المؤلف: حسين بن محمد المهدي
الناشر: اليمن. مكتبة المحامي: أحمد بن محمد المهدي.
يتحدث هذا الكتاب (الشورى في الشريعة الإسلامية.. دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية) عن أهمية الشورى في حياة الأمم والشعوب، وأن أي نظام أو تنظيم ينشد الخير والفلاح ويبحث عن العدالة والمساواة ويتوق إلى العزة والكرامة، ويُحب أن يسود الأمن والاستقرار والرخاء، ويرغب في منع الظلم والتسلط والاستبداد، لا بُد أن تكون الشورى سمته ومنهجه، لأن بها تُكتشف الحقائق ويَنجلي العمى ويستنبط الصواب ويصح الرأي وتتضافر الجهود وتتوزع المسؤولية وتقوى شوكة الأمة.
وبالشورى تُبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، ويحصل النصر وتستمال القلوب، ويتعاون أهلها من أجل بناء الأوطان وعمارة الأرض وإرضاء الرب. وهي من أهم خصائص الأمة الإسلامية والشرائع الربانية، فهي من صفات المؤمنين الموحدين الذين استجابوا لله رب العالمين، قال تعالى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ) [الشورى: 38].
ويشير الكتاب إلى أنّ الشورى في حقيقة الأمر تعني توزيع المسؤولية حتى لا تقع على كاهل فرد واحد، فالجميع يتقاسمون المسؤولية، فلا يتلاوم الناس فيما بينهم ويتنافرون ويتشاجرون، ولا يرمي أحد بالنتيجة على الآخر، وإن كانت النتيجة سيئة، والشورى تعتبر مع ذلك خير وسيلة تدرب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة وتشركه فيه، وبها الوصول للرأي المحمود الذي ينصلح به حال الأمة وتحل به مشاكلها.
الوصف العام للكتاب
يتكون الكتاب من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة؛
- الفصل الأول: لمحة تاريخية عن الشورى.
- الفصل الثاني: تعريف الشورى وبيان مشروعيتها، في النظام الإسلامي.
- الفصل الثالث: الشورى في الأمور العامة، ويشمل الشورى في التشريع والنظام النيابي وفكرة تمثيل الأمة بواسطة نواب عنها.. أساسه وسنده، وصلة المجالس التشريعية (نواب الشعب) بأهل الحل والعقد، ووظائف المجالس التشريعية في الأنظمة الحديثة، والشورى في القضاء والحكم، وما ورد في القرآن الكريم بشأنها، والشورى ومدى إلزاميتها.
- الفصل الرابع والأخير: عن خصوصية الشورى وأهمية تعليمها سواء في الأسرة والمجتمع ومنهجيتها، أو اتخاذها منهجًا تعليميًا.
مقدمة
هذا الكتاب واحد من هذه الجهود الفكرية والاجتهادات العلمية الهادفة إلى البحث بموضوعية عن المميزات الأساسية لنظام الشورى الإسلامي، الذي ظهر في وقت كانت الإنسانية- في الشرق القديم والغرب القديم- تخضع على السواء لأنظمة قاهرة ومدمرة لروح الإنسان وأسلوب حياته، ولا تزال كثير من الشعوب- حتى اليوم- تخضع لأنظمة لا تقل قهرًا وطغيانًا رغم الشعارات واليافطات البراقة وما تحمله من مضامين خاوية على عروشها.
يأتي هذا في حين كان الإسلام- وهو عقيدة وشريعة- قد نجح بوسطيته وعمق رؤيته في وضع جوهر ما تبحث عنه البشرية من تحقيق للعدل والحرية والكرامة، والخلاص من الاستبداد والقهر السياسي من خلال نظام الشورى الذي يضمن حق كل مواطن في أن يكون له رأيه في من يحكمه أو يتولى أمره: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، والآية واضحة جلية المعنى، لا تحتاج إلى تفسيرات فضفاضة أو ضيقة، وهي تخص كل مسلم دون استثناء، وتجعل حق الشورى للجميع دون استثناء أيضًا، ونظامها يختلف عن النظم السياسية السائدة في بعض الشعوب التي توصف بالديمقراطية.
