رغم ما يتميّز به العصر الحديث من تقدّم هائل في تكنولوجيا الاتصال، أفرزته العقول العملاقة المبدعة، ستظل الشاشة الصماء ضمن أهم أسباب تفكك الأسر والمجتمعات، حيث تتسارع وقع خطى الأيام، وتتسابق لحظات المرء، نحو ساعات يشبه بعضها بعضًا، وتشتد غفلة الإنسان مع متطلبات شؤونه الحياتية، فلا يفيق إلا بعد ما طويت مراحل من عُمره مهمة، فيندم عندئذ ندمًا كبيرًا، ويتمنى أن لو أيقظه موقظ أو صرخ في وجهه ناصح.
وفي بحثٍ أعدّه (عبده دسوقي) عن أثر وخطورة هذه الشاشة التي يقعد خلفها الملايين من البشر، حاول من خلاله تناول الآثار التي تتركها، وأسبابها، وطرق علاجها، ليستفيد من ذلك القائمون على التربية في المجتمع، خصوصًا أولياء الأمور، والأزواج والزوجات، والمربين في الميادين المختلفة.
التقوى تحمي من خطر الشاشة الصماء
إنّ التربية على التقوى والخوف من الله – عز وجل- سياج أساسي لحماية الأسرة والمجتمع من خطر الشاشة الصماء والتكنولوجيا الحديثة؛ لأن حياة القلوب هي من أهم عوامل التربية الحقيقية للإنسان، التي من أجلها يستطيع أن يرسم الإنسان طريقه، ويحدد غايته وأهدافه، لذا لا بُد من تفاعل التربية مع قلب الإنسان لتجعل منه شخصا ربانيًّا، حتى تستطيع أركان القلب أن تستقيم مع استقامة البيوت التي أصبحت أركانها تهتز بعنف مما يحدث فيها من غربة.
والأسرة المسلمة هي المحيط الحيوي الذي يجري من خلاله توارث القيم الدينية بين الأجيال. لذلك صارت الأسرة المسلمة الآن هي بؤرة الاستهداف ونقطة الاختراق، وبصورة مباشرة مؤثرة، وقد تحول المخطط التخريبي ذا الوجه الإصلاحي الخادع إلى تغيير شريعة الأسرة بصكوك دولية.
ولقد اهتمَّ الإسلام بالأسرة والبيت المسلم؛ لأنها نواة المجتمع الإسلامي، والمحضن التربوي الأصيل، والخليَّة الأولى التي يَفتح الطفل عيناه عليها؛ وفيها تعيش الأسرة جزءًا كبيرًا من حياتها.
فإذا صلحَت الأسرة صلح المجتمع الإسلامي؛ ولذا يجِب الاعتناء بالبيت المسلم بتهيئته لحياة سعيدة، يملؤها الإيمان والمحبَّة، وجعله مسجدًا للعبادة، ومعهدًا للعلم، وملتقًى للفرح والسعادة.
ولقد اعتنى الإسلام بالأسرة منذ بدء تكوينها، فوضع الأسس والقواعد التي يعتلي عليها البناء الشَّامخ القوي الذي لا يهتز أمامَ رياح المشاكل، وعواصف الأزمات.
وما من زواجٍ يبنى على طاعة الله ولو افتقر إلى معظم مقومات نجاحه، إلا ويتولى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، وما من زواجٍ يبنى على معصية الله ولو توافرت له كل أسباب النجاح، إلا ويتولى الشيطان التفريق بينهما.
لهذا قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
فقواعد البيت المسلم التي قام عليها هي السكن والمودة والرحمة وهي نعم وهبات يهبها الله لعبادة ويثبتهم عليهم إذا أحسنوا استعمالها، وتزول عنهم إذا أساؤا التصرف فيها.
وجعل الله تعالى البيوت سكنا يأوي إليها أهلُها، تطمئنُّ فيها النفوس، وتأمن فيها الحرمات، وتستر فيها الأعراض، ويتربَّى في كنفها الأجيال، وهو -سبحانه وتعالى- يريد بذلك من البيوت أن تكون قلاعَ خير ومحبة ووئام، وحصون بر وحنان وأمان، وديارَ خير وفضيلة وإحسان.
