لم ينل الشيخ طاهر الجزائري شهرة واسعة مثل أقرانه المصلحين والمجددين، ومنهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، لكن مع ذلك كان من الشخصيات المحورية التي صنعت النهضة واليقظة في البلاد العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتميز بكونه أستاذًا وموجهًا لعددٍ كبيرٍ من الشّخصيات الإصلاحية وبكونه رائدًا في إقامة المؤسسات الثقافية والتعليمية التي استمرت بجهوده ولم تتوقف بوفاته.
لقد كان “الجزائري” عنصرًا مهمًّا في إرساء العمل التربوي والإصلاحي والعلمي ووضْع المقررات المدرسية، وإنتاج مشروع فكري يرتكز على الانتماء لهوية الأمة وعقيدتها، والاعتزاز بتراث الآباء والأجداد مع انفتاح على ما عِند الآخرين، بخلاف غيره من الذين كانت دعوتهم للنهضة نتاج انبهار بحضارة الغُزاة الأوروبيين.
نشأة الشيخ طاهر الجزائري
وُلد الشيخ طاهر بن صالح بن أحمد بن موهوب السمعوني الوغليسي الجزائري، في دمشق ليلة الأربعاء 20 ربيع الأول سنة 1268هـ = 1851م، ووالده هو الشيخ صالح بن أحمد الوغليسي، أحد علماء عصره، وقد تقلد منصب الإفتاء على مذهب الإمام مالك في دمشق بعد قدومه إليها عام 1847م، بعد نفي الأمير عبد القادر الجزائري، ونشأ “طاهر” في دمشق وقضى فيها معظم حياته، وعاش دون أن يتزوج متفرغا للعلم وتحصيله، حيث دَرس على والده مبادئ العلوم العربيّة والشرعيّة، ثمّ التحق بالمدرسة الجقمقية الابتدائية المجاورة للجامع الأموي بدمشق، وفيها تتلمذ على يد علماء مثل الشيخ عبد الرحمن البستاني الذي أخذ عنه العربية والفارسية والتركية إلى جانب لغته الأمازيغية، ثم اتصل بشيخ عصره عبد الغني الغنيمي الميداني وهو فقيه أصولي نظار.
وخلال فترة دراسته وما بعدها، كان حريصا على اغتنام وقته والانتفاع به في طلب العلم ونشره، ما جعله يُدمن على شرب القهوة لتساعده على السهر للمطالعة، وكانت الكتب رفيقه الدائم أينما حل وارتحل، فصار يُشهد له بغزارة العلم تحصيلًا وإنتاجًا.
يقول المؤرخ محمد كرد علي عن “الشيخ طاهر”: “كان متضلعًا في علوم الشريعة، وتاريخ الملل والنحل، منقطع القرين في تاريخ العرب والإسلام، وتراجم رجاله ومناقشات علمائه ومناظراتهم وتآليفهم ومراميهم، وكان إمامًا في علوم اللغة والأدب، وهو هكذا في علوم الشريعة، لا سيما في التفسير والحديث والأصول، إنه خزانة علم متنقلة”.
وتولى “طاهر” التدريس في المدرسة الظاهرية الابتدائية، وشغل عضوية “الجمعية الخيرية” التي تحوّلت إلى “ديوان معارف” في عهد والي الشام مدحت باشا، ثم عُيّن مفتشًا عامًّا على المدارس الابتدائية، وفي عام 1898 عُيّن مفتشًا على دور الكتب العامة.
وبعد صحبته للعديد من العلماء في دمشق وتقلّده لوظائف في قطاع التعليم، برز الشيخ طاهر ناشطا سياسيا ومصلحا تربويا إلى جانب كونه واحدًا من أبرز علماء عصره. ومن خلال عمله في قطاع التعليم أدرك سبب الانحطاط الذي تعاني منه الأمة واختزله في ضعف مناهج التعليم، فعمل على النهوض بالمدارس وتطوير برامجها، وحمّل ما يسميه الاستبداد العثماني المسؤولية عن تردي قطاع التعليم.
في عام 1878 شارك في تأسيس “الجمعية الخيرية”، وهي الأساس الذي قام عليه التعليم الحديث في دمشق، إذ تحولت لاحقا إلى “ديوان المعارف”. وحظيت هذه الجمعية بدعم الوالي التركي في ذلك الوقت مدحت باشا، وفتحت مدارس كثيرة لمواجهة تحدي النشاط التعليمي للإرساليات التبشيرية التي توالت على دمشق حينها.
وأمضى الشيخ أيَّامه الأخيرة في دمشق عاكفًا على المطالعة، والبحث، والدَّعوة إلى العلم، في حين كانت وطأة المرض تشتدُّ عليه، حتى وافته المنية يوم الخامس من يناير عام 1920م، ودُفن في سفح جبل قاسيون حسب وصيَّته.
ملامح الفكر التربوي والإصلاحي عند طاهر الجزائري
وتتمثل ملامح الفكر التربوي والإصلاحي عند الشيخ طاهر الجزائري في نظرته للعقيدة والعلم والعمل على النحو الآتي:
- إصلاح التعليم: فيرى الجزائري أنّ التعليم هو أساس النهضة، وأن إصلاح التعليم هو السبيل الوحيد لتحقيق النهضة العربية، ويدعو إلى إصلاح التعليم عبر المحتوى التعليمي الذي يجب أن يكون متوافقًا مع روح العصر ومتغيراته، وكذلك عبر الطرق والأساليب التعليمية الحديثة والفعالة، والبنية التحتية التعليمية المناسبة والملائمة لاحتياجات الطلاب.
- التعليم الديني: يرى الجزائري أن التعليم الديني مهم لتربية النشء على المبادئ الإسلامية، لذا يدعو إلى الاهتمام به في المدارس، والتأكيد على أهمية القيم الإسلامية في بناء شخصية الفرد.
- أهمية التعليم العام: فهو يرى أن التعليم العام مهم لبناء شخصية الفرد وإعداده للحياة، ويدعو إلى الاهتمام بهذا التعليم في المدارس، والتأكيد على أهمية المهارات والقدرات الأساسية في حياة الفرد.
- ضرورة تعلم العلم مهما كان: فيرى أنه حتى وإن كان الإنسان لا يدرك نفع العلم في العاجل، فعليه أن يتعلم من العلم ما أتيح له، وفي ذلك يقول: “تعلموا ما تيسر لكم تعلمه ولو لغة مالطة، فقد يجيء زمن تحتاجون إليها وإياكم أن تقولوا: إنها لا تدخل في اختصاصنا، فالعلم كله نافع والمرء يتعلم ما حسنت به الحياة”. وحين أثيرت قضية الاقتباس من الغرب كان من رأيه “إن الاقتباس من الأمم المترقية دليل على النباهة لا كما يظن البُله من أن في الاقتباس غضاضة، ونريد بالاقتباس ما يشعر به اللفظ من تلقي الأمور النافعة لا كما يظنه المتكايسون من أن الأمم الراقية ينبغي أن يؤخذ منها كل شيء، حتى أداهم الأمر أن يقلدوهم في الأمور التي يودون هم أن يتخلصوا منها”.
- اعتماد أسلوب الحلقة أو النَّدوة الفكرية: فكان يجتمع بكبار علماء عصره وأبرز مثقفيه، من الشَّباب الطَّامحين إلى الإصلاح والمتطلِّعين إلى العلم، يتدارسون التَّاريخ والتُّراث الفكري الإسلامي، واللُّغة العربية وآدابها، والقيم والأخلاق الإسلامية، وما يمكن أن يساعد على نهضة الأمة من نتاج الغرب الثقافي والفكري.
- الاهتمام بالعلاقة الطيبة مع الطلاب: فقد ربطته علاقة أبوَّة علمية روحية مع طلابه، وكان على رأسهم: محمد سعيد الباني، ومحمد كرد علي، ومحب الدين الخطيب، وأخذ بأيديهم وأحسن توجيههم، وكان له الأثر الأكبر في توجيههم إلى الدَّعوة والإصلاح الاجتماعي، والإقدام على التَّأليف والنَّشر، وتغذيتهم محبَّة الأجداد والكلف بآثارهم والحرص على تراثهم.
- حب السفر من أجل العلم: فقد جاب الشيخ طاهر القرى والمدن السُّورية، وزار لبنان وفلسطين، ومصر، والحجاز، وتركية، وفرنسا، باحثا عن الفائدة، مفتِّشا عن الكتب، حريصا على لقاء العلماء والمتعلِّمين، باذلاً في الوقت نفسه كلَّ ما تحصَّل لديه من علمٍ وخبرة، داعيا إلى كلِّ ما يؤمن به من قيمٍ وأفكار.