ولقد انشغل السياسيون في العالم الإسلامي على مدى قرن ويزيد في الحديث عن المفهومات المتعارضة بين مصطلحي الشورى والديموقراطية، وسال حبر كثير، وتم استهلاك ما لا يحصى من الورق للتعبير الممل عن ذلك التعارض، وغاب عن الجميع الاسترشاد بما وصل إليه علماؤنا المجتهدون المستنيرون وما وضعوه من حلول مستخلصة من جوهر المعاني لا من ظاهرها، ومن الغاية المؤدية إلى سعادة البشر وسلامة نهجهم الواقعي الحقيقي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين نظام الحكم ومؤسساته والمجتمع الذي يعطيه ولاءه ويعترف بمشروعيته.
الفصل الأول: لمحة تاريخية عن الشورى
ويؤكد المؤلف في هذا الفصل حقيقة جلية لكل العقلاء، وهي أن تداول الرّأي في كل أمر؛ يترتب عليه إصلاح شؤون الأمة أفرادًا وجماعات في شتى مجالات الحياة وعلى مختلف الأصعدة السياسية والثقافية والصحية والاقتصادية والعسكرية… إلخ. ذلك لأن الناس يعيشون في بيئات مختلفة ويكتسبون بمقتضى ذلك خبرات متنوعة ويحملون مواهب متعددة بأفهام متباينة فالإنسان لا يستغني بنفسه عن غيره خاصة في الأمور الهامة والعامة والتي لا بُد فيها من الاستفادة من قرائح ومعارف ومهارات، ولكل عقل ميزة.
ومن طبيعة الشورى أن تتعدد فيها الآراء وتجول فيها الأفكار ويستفاد من عقول الناس وتجربتهم وخبرتهم صواب الرأي وسداده، وأول ما يجري فيه التشاور صلاح الحكم أو عدم صلاحه وهذا أساس في مواجهة الأعداء فإن الحكم الفاسد غير قادر على الصمود في الحرب، ثم بحث الزمان وجو المعركة وجو الطقس وتقلباته، ثم صلاح ميادين المعركة أي طبيعة الأرض وميادين القتال، ثم اختيار القائد المناسب الجدير بالقيادة بسبب كفاءته.
وقد نقل القرآن الكريم بعض نماذج عن أخذ الرأي، من ذلك قصة ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلام وما حكى الله عنها حينما ألقى الهدهد كتاب سليمان إليها في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ*) [النمل: 29 – 31]، وكتاب سليمان عليه السلام واضح الدلالة في الدعوة إلى عبادة الله والإذعان للحق سبحانه وتعالى بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة والإسلام، وأن بلقيس دعت الملأ من قومها، وهم أشراف الناس من قومها ووجوه القوم وأهل الرأي، ذكر ذلك ابن جرير وغيره من أئمة التفسير.
وهذه القصة تفيد وجود التشاور بين الحاكم والمحكومين في العصور القديمة فقد أبانت الآية أن ملكة سبأ كانت هي وقومها وثنيون يعبدون الشمس، ولكنها مع ذلك بادرت إلى الاستشارة ولم تستفرد بالرأي دونهم، دل على ذلك ما حكاه الله عنها حيث تقول: (مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)، ونقل القرطبي عن قتادة قوله: ذُكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وهم أهل مشاورتها كل رجل منهم على عشرة آلاف.
ونقل القرآن مشاورة ملك مصر في شأن رؤيا رآها فقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، وقد طلب الملك الرأي من الملأ في تفسير هذه الرؤيا لكونها متعلقة بمصير الأمة.