لمبة حمراء أمام الشاشة الصماء
انطلقت لمبات حمراء تضرب في جنبات البيوت معلنة بصراخها العالي جرس إنذار، محذرة من عوامل الهدم التي تنخر فيها والتي للأسف أدت إلى انهيار العديد من هذه البيوت وتزحف لالتهام البقية بسبب انتشار وتوغل داء الغربة الذي انتشر في البيوت بسبب ما خلفه فضاء خيالي هو فضاء التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية والاختباء خلف الشاشة الصماء بالساعات.
فترى الزوج والزوجة في الغرفة نفسها ويُمكن على الأريكة ذاتها، لكن كل منهما مشغول إما (باللاب توب) أو (الموبايل)، يتصفح الإنترنت وتستوقفه الرسائل والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، هذا هو المشهد الآن داخل البيوت بعد اقتحام عالم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي مجتمعاتنا، فبدلا من أن تثار النقاشات والقضايا ويبدأ كل طرف في سرد تفاصيل يومه للآخر، أصبح الصمت هو سيد الموقف وتوفير الوقت والمجهود للهواتف ومواقع التواصل مع الآخرين هو الهدف الأعظم والأسمى من التواصل فيما بينهما، ويقال: إن وسائل التواصل ألغت التواصل.
حتى وصل الحال بمن يقول: “النقاش بيني وبين زوجتي على أي تفاصيل في حياتنا عادة ما ينتهي بالنزاع والخناق، في حين أنني أجد سعادتي بمتابعة أصدقائي والتويتات الخاصة بهم”.
وللأسف، الكثير من النساء بتن يكشفن أمورهن المنزلية وحياتهن الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، فتقوم بتصوير كل شيء في بيتها، ومتى غضبت من زوجها، ومتى آخر مشكلة مع حماتها أو قريباتها؟!.
إن سلبيات الشاشة الصماء وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي باتت تطغى على إيجابياته، نظرًا لسوء استخدام الأفراد لها، فنتج عنها أضرار صحية ونفسية واجتماعية وغربة منزلية.
مظاهر وسلبيات خطيرة
يشير الدكتور محمد بن عبد العزيز، الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود، إلى أنّ هذه الوسائل والتطبيقات والجلوس خلف الشاشة الصماء بالساعات، تحمل نذر الخلافات لمَن يسمح لها بالاستحواذ على حياته، من جهة كونها تشغل الشخص عن شريك حياته، سيّما حينما يدمن عليها ويقضي فيها وقتًا طويلًا ينافس الوقت الذي ينبغي أن يقضيه الزوجان مع بعضهما، مضيفًا أنه قد يجد أحد الزوجين في تلك الوسائل مهربًا من قضاء الوقت مع الطرف الآخر بسبب وجود بعض المشكلات في التحاور وتبادل الرأي، ما يوسع الهوة بينهما بدلًا من السعي للتقارب وإزالة أسباب الخلاف.
لقد أصبح عدم توفر الإنترنت أو تعذر الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي سببا من أسباب الإحباط والضيق لدى الأفراد، ينعكس على تصرفاتهم مما زاد من رقعة الغربة.
كما أنه يُؤدى إلى انسحاب الإنسان عن المجتمع المحيط به، وعزلته عن محيطه، ثمّ إصابته بالاكتئاب وأحيانًا الكذب واللامبالاة فضلًا عن انخفاض المستوى الدراسي، وبخاصةً للطلاب.
وساهمت مواقع التواصل في ظهور سلوكيات ومصطلحات تبدو غريبة على مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وأصبح من السهل على الرجال والنساء التحدث إلى بعضهم البعض بلا حواجز أو وسائط أو خشية من أحد.
إضافة إلى قطع الأرحام؛ حيث إن الإسلام حثّ على صلة التراحم والتزاور لكن هذه الوسائل الجديدة قطعت أواصر هذه العلاقات واكتفى كل إنسان بإرسال رسالة SMS أو إيميل أو بوست أو تغريدة.
الانعزال الشعوري عن المجتمع القريب؛ للاندماج مع المجتمع الافتراضيّ البعيد، فنجد الواحد أحيانًا وفي حضرة ضيوفه منشغلًا مع أصدقائه على (فيسبوك) على حساب واجب الضيافة.
