ارتبطت حياة الشيخ الشعراوي بالقرآن الكريم واللغة العربية منذ صغره، فكانا محور اهتماماته وأخذا منه جل وقته، فاستطاع بهما الوصول إلى الصغير والكبير والمتعلم والأمي، وربّى أجيالا على خواطر إيمانية بلغة بسيطة جعلت كل مَن يسمعها مشدوهًا لا يقاطع إلا بابتسامة أو النطق بلفظ الجلالة (الله)؛ دليلاً على فهم ما كان غامضًا لديه.
وقد استفاد إمام الدعاة من هذه المَلَكَات في غرس قيم تربوية أهّلته لأن يكون على رأس صفّ التربويين الماهرين. فدائمًا كان يُمرر رسائل تربوية عن تربية الأبناء أو نصائح للمعلم، معتقدًا أنّ تطور الحياة إنما ينشأ من عبقريين مصلحين تأثّروا بما أخذوا، ثمّ حاولوا أن يُؤثروا في غيرهم.
نشأة الشيخ الشعراوي وتعليمه
ولد محمد متولي الشعراوي في 15 أبريل عام 1911م بقرية دقادوس مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، وحفظ القرآن الكريم في الحادية عشرة من عمره، ثمّ التحق بالمعهد الأزهري الابتدائي بالزقازيق، وظهر نبوغه في حفظ الشعر والحِكَم، ولمّا حصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية سنة 1923م، دخل المعهد الثانوي الأزهري، وزاد اهتمامه بالشعر والأدب، وحظي بمكانة خاصة بين زملائه، فاختاروه رئيسًا لاتحاد الطلبة، ورئيسًا لجمعية الأدباء بالزقازيق.
وكانت نقطة التحوّل في حياة الشيخ الشعراوي عندما أراد والده إلحاقه بالأزهر الشريف في القاهرة، وكان الشيخ يودّ أن يبقى مع إخوته لزراعة الأرض، لكن إصرار الوالد دفعه لاصطحابه إلى القاهرة، ودفع المصروفات وتجهيز المكان للسكن.
لعبت البيئة التي نشأة فيها الشعراوي دورًا مهمًّا في تربيته، بجانب انتسابه إلى الأزهر الشريف، حيث كانت نشأته دينية أزهرية، وهذا هو السبب فيما وصل إليه في مجال الدعوة الإسلامية وفي تمكّنه من اللغة العربية.
وفي عام 1937م، التحق الشعراوي بكلية اللغة العربية، وانشغل بالحركة الوطنية لمقاومة المحتلين الإنجليز، ما عرّضه للاعتقال أكثر من مرة، وكان وقتها رئيسًا لاتحاد الطلبة. وفي عام 1940م، حصل على العالمية مع إجازة التدريس عام 1943م، ثم عُيّن في المعهد الديني بطنطا، وانتقل بعد ذلك إلى المعهد الديني بالزقازيق ثم إلى الإسكندرية، وفي عام 1950 انتقل للعمل في السعودية، حيث عمل أستاذًا للشريعة بجامعة أم القرى.
ولمّا حدث خلاف بين عبد الناصر والملك سعود في عام 1963م، مُنع الشعراوي من العودة ثانية إلى السعودية، وعُين في القاهرة مديرًا لمكتب شيخ الأزهر، ثمّ سافر بعد ذلك إلى الجزائر رئيسًا لبعثة الأزهر هناك ومكث بالجزائر نحو سبع سنوات قضاها في التدريس، وفي أثناء وجوده هناك حدثت نكسة يونيو 1967، فسجد شكرًا لله، قائلا: “إن مصر لم تنتصر وهي في أحضان الشيوعية وأن المصريين لم يفتنوا في دينهم”.
وتولى الشعراوي عددًا من المناصب في مصر، حيث اختاره ممدوح سالم رئيس الوزراء آنذاك، وزيرًا للأوقاف في نوفمبر 1976م، فظلّ في الوزارة حتى أكتوبر عام 1978م، كما تولى مناصب أخرى منها، عضوًا في مجلس الشورى 1980م، وفي العام نفسه عُيّن عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية.