وهناك نموذج آخر حكاه القرآن الكريم عن فرعون حين جاءه موسى يدعوه إلى توحيد الله (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) والآية واضحة الدلالة في طلب الرأي من قبل الملأ غير أن ما يلاحظ عليه هو أن فرعون كان لديه نزعة استبدادية إذ أنه أبدى لهم رأيه في شأن موسى وأنه ساحر وأن موسى يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره فكأنه حرضهم عليه، ومع ذلك فقد كان في جواب قوم فرعون ما يدل على استجابتهم لطلب المشورة وأخذ فرعون بها دل على ذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه: (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ).
وهناك أمثلة كثيرة حكاها الله في أخذ المستبدين كقصة النمرود وغيره، ولقد جاء الإسلام فأراد هدم الاستبداد السياسي من أساسه، فها هو رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (عرض علي أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فيه، وفقير فخور) [1]؛ فالأول يمثل الاستبداد السياسي والثاني يمثل الطغيان المالي والثالث وهو الفقير الفخور يمثل خدم النظامين من الاتباع الذين يمشون في ركاب الكبراء والأغنياء المترفين إنهم صعاليك ولكنهم يفخرون بسادتهم الذين التحقوا بهم.
الفصل الثاني: تعريف الشورى وبيان مشروعيتها
وذكر المؤلف في هذا الفصل، مفهوم الشورى في اللغة، وهي الأمر الذي يُتشاور فيه، قال الراغب: التشاور والمشاورة والمشورة: استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شُرْتُ العسل إذا اتخذته من موضعه واستخرجته منه، وشرت العسل وأشرته: أخرجته، وفي اللسان: عن ثعلب: أن شار الدابة يشورها شورًا وشِوارًا وشوّرها وأشارها، كل ذلك: راضها أو ركبها عند العرض على مشتريها، وقيل: عرضها للبيع، وقيل: بلاها ينظر ما عندها، وقيل: قلبها، والتشوير: أن تشور الدابة تنظر كيف مشوارها أي كيف سيرتها.
وفي الاصطلاح هي طلب الرأي من أهله، وإجالة النظر فيه، وصولاً إلى الرأي الموافق للصواب. وقد عرفها الباحثون بتعاريف عدة ومنها تعريف الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس، إذ يقول: الشورى: تعني تقليب الآراء المختلفة ووجهات النظر المطروحة في قضية من القضايا واختبارها من أصحاب العقول والأفهام حتى يتوصل إلى الصواب منها أو إلى أصوبها وأحسنها ليعمل به لكي تتحقق أحسن النتائج.
هذه التعاريف وغيرها، تدور حول استنباط الرأي واستخراجه من أجل تحقيق هذه الغاية التي تحقق للأمة المؤمنة ما ينصلح به حالها ويستقيم به نظام الفرد والمجتمع والدولة، فالشورى ليست إلا جزءًا من منهاج الله الذي لا تستقيم أمور الناس بدونه، والذي جاء ليعالج واقع الإنسانية في شتى مجالات الحياة، وبممارسة الشورى يكون الإنسان قد أدى مسؤوليته وأمانته التي يحاسب عليها في الدنيا والآخرة، ومن العلماء من يرى أن الشورى تكون عامة في كل رأي والمشورة تكون خاصة في الرأي الملزم، وأن هناك فرقاً بين الشورى والمشورة، وفي ذلك يقول الدكتور محمود الخالدي: إذا ما نظرنا بدقة في النصوص التفصيلية الواردة في الشورى نجد أن مدلول كلمة الشورى يختلف عن مدلول كلمة المشورة، إذ تعني الشورى أخذ الرأي مطلقاً ما كان ملزماً لرئيس الدولة وما لم يكن ملزماً، سواءً الذي يرجح فيه قوة الدليل كالأمور التشريعية وما يرجح فيه جانب الصواب كالأمور الفنية والفكرية فجاء التعبير فيها عاماً في كل الأمور.
وأما المشورة فقد وردت في النصوص على أنها أخذ الرأي الملزم لرئيس الدولة فقط، والدليل على أن المشورة أخص من الشورى وأنها أخذ الرأي الملزم فقط أنها وردت في الحديث للدلالة على أخذ الرأي الملزم فقط في قول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبداً)، وفي لفظ: (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما).