وتحوّلت المنازل إلى ما يُشبه الفنادق بالنسبة إلى الأبناء الذين لم يعتادوا على وقت اجتماع عائلي، ولم يعد هناك قوانين داخل المنزل لتنظيم هذه الأمور. وساعد على ذلك أنّ غالبية الأسر تحكمها عواطف التدليل المبالغ فيها، ولم يعتد الأبناء على نظام أسري يكرس وقتًا للحديث والحوار مع الوالدين، كما أن دخول الحياة المادية من أوسع أبوابها جعل العلاقات الاجتماعية بين الجيران وزملاء العمل تقوم على الشكّ والتنافس.
ومن المظاهر السلبية، نشر ثقافة الانحلال الخلقي والفساد؛ لأنَّ هذه الوسائل، سيَّما (فيس بوك) عبارة عن مجتمع مفتوح، أمام كل الثقافات التي من ضمنها ما يتعلق بترويج قيم الفساد والانحلال.
كما يستغلها البعض في نشر الرذيلة بين الناس، والتشهير والفضيحة والابتزاز.
وربما نظرنا إلى السلبيات السابقة وما تحمله هذه المواقع بين طياتها من سلبيات قاتلة ربما نشعر بها، لكن هناك سلبيات خفية ربما تغزوك أو تسرقك دون أن تشعر بها وتقوم وأنت لا تدري كم مضى، ومنها:
- عدم شعور بعض المستخدمين بالمسؤولية.
- ظهور لغة جديدة بين الشباب بين العربية والإنجليزية (لغة الفرانكو) من شأنها أن تسهم في ضعف لغتنا العربية وإضاعة هويتها.
- انعدام الخصوصية الذي يؤدي إلى أضرار معنوية ونفسية ومادية.
- كثرة الإشاعات والمبالغة في نقل الأحداث.
- بعض النقاشات التي تبتعد عن الاحترام المتبادل وعدم تقبل الرأي الآخر.
- إضاعة الوقت في التنقل بين الصفحات والملفات دون فائدة.
- تصفح المواقع يؤدي إلى عزل الشباب والمراهقين عن واقعهم الأسري وعن مشاركتهم في الفعاليات التي يقيمها المجتمع.
كبسولة علاج
لكل داء دواء.. هذا من نواميس الكون لكن إذا أحسنّا التوكل على الله وتوفرت القناعة لدى الأطراف كافة بأن لكل استخدام إيجابيات وسلبيات، حيث يمكن علاج المكوث أمام الشاشة الصماء واستخدام التكنولوجيا الحديثة، وذلك على النحو التالي:
- العمل على وضع ضوابط لاستخدام (فيس بوك) تكون متناسبة مع الشريعة الإسلامية والعادات والتقاليد.
- توفير مساحات حوار بناء داخل الأسرة، حيث إن البعض يلجأ إلى الحوار على العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي، نظرًا لعدم إمكانية حديثه مع الأهل والفضفضة لهم لعدم وجود مساحة ووقت للأهل.
- ليس ذلك فحسب، بل يجب التقليل من قضاء الأوقات في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الإفراط في استخدامها يؤدي إلى الشعور بعدم الاكتفاء الزوجي؛ الأمر الذي قد يزيد وتيرة المشكلات ويرفع من احتمالات الطلاق الأزواج والإدمان لدى الجميع.
- لا بُد من أن يراعي كلا الزوجين شريكه، ويحرص على نزع فتيل أي شك أو استياء بإعادة بث روح الثقة، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بتقليص حجم وأهمية هذه الوسائط في حياتنا أولًا، ثم بالالتزام بالضوابط الشرعية والحياء ثانيًا.
- الخوف من الله – عز وجل- واستحضار رقابته في كل لحظة ودقيقة يكون فيها الإنسان متصلًا بالشبكة، مؤكدًا ضرورة وضوح الهدف من الدخول والمشاركة والالتزام بالضوابط الشرعية.
- التعرف إلى مدى تأثير (فيس بوك) على المجتمعات.
- الدعوة إلى إنشاء مجموعات شباب تتبنى قضايا اجتماعية وثقافية هادفة على مواقع التواصل الاجتماعي لتبادل المعرفة وتعميم الفائدة.
لقد صرخ بها الدكتور فيل – الطبيب النفسي الأمريكي الشهير- حينما قال: “اعملوا على استعادة التواصل بين الأشخاص الحقيقيين”.. فهل من مجيب؟!
سلاح ذو حدّين
وكما لها أضرار واضحة، فلا شك أنّ للشاشة الصