروة في ذلك كلمة، فلما كان بوادي القرى قال: (لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا) [الكهف:63]، اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحدًا وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدًا وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت”.
وخرَج سعيد بن جُبَير مع ابن الأشعَثِ على الحجَّاج، ثم إنَّه اختَفَى وتنقَّل في النَّواحِي اثنتي عشرة سنة، ثم وقَعُوا به، فأحضَرُوه إلى الحجَّاج، فقال: يا شقيَّ بن كُسَير- يعني: ما أنت سعيد بن جُبَير- أمَا قدمت الكوفة وليس يؤمُّ بها إلاَّ عربيٌّ فجعلتُك إمامًا؟! قال: بلى، قال: أمَا وليتُك القَضاءَ، فضجَّ أهلُ الكوفة وقالوا: لا يَصلُح للقَضاءِ إلاَّ عربيٌّ، فاستَقضَيْت أبا بردة بن أبي موسى وأمَرتُه ألاَّ يَقطَع أمرًا دونَك؟! قال: بلى، قال: أمَا جَعلتُك في سُمَّارِي، وكلُّهم رؤوسُ العرب؟! قال: بلى، قال: أمَا أعطَيْتُك مائة ألف تُفرِّقها على أهل الحاجة؟! قال: بلى، قال: فما أخرَجَك عليَّ؟! قال: بَيْعةٌ كانَتْ في عنقي لابن الأشعَث، فغَضِبَ الحجاج وقال: أمَا كانتْ بَيْعة أمير المؤمنين في عُنقِك من قبلُ؟! يا حرسي، اضرب عنقه، فضرب عنقه- رحمه الله.
وتعرض الإمام أبو حنيفة النُّعمان، إمام المذهب الحنفي، إلى فتنةٍ شديدة فصبر عليها؛ فقد روى يحيى بن عبد الحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يَخرُج كلَّ يومٍ- أو قال: بين الأيَّام- فيُضرَب ليدخل في القَضاء فيأبى، ولقد بكَى في بعض الأيَّام، فلمَّا أُطلِق قال لي: كان غمُّ والدتي أشدَّ عليَّ من الضَّرب.
وصبر الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- على محنته. قال محمد بن جرير: كان مالك قد ضرب بالسياط على يد أبي جعفر الذي نهى مالكا عن الحديث: “ليس على مستكره طلاق”، وهو أن طلاق المكره ليس بشيء؛ لأنه يقاس على ذلك أن بيعة المكره ليست بشيء، فلو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية. وعن فضل بن زياد القطان قال: سألت أحمد بن حنبل من ضرب مالك بن أنس؟ قال: ضربه بعض الولاة لا أدري من هو، إنما ضربه في طلاق المكره، كان لا يجيزه فضربه لذلك.
وصبر الإمام الشافعي على محنته، حينما أوشى به بعض الحاقدين عند الخليفة الرشيد، واتهاموه بقيادة تنظيم شيعي في اليمن يهدف إلى قلب نظام حكم الخليفة، الأمر الذي ما نمى إلى مسامع الرشيد حتى أمر على الفور بالقبض على الشافعيِّ وكلّ من ورد اسمه في وشاية الكذاب مطرف بن مازن، وذلك في سنة 183 هجرية، حيث حُمل الشافعي ومن معه مُكبَّلين بالحديد والأغلال من اليمن إلى مدينة الرقة في شمال بلاد العراق حيث مقرُّ إقامة الخليفة العباسي.
ومِحنَة الإمام أحمد بن حنبل، فيها من الأهوال والعَظائِم ما تقشعرُّ لها الجُلُود، وذلك حينما أُخذ إلى المأمون ببلاد الروم، وأخذ معه- أيضًا- محمد بن نوح مقيَّدين، ومات المأمون قبل أن يلقاه أحمد، فَرُدَّ أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في أقيادهما، فمات محمد بن نوح في الطريق، وردَّ أحمد إلى بغداد مقيدًا، ودخل على الإمام أحمد بعض حفاظ أهل الحديث بالرقة وهو محبوس، فجعلوا يذاكرونه ما يروى في التقيَّة من الأحاديث، فقال أحمد: “وكيف تصنعون بحديث خباب بن الأرت رضي الله عنه؟! فيئسوا منه”.
وكانت حياة شيخِ الإسلام- ابن تيميَّة- كلُّها مِحَن مستمرَّة؛ منها حينما اشتَكَت الصوفيَّة الأحمديَّة إلى أمير دمشق الأفرم من شيخ الإسلام ابن تيميَّة؛ لكثْرة إنْكاره لبِدَعِهم، فما كان من الوالي إلاَّ أنَّه أمَر بإحضار الشيخ إلى قصره، وطلَب منه أنْ يخفَّ وطأتَه عليهم، وألاَّ يشتدَّ في النَّكِير عليهم، ولكنَّه رفَض بشدَّة وقال بعِزَّة العالِم العامِل: “هذا ما يُمكِن، ولا بُدَّ لكلِّ أحدٍ أنْ يدخُل تحت الكتاب والسنَّة قولاً وعمَلاً، ومَن خرَج عنهما وجَب الإنكارُ عليه”، فأرادَت الأحمديَّة استِخدَام حيلهم المعروفة من اللعب بالحيَّات ودخول النِّيران؛ من أجْل إقناع الوالي والحاضِرين بصحَّة أفعالهم، فأبطَلَ شيخُ الإسلام هذه الحِيَل، وخرَج من هذه المُناظَرة منصورًا مظفرًا، وقد ألزمت الصوفيَّة الأحمديَّة بترْك أحوالهم البدعيَّة وكُتِب محضرٌ بذلك.