وشمل الفصل على مبحث ثانٍ عن مشروعية الشورى في النظام الإسلامي، حيث هو منهج رباني وليست من نافلة القول، فقد أعلمنا الحق تبارك وتعالى أن الشورى في النظام الإسلامي دين يجب الأخذ به، فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
ذكر القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية عن العلماء أن الله أمر نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم- بهذه الأوامر التي هي تدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم فيما له في خاصته عليهم من تبعه، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة أيضًا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور.
الفصل الثالث: الشورى في الأمور العامة
وبدأ هذا الفصل بمبحث عنونه “الشورى في التشريع”، فالمعلوم أن الله- سبحانه وتعالى- خلق الإنسان لعبادته وتوحيده، ولذلك فقد استخلفه الله لعمارة الأرض، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود:61]، أي جعلكم عمَّارها وأناط بكم إدارة شؤون الحياة فيها وفق منهج الله تعالى، وذلك مما يتطلب سن التشريعات والقوانين فيما لم يرد فيه نص، فكان لا بد من توفر العلم والفهم والدراية والتشاور والتناصح، ومقتضى ذلك أنه لا بد من رد الأمور إلى أهل العلم والمعرفة والدراية بها امتثالاً للتوجيهات الربانية بقوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
ومفهوم التشريع في الفقه الإسلامي يعني قيام المجتهدين باستنباط الأحكام من المصدرين الأساسيين القرآن والسنة، ومما أرشد إليه من مصادر أخرى كالإجماع والقياس والعرف والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع.
ومن المقرر في الفقه الإسلامي أن عمل المجتهدين في مجال النصوص القرآنية والنبوية مقيد بحدود التفسير والتوضيح والتطبيق، أي أن عملهم يكون في فهم النصوص استشرافًا للمقاصد التي شرعت النصوص من أجلها وفي تطبيق هذه النصوص تحقيقًا لمقاصد الشريعة التي توخاها المشرع غايات للنصوص.
وأما عملهم فيما لا نص فيه، فيتمثل في استنباط الأحكام المحققة للمصلحة المعتبرة شرعًا معتمدين في ذلك على الأدلة التي أرشدهم وأحالهم إليها الشارع الحكيم، وإذًا لا بد في اختيار المجالس التشريعية ممن تتوفر فيهم الصلاحية والقدرة على القيام بالعمل التشريعي، وبدون ذلك لا يتحقق المطلوب من هذه المجالس إلا أن يختار لهم هيئات استشارية متخصصة يستشيرونها ويقيمون التشريع على أساس ما تتوصل إليه تلك الهيئات. وإذا كان من المقرر في الفقه الإسلامي أن الاجتهاد يكون فردياً ويكون جماعياً، فإن الاجتهاد الفردي يعتبر حقاً لكل مسلم توفرت فيه شروط الاجتهاد.
وقد مارس هذا الحق عدد كبير من الصحابة وكانت لهم اجتهادات فردية في كثير من المسائل التي جدت عليهم، كما مارسه عدد من الفقهاء الذين جاءوا بعد عصر الصحابة حيث كانت لهم اجتهادات فردية في كثير من المسائل، ولا زالت الاجتهادات تمارس من قبل المجتهدين حتى عصرنا هذا، إلا أن هذه الاجتهادات ليست ملزمة للكافة لأن المجتهدين لا يملكون فيها السلطة التي تملك حق وضع الاجتهاد موضع التنفيذ.
وفي عصرنا هذا لا يوجد ما يمنع من اختيار مجالس تشريعية من قبل ولاة الأمر أو انتخابها لتقوم ببحث المسائل المتجددة في الحياة بقصد استنباط الحكم الشرعي لها سواءً أكانت هذه المسائل اقتصادية أم اجتماعية أم غير ذلك مما تعالج شؤون الحياة وتعنى بتنظيمها فيما ليس فيه نص، وإصدارها بشكل قوانين، إذ ليس هناك مانع شرعي من ذلك، حتى وإن كان اصطلاح السلطة التشريعية بشكلها المعروف اليوم في النظم المعاصرة غير موجود في العصر النبوي أو عصر الصحابة وإن كان العمل الذي يقوم به الصحابة في عصر الخلفاء الراشدين على نحو ما سلف الإشارة إليه يعطي نفس المدلول لكلمة السلطة التشريعية في المفهوم الحديث.