رؤية الشيخ الشعراوي في تربية الأبناء
أوصى الشيخ الشعراوي الآباء والأمهات بالاجتهاد في تنشئة الأبناء على التربية الإيمانية والتعليم الإسلامي؛ حتى يرتبط بالإسلام عقيدة وعبادة، ويتصل به منهاجًا ونظامًا، فلا يعرف بعد هذا التوجيه والتربية سوى الإسلام دينًا، وسوى القرآن إمامًا، وسوى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قائدا وقدوة. كما أشار إلى أنّ الدين هو الذي يربط المربي بربه، ويرى أنه لا بُد من أن تنظم حياة الناشئ تنظيمًا يستغرق كل حركة حياته، بحيث لا تفوت حركة من حركاته حياته إلا وهى موصولة بربه.
ويقول الشيخ – رحمه الله-: “يطلب منك الإسلام أن تربي ولدك سبعًا، وأن تؤدبه سبعًا، وأن تصاحبه سبعا، فأما عن سبعة التربية؛ ففيها تربي جسمه وتربي عقله، وإن أخطأ تصوب له خطأه، برحمة ورفق. ثم تأتي سبعة التأديب؛ ففيها الضرب وتصحيح الأخطاء، وبعد ذلك تأتي السبعة المُخيفة؛ أي من سن 14 سنة، فاجعله صاحبًا لك تعتني به دائمًا معك في تحركاتك، تحت إشرافك، فإذا تجاوز الولد سن الحادية والعشرين كنت مطمئنًا له”.
وفسّر الشعراوي قول الله- عز وجل-: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، بأن في هذه الآية منهج التربية العام لجميع الأطفال، حيث إن الوالدين سبب في الإيجاد وهذا يُذكّر بأن الله هو الخالق، كما أنهما يربيان الأولاد، مشيرًا إلى أن التربية لها وقت محدد، وهو في فترة الطفولة التي يُلبّي فيها الصغير الأوامر وما يُطلب منه، على عكس الشاب الذي يعترض ويتكاسل في تلبية المطلوب منه.
وطريقة الإسلام في تربية الفرد- كما يراها الشعراوي- هي تربية شاملة للكائن البشري كله لا تترك منه شيئًا جسمه وعقله وروحة وحياته المادية والمعنوية وكل نشاطه على الأرض، فالإنسان- كما أراده الله- هو سيد على جميع أجناس الكون، خلقه صانع الوجود – سبحانه وتعالي- وجعل له قدرة أن يصنع بعض المصنوعات التى طورت الحياة، ولكنها لا تصل إلى قدرة الخالق العظيم، فصناعة الله بلا حدود بأمره هو “كن فيكون”، ولا أحد من البشر يملك تلك القدرة، ولم يضن الله على الإنسان بأحلى الصفات فقال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ {12} ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ {13} ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ {14}) (المؤمنون: 12: 14).
نصائح تربوية للمعلم والمتعلم
يرى الشيخ الشعراوي أنه لا بُد أن نغرس في نفس المربي أنه كما أخذ خير غيره من تجاربه ومعارفه السابقة، فيجب أن يترك أثرًا يأخذه غيره ممن يأتي بعده، وبذلك لا تفصل ذاتيته عن القديم، لأنه محتاج إليه، ولا عن الجديد لأنه مطلوب منه أن يؤدي إليه، ولو أنّ كل إنسان اتصل بالمجتمع اتصالا أخذ منه دون عطاء له؛ لوقف المجتمع، ولما تطورت الحياة، فتطور الحياة إنما ينشأ من عبقريين مصلحين تأثروا بما أخذوا، ثم حاولوا أن يؤثروا فيما بعد.
والمعلم الناجح هو الذي يلفت أذهان كل التلاميذ لما يقول، وما دامت الأذهان قد التفتت إليه، فلن تمر كلمة دون أن يستوعبها التلاميذ، عكس المدرس غير الناجح الذي يؤدي عمله برتابة وركاكة تصرف عنه التلاميذ.