- تعلم حرفة: فقد كان يحث على ألا ينتظر أهل العلم منصبا أو وظيفة يعتمدونها في معاشهم بل عليهم أن يتعلموا إلى جانب العلم الحرف التي يحصلون بها العيش الكريم فيقول: تعلموا العلم لله ولفائدة العلم ولذته، وليكن لكل واحد منكم صناعة أو تجارة، أو زراعة تعيشون منها أحرارًا حتى لا تحتاجوا إلى قرع أبواب الملوك والحكومات، فإذا احتاجوكم نادوكم، وإلا فأنتم بما لكم من أسباب المعايش لا تحتاجونهم.
- إصلاح العادات ومحاربة الخرافات: وكان يميز بين عادات مضرة تدفع الناس إلى الإيمان بالخرافة والخمول، وعادات مفيدة ينبغي الحفاظ عليها، وأسلوبه في معالجة ذلك لا يميل إلى التنكيت والشدة، وإنما يستعمل مجرد البيان الدال على حسن العادة أو قبحها.
- المرونة المذهبية: كان الشيخ مسلمًا نقيًا يميل إلى أخذ الدين من مصادره الأولية باجتهاده الخاص دون تقيد بمذهب معين، وكان يحسن ظنه بأئمة المذاهب ويتجهم لمن يجرأُ على النيل من أحدهم، ويعمل بما صح له من الدليل في الكتاب والسنة، و أعطى الحق لبعض علماء الشيعة والإباضية والمعتزلة في مسائل تفردوا بها، ولم يتابعهم فيها أهل السنة.
- التسامح مع أتباع العقائد الدينية: فأقام الشيخ بسوريا دهرا طويلا وهناك أبصر طوائف دينية عديدة تختلف في معتقداتها وأفكارها وعوائدها، وكانت له اتصالات بالأرمن واليهود والكاثوليك والبروتستانت، ويقال أنه جمعته بمطران السريان صداقة وطيدة، وكان الشيخ يغض الطرف على الانتقادات التي يوجها إليه بعض المتعصبين ذاهبا إلى أن رجال الدين هم أقرب الناس إلينا لاعتقادهم بالله واليوم الآخر وخلود النفس.
- وضع تعريف اصطلاحي للعقيدة في العصر الحديث: حيث بدأ الشيخ طاهر كتابه الجواهر الكلامية بتعريف العقيدة، وهذا لأهمية التعريف من الناحية المنهجية، إذ لا يمكن أن يبدأ الإنسان الكلام في موضوع معين دونما التطرق لتعريفه، وهذا ما صارت تركز عليه المناهج الحديثة، ما يدل على أنه هناك مراعاة للجانب المنهجي عنده، وهذا إذا ما قورنت كتابات الشيخ طاهر بغيرها من كتب العقيدة التي ارتبطت بالعمل الإصلاحي كرسالة التوحيد لمحمد عبده، أو العقائد الإسلامية للشيخ عبد الحميد بن باديس.
- النظر العقلي: على الرغم من النزعة الأثرية البادية في كتابات الشيخ طاهر، وفي طريقة عرضه لمسائل العقيدة، وعلى الرغم من إشادته بموقف السلف واعتباره الموقف الأصح، فإنه كان يطرح وجه الحاجة إلى العقل وأشار إلى ثنائية النقل والعقل.
- البعد عن التنظير: مما تميزت به طريقته في عرضه لقضايا العقيدة عرضها بكيفية تعليمية تربوية بعيدة عن الطابع التنظيري الذي تميزت به كتب العقيدة عند الأوائل، فلم نجده يثير مسائل متميزة اجتهد في مناقشتها، بل اكتفى بعرض أصول الإيمان في الجواهر الكلامية.
- التبسيط: مما تميزت به نظرة الشيخ طاهر لتدريس العقيدة أيضا تبسيط مسائلها، وليس هذا الأمر خاصا بعلم العقيدة فقط بل اعتبرت هذه إحدى خواص منهج الشيخ طاهر في تعاطيه مع مسائل العلوم بشكل عام، بل اعتبر من أهم أعماله الإصلاحية فمن “أجلّ أعماله تبسيط العلوم الشرعية، وعرضها على الناشئة بأسلوب جذاب، يدفع العقول إلى التفكير”.