ويتبين من ممارسات أهل الشورى في عصر الصحابة رضوان الله عليهم أن يكون من مهام مجالس الشورى وأهل الشورى التشريع واختيار الحاكم، غير أنه يشترط أن تتوافر في المشير شروطٌ يكون بموجبها أهلاً لأن يمثل الأمة فيما يسند إليه من مهام، فالأمة هي المعنية بوضع الضوابط والقيود والصلاحيات التي تخول لهذه المجالس بحيث لا تتجاوز النصوص الشرعية، أي أنها مقيدة بنصوص الشريعة وضوابطها.
وإذا ما نظرنا إلى النظم المعاصرة الديمقراطية وما يوكل فيها من صلاحيات إلى البرلمانات فسنجد حينئذ أن أوجه التشابه بينها وبين تلك النظم الديمقراطية تتقارب إذا ما أردنا قيامها على أساس الشورى وفقاً للنظام الإسلامي والمنهاج الرباني الذي يقوم على أساس من القسط والعدل.
والأساس الذي يجب أن تبنى عليه مجالس الشورى، إن كان النظام الإسلامي قد جعل الشورى قاعدة وأساساً من أسس نظام الحكم إذ يقول الحق سبحانه وتعالى مبيناً لذلك في سورة الشورى: (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَأهم يُنْفِقُونَ)، فكلمة وأمرهم شورى بينهم تشير إلى كل ما تحتاج البشرية إلى أن تتشاور فيه.
ويتضح أن رؤساء الناس من العلماء في شتى المجالات وأفاضل المسلمين وأهل الاجتهاد والعدالة والأشراف والأعيان وأصحاب الاعتبار والتدبير هم من أطلق عليهم أهل الحل والعقد ومنهم تم اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عرفوا بأهل الشورى، ولكن ليس باعتبارهم هيئة تشريعية وإنما هيئة ناخبين للخليفة، وفي القصة ما يستدل به على جواز التمثيل النيابي. أما إطلاق أهل الحل والعقد على أهل الاجتهاد فهو من قبيل إطلاق الكل على الجزء ولهذا فإن الفقهاء قد اشترطوا شروطاً يجب توافرها في أهل الحل والعقد، فمنطق الحال يقتضي أن يكون جميع أهل الحل والعقد أو أكثرهم ممن لهم إلمام تام بالشريعة الإسلامية إذ الشورى مقيدة بألا تخرج على نصوص الشريعة القطعية ولا روحها التشريعية.
ومن أهم القواعد الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي هو احترام مبدأ الشورى في الشؤون العامة ومن ذلك الشورى في الحرب فهي ضرورة لاستجماع الرأي، فإشراك الأمة في أمور الحرب أدعى إلى اجتماعها ووحدة الكلمة، ففي غزوة بدر الكبرى بعد أن علم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- خبر قريش ومسيرهم إليه ليمنعوا عيرهم استشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال: وأحسن، ثم قام المقداد بن عمر فقال: يا رسول الله امضِ إلى ما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خيراً، ودعا له، ثم قال: (أشيروا علي أيها الناس) -وإنما يريد الأنصار- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسِر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم- بقول سعد ونشطه بذلك، ثم قال: (سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين).
ولم تكن الشورى في الحرب والسلم مقصورة على أيام الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- وإنما كان الخلفاء يستشيرون في ذلك، وكان أبو بكر- رضي الله عنه- ينصح أمراءه وقادته بأن لا يبرموا أمراً حتى يتشاوروا، فقد ورد في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد حين وجهه لحرب المرتدين قوله: واستشر من معك من أكابر أصحاب الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- فإن الله تبارك وتعالى موفقك بمشورتهم.