والدعاة والمصلحون في كل عصر يسيرون على نهج النبي- صلى الله عليه وسلم- وصحابته والتابعين، فها هو الإمام حسن البنا- رحمه الله- يزور ثلاثة آلاف قرية في مصر من جملة الأربعة آلاف قرية، وكان ينتقل من محافظة إلى أخرى في يوم واحد، بل إنه كان يصلي الظهر في مركز والعصر في آخر بمحافظة أخرى، ولم تذق عيناه طعم النوم إلا ساعات معدودة، كل ذلك من أجل دعوة الناس إلى صحيح الدين بأسلوب يحمل الحب والشفقة عليهم.
ومع ذلك كان الإمام البنا يؤكد أهمية الصبر في حديثه مع إخوانه، فقال لهم: “يا معشر الإخوان ستعتقلون وستصادر أموالكم وتحاربون وتفصلون وتصابون وتبتلون في أهليكم وأعمالكم… فإن كنتم في ذلك فاعلموا أنكم بدأتم تنتهجون طريق الدعوات”.
أجر الدعاة الصابرين
ولا شك أنّ الصبر في حياة الدعاة والمصلحين له أجر عظيم، فالظلم والقهر الذي يتعرضون له في سبيل الله ينالون ثوابه ويأخذون أجره:
- الصابرون أهل الفوز والنجاة، يقول تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].
- الصابرون في معية الله، قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران 14:6].
- يعوض الله تعالى الصابرين خيرا: فعَن مُصعب بْنِ سعد، عَن أَبِيهِ سعد بن أَبي وَقاصِ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَيُّ اَلناسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: اَلآنبِيَاءُ، ثُم الأمثل قالأَمْثَلُ، يُبْتَلَى اَلْعَبْدُ على حَسَبِ دِينِهِ، فَإنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُنبًا اَشتَد بَلأَوهُ، وإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقة أبتُلِيَ على حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ ألبَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتُّىَ يَترُكَهُ يَمشِي على ألأَرضِ، ومَا عَلَيهِ مِن خَطِيئَةِ”. (أحمد والترمذي).
- الصبر سبب تكفير السيئات وزيادة الحسنات: عَنِ النَّبِي- صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: مَا يُصِيبُ الْمسلِمَ مِنْ نَصَب، وَلاَ وَصَب، وَلاَ هَمِّ، وَلاَ حَزن، وَلاَ أَذىً، وَلاَ غَمّ، حَتى الشوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهِ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ” (البُخَارِي ومسلم).
- الصبر سبب لهداية القلوب: فالصبر سبب لهداية القلوب، وزوال قسوتها، وحدوث رقتها، وانكسارها، فكم من غافل رجع إلى ربه عندما أصيب بمرض؟، وكم من لاهٍ أقبل على مولاه عندما أصيب بفقد عزيز؟، يقول سبحانه: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11].
- والصبر على المحن يكشف المؤامرة على الدعوة: سواء من الداخل أو الخارج من أفراد أو كيانات أو دول وأنظمة: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ). [الأنعام:112].
- ثلاث بشائر: وللصابر ثلاث بشائر بشر الله بها فقال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
- تحقق معية الله للصابرين قال تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).
كيف يتحلى الداعية بالصبر؟
وهناك بعض الوسائل التي تُعين الداعية أو المربي على التحلي بالصبر:
- معرفة جزاء الصابرين وما أعده الله لهم من فضل كبير في الدنيا والآخرة.
- إدراك طبيعة طريق الدعوة وأنه محفوف بالمخاطر والتحديات والعوائق وليس الورود والرياحين؛ ولذلك كانت وصية لقمان لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [لقمان: 17].
- الحرص على مراجعة أوراده الإيمانية، وتجديد علاقته بربه؛ قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة: 45].
- مطالعة سير الأنبياء والصالحين والدعاة وما تحلَّوا به من صبر ومصابرة في مواجهة العقبات والتحديات الكبيرة التي اعترضتهم.
- اليقين بوعد الله تعالى حتى لو لم يجد ثمرة دعوته في الحياة؛ فقد قال تعالى خير الدعاة- صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [غافر: 77].
- الإيمان بأنه محاسب على الأخذ بالأسباب وليس عليه إدراك النتائج؛ فقد قال الله تعالى لرسوله الكريم: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص: 56].
- العلم بأن مخالطة الناس بصورة عامة لا تخلو من أذى؛ لذلك قال-صلى الله عليه وسلم-: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم” (أحمد والترمذيُّ).
- الاستعانة بالصحبة الصالحة التي تعينه على الثبات على طريق الدعوة، قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
- اليقين في أنه مأمور بالصبر من الله تعالى وبالله تعالى كما أخبر عز وجل: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل: 127].
إن طريق الحق محفوف بالمِحَن، لكن الدعاة والمرسلين الذين اختارهم الله لهذا الطريق صبروا على ما أوذوا، وضربوا أروع الأمثلة في الثبات على الحق، حتى مع قلة المريدين، والتعرض للإهانة والتعذيب، وترك الديار والأهل، وهم دائمًا يذكرون قول النبي- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس- رضي الله عنه-: “واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا” (الترمذي).
المصادر والمراجع:
- الدكتور نجوغو بن مبكي صمب: وقفات مع قاعدة: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
- خميس السعيد: دروس إيمانية في الأخلاق الإسلامية، ص 89.
- ابن هشام: السيرة، 1/319.
- أبو نعيم: حلية الأولياء، 1/148.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، 1/302.
- أحمد فريد: من أعلام السلف، 9/10.
- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13/327.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان، 2/373.
- ابن كثير: البداية والنهاية، 14/41.
- ابن القيم: الفوائد، ص 54.