- تجاوز الخلاف: ومن ملامح نظرته أيضا تجاوز الخلاف، فقد عودتنا الدراسات الكلامية حتى التي تقدم في الجامعات الإسلامية أنها في عرضها لأي مسألة من مسائل العقيدة تتعرض إلى آراء الفرق فيها وتبرز أدلة كل فريق إلى درجة أن القارئ يقف على عدة آراء متضاربة لا يقف على علم متكامل، أما ما فعله الشيخ طاهر فقد تجاوز هذه الخلافات المذهبية وقد قدم أصول الاعتقاد كما هي مستوحاة من النصوص دونما خوض في هذه الخلافات.
- ترك التأويل: من ملامح نظرة الشيخ طاهر في تدريس العقيدة ترك التأويل، والدعوة إلى عدم الأخذ به، آخذا في ذلك بمذهب السلف في هذه المسألة معتبراً مذهبهم هو المذهب الحق، وهذه المسألة أخذت بعدا جدليا عند القدامى بين مجيز لها وناهٍ عنها، وبين من وقف موقفا بين ذلك.
مؤلفاته التربوية والدينية واللغوية
وترك الشيخ طاهر الجزائري مؤلفات تربوية ودينية ولغوية عديدة، منها:
- كتاب التربية الإسلامية: الذي يتناول فيه أهمية التعليم الديني والعام والعملي.
- كتاب التربية الوطنية: الذي يتناول فيه أهمية التعليم الوطني في النهضة العربية.
- كتاب التربية الاجتماعية: الذي يتناول فيه أهمية التعليم الاجتماعي في بناء المجتمع.
- التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريقة الإتقان في علوم القرآن.
- توجيه النظر إلى أصول الأثر.
- الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية.
- بديع التلخيص وتخليص البديع.
- أشهر الأمثال في أمثال العرب.
- شرح خطبة الكافي في اللغة.
- تسهيل المجاز إلى فن المعمَّى والألغاز.
- العقود اللآلي في الأسانيد العوالي.
- مبتدأ الخبر في مبادئ علم الأثر.
- مُنيةُ الأذكياء في قصص الأنبياء.
- إتمام الأنس في حدود الفرس.
- إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با.
أخلاقه وصفاته
أما عن شخصية الشيخ طاهر الجزائري فجُل الذين ترجموا له ذكروا أنه اتصف بكل مواصفات الشخصية القوية من حدة ذكاء، وغزارة علم، ورهافة حس، وعلو همة، بالإضافة إلى القوام البدني؛ فاهتموا بمختلف صفاته الخلقية والخلقية على حد سواء.
وكان من عادته في الأربعين سنة الأخيرة من حياته ألا ينام حتى يصلِّي الصُّبح، يسهر مع أصحابه في أوَّل الليل، ثم يعود إلى حجرته في مدرسة عبد الله باشا العظم ليقرأ ويؤلِّف حتى يطلع الفجر.
أما زهده؛ فقد كان الشيخ لا يعرف الرَّفاهية والنَّعيم، ولا يبالي بطيب المطعم، ولين المضجع، وفاخر الأثاث، وكان يرتدي ثيابا بالية من غير تأنُّق ولا زينة.
وكان على درجةٍ رفيعةٍ من الإحساس بالآخرين، يأرق لجاره وصاحبه إن علم أنَّ مصيبةً نزلت بأهله أو ماله، ويهرع لمواساته بكل ما تملكه يداه، ولما أراد له أحد أصحابه في القاهرة خلال الحرب العالمية الأولى أن يغيِّر جبَّته وقد بليت أطرافها، أجابه: يا فلان! تريد مني اقتناء جبة جديدة، وأهل الشَّام يموتون من الجوع؟!
هكذا كان الشيخ طاهر الجزائري من العلماء والتربويين الذين بذلوا جهودا مهمة لتطوير قطاع التعليم، وأثرى المكتبة الإسلامية بكتبه وأفكاره، بالإضافة إلى نشاطاته وأسفاره العديدة التي استفاد منها وأفاد فيها الكثير من طلاب العلم، فكان له دور مهم في الإصلاح والنهضة العربية الإسلامية الحديثة.
المصادر والمراجع:
- خير الدين الزركلي: الأعلام 6/ 165.
- أبو القاسم سعد الله: الحركة الوطنية الجزائرية 2/198.
- الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: توجيه النظر، 1/ 22-23.
- الفارابي: إحصاء العلوم، ص 41.
- ابن خلدون: المقدمة ص462.
- عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني: الوجيزة في العقيدة الإسلامية، ص8.
- الشيخ طاهر الجزائري: الجوهرة الوسطى في قواعد العقائد، ص58.
- محمد كرد علي، المعاصرون الشيخ طاهر الجزائري، ص 670.