ولا شك أن الشورى واحدة من المبادئ التي يقوم عليها نظام الحكم، وأمر بها الشارع سبحانه وتعالى لتكون أداة لتقويم الفكر وتدعيم الرأي ووحدة الصف واحترام العقل الذي زود الله به الإنسان وفضله على كثير مما خلق من خلقه تفضيلاً، والشورى يمكن أن تتوحد بها الصفوف فتتوحد الأمة حتى تكون كالبنان أو كالبنيان يشد بعضه بعضاً، فهي التي تجسد مبدأ الأخوة الإيمانية التي هي جزء من عقيدة الإنسان المسلم الذي جاءت من عند الله وليست أمراً يقره أحد أو يرفضه، وإنما جاءت من السماء بأمر من عند الله: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فهي بلا شك تجسد مبدأ الأخوة الإنسانية وتحافظ على رابطة الأخوة الإيمانية.
الفصل الرابع: خصوصية الشورى وأهمية تعليمها
ويتضمن هذا الفصل مبحثًا بعنوان “الشورى في الأسرة والمجتمع ومنهجيتها”، فإذا كانت الشورى تعني عدم الانفراد بالتصرف قبل معرفة ما يقدم الإنسان عليه في أي أمر من الأمور وهي بطبيعتها تستلزم حصول المناقشة في الأمر والحوار فيه وتبادل وجهات النظر حوله والعناية به حتى تظهر المصلحة من خلال الحوار الذي يكون من نتائجه الاستفادة من مزايا القرائح لأنّ لكل عقل مزية إذ إن من طبيعة الشورى أن تتعدد الآراء وتجول فيه الخواطر والأفكار فيتذكر كل واحد من المستشارين نتاج خاطرته وفكره ثم يعرض على المستشير ما لديه من علم وتجربة وخبرة؛ فإن من خصوصية الشورى أنها نظام يشمل جميع مناحي الحياة.
والمستشير يستفيد من ثمرات العقول حسن التصرف وحسن التدبير وحسن التخطيط، فالشورى حوار ومناقشة، وبحث عن الصواب؛ وأمان من الضلال، وبحث عن المصلحة، ومحاسبة وشكوى واستيضاح واقتراح والشورى تدعو إلى التأني في الأمور وإلى الحزم وإلى الدراسة وإلى العلم وإلى رد الأمور إلى نصابها، وتبعث الإنسان وتحثه على أداء الأمانات إلى أهلها، فأضعف الرأي كما قيل ما سمح للبديهة ابتداءً وأقربه إلى الصواب ما تكررت فيه الفكرة وأحكمت فيه الروية.
ويأتي المبحث الثاني بعنوان تعليم الشورى واتخاذها منهجا تعليمياً، فإذا كان العلم هو الوسيلة الوحيدة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلم إلى العدل ومن القطيعة والجفاء إلى المحبة والإخاء ومن التقاطع والتدابر إلى التناصح والتشاور فإن التربية السياسية التي تعني إيجاد مواطنين صالحين يعرفون ربهم ويعرفون مجتمعهم ويعرفون واجباتهم فيؤدونها من تلقاء أنفسهم طاعة لله عز وجل ورجاء رضوانه والحصول على ثوابه في الآخرة من أهم الواجبات؛ فإنه مما لا شك فيه أن المواطن الصالح هو الذي يسعى للحصول على حقوقه بالوسائل المشروعة، وبدون العلم والتعليم لمفهوم الشورى في الأسرة والمدرسة وتربية النشء على السياسة الشوروية الإسلامية لا يمكن أن تكتمل حلقة البناء الأخلاقي وتكون الفوضى هي التي تسود ويحل محل الاجتماع التفكك، وتستطيع حينئذ العصبية السياسية أو التسلط السياسي القضاء على أخلاقيات المجتمع ويتمكن من إذلالهم.