ويرى الشيخ أنّ التربية ليست معناها أن نسمو بأهل المواهب إلى الأعلى، ولكن أن نأخذ بيد العاجزين حتى نسيرهم إلى مرتبة المواهب، وبذلك يمتاز مربٍ على مربٍ، فالأستاذ مثلاً يحب تلميذًا نجيبًا، لكنه يجب ألا يشعر غير النجيب بأنه يحب النجيب أكثر منه، ولكن عليه أن يعتذر لغير النجيب بأعذار، ولو كانت أعذارا صورية؛ حتى يقتلع من نفسه أنه يحب هذا أكثر منه؛ لأنه إذا استقر في نفسه ذلك فسوف يكون الأستاذ مبغوض التوجيه، ولن يحترمه الموجه.
ويشدد الشعراوي على عدم استعمال العنف في التربية وضرورة أن يحسن المربي الأخذ بيد المتربى من أقصر طريق إلى موقع الحق في أي قضية من القضايا، دون أن يعنفه أو يخجله، ويكون حريصًا على كرامته في المجتمع، ويكفي أن يعلم نفسه أنه قد قصر، لكن لا يعلم غيره أنه هو الذي قصر.
والتلميذ المجتهد هو الذي يقرأ الدّرس بعقلية قادرة على مناقشة ما فيه من أساليب ومعلومات، وهو يستصحب حضور الذهن في أثناء القراءة، أما التلميذ المحقق، فهو الذي يقرأ دون يقظة أو انتباه.
وعن سبب نسيان التلاميذ للمعلومات، يقول الشعراوي: عندما يقذف طفل حجرًا في الماء تتكون دوائر (موجات) مُتحدة المركز حول هذا الحجر، ونجد أنّ الموجات تبدأ قوية حول المركز، ثم تضعف تدريجيًّا إلى أن تنتهي؛ فكذلك التلميذ الذي يكتسب المعلومات، ولا يربطها بروابط من خبرته الحياتية، والبيئة تفقد بسهولة، وينساها.
لذا فإن فضيلة الشيخ يقسم التلاميذ من حيث اكتساب المعلومات إلى عدة أنواع:
- نوع لا يكتسب المعلومات؛ وذلك لأنّ عقله مشغول في أثناء شرح المعلم بأشياء أخرى، وهذا هو التلميذ المخفق دراسيًّا.
- ونوع يكتسب المعلومات ولكنه يفقدها بسرعة؛ لعدم تنظيمها وربطها ببعضها، وكذلك لعدم ربطها بخبرة حياتية.
- وهناك نوع يكتسب المعلومات ويربطها بخبراته الحياتية، ويراجعها باستمرار، ويفقدها ببطء شديد، وهذا هو التلميذ الفاهم للمعلومة.
إذًا، المشكلات وكثرتها وعمل المعاصي تؤدي إلى سوء الحفظ والنسيان وضياع المعلومات، وقد وضع الشيخ خطوات إجرائية لعدم نسيان المعلومات، وهي:
- التهيئة النفسية للتلميذ لتلقي المعلومات.
- التهيئة الذهنية.
- ثمّ المناقشة مع النفس، ومع الغير.
- وأخيرًا، المعلومة، الاقتناع بها أولًا، ثم العمل بها ثانيًا؛ حتى تصبح سلوكًا عاديًّا، ليس فيه كُلفة.
وفاة الشعراوي
تُوفي الشيخ الشعراوي يوم الأربعاء الموافق 17 يونيو 1998م، عن عمر ناهز 87 سنة، وذلك في منزله بمنطقة الهرم بمحافظة الجيزة بعد معاناة طويلة مع عدّة أمراض، ونعاه كثير من العلماء والمفكرين، والأدباء، والسياسيين في مصر والوطن العربي، وشُيّعت جنازته من قريته دقادوس بمحافظة الدقهلية، ودُفن فيها بناءً على وصيته.
المصادر:
- مجموعة من المؤلفين: المعجم الجامع في تراجم العلماء وطلبة العلم المعاصرين، ص 325.
- معالم الفكر التربوي لدى إمام الدعاة الشيخ محمد الشعراوي.
- الشعراوي.. إمام الدعاة وشيخ المفسرين .
- الشعراوي، محمد متولي: خواطر حول بناء الأمة (موسوعة الشعراوي)، جمع وتعليق: محمد عبدالحكيم القاضي، ص 239-240.