أما إذا كان البيت والشارع والمسجد والمدرسة يقومون بتأدية دور التعليم للمفاهيم الإسلامية والإنسانية ولمفهوم الشورى التي جاءت به الشريعة الإسلامية وصارت صفة ملازمة لأهل الإيمان فإن الأسرة والمدرسة والمسجد في مثل هذه الحالة سيُخرِجون مواطنين صالحين رضعوا الشورى منذ الصغر وتدربوا على التعاون على البر والتقوى، فالبيت المسلم يشكل ركيزة التربية الإسلامية الأولى، وهو المسؤول الأول عن تكوين المواطن الصالح، فالمتأمل في البيت المعاصر يجده صورة مصغرة للمجتمع المعاصر، فكثيراً ما يسود القهر والاستبداد والظلم ويحصل الصراع بين الرجل والمرأة على القوامة.
الخاتمة
لقد أشار المؤلف من خلال الكتاب إلى:
- أهمية الشورى وأساس مشروعيتها والتطبيقات العملية لها في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفي حياة الخلفاء الراشدين.
- نماذج عملية عن الشورى في جميع مجالات الحياة مما يتبين معه أن أي عمل مشترك بين الجماعات إذا ما أردنا له النجاح فإنه لا بُد وأن يقوم على مشاورة العقلاء وذوي الكفاءات والخبرات المتنوعة في الإدارة والسياسة والأمور الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وكل ما يحتاج الإنسان في حياته في شتى المجالات.
- من أهم فوائد الشورى في مجراها الشرعي هو إصابة الحق في غالب أحوالها إذا عرضت بحرية تامة وأدلى كل مشير برأيه وحجته وكانت نيته صحيحة وهدفه الوصول إلى الحق، ومهما تجرد المستشارون عن الأهواء والغرائز والدوافع السيئة مع التوكل على الله فإنه لا شك بأن العواقب ستكون حميدة وسديدة بإذن الله.
- في الشورى الاقتداء بنصوص الوحي وعمل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- وسلف هذه الأمة، كما أن في تركها كل البلاء فضلاً عن فقد صفة من صفات المؤمنين.
- ترك الشورى يفضي إلى اعتساف الأمور والوقوع في الخطأ وعدم الاستفادة من آراء الآخرين وخبراتهم، وكل ذلك يفضي إلى الجفاء والتقاطع والتسلط والاستبداد.
- الشورى وممارستها يعد من أسمى آيات الحضارات وأجلها لما فيها من الخير والنفع للكافة أفراداً وجماعات، فهي في الأمور الخاصة تقرب من السداد وتظهر المصلحة وتقود إلى الصواب، ولهذا أمر الله بالتشاور حتى في فطام الطفل.
- تمثل عملًا سياسيًا ضروريًا لنجاح الدولة في تدبير شؤون الأمة، وقد رأينا كيف كان الرسول- صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتشاور مع أصحابه فيما لا نص فيه، وكيف كان الخلفاء يتشاورون، فهي بحق تشكل منهجًا حيوياً يتوقف عليه انتصار الحق في المجتمع والتزام السداد في شؤونه.
- والشورى تُوحّد الكلمة الذي يرتب اتحاد الأمة واجتماعها ولم شملها بسد منافذ الخلاف الذي يؤدي إلى القطيعة بالشورى، فالخلاف إذا نشأ عن اجتهاد وإرادة حق لا ضرر فيه، وبالشورى تتقارب وجهات النظر ويتفق الناس أو يعذر بعضهم بعضًا فيما يختلفون فيه ويتعاون الراعي والرعية على البر وعمل الخير ويكونون بذلك كالبنان أو كالبنيان يشدُ بعضهُ بعضاً.
- ترك الشورى يسن سنة سيئة للحكام المتلاحقين؛ لأن من يأتي جديدًا إن وجد السبيل للتشاور سلك المسلك نفسه وإن وجده مقفلاً وميسراً للاستبداد فلا يصعبن عليه ركوبه وإنما يرضى لنفسه ويغضب لها وليس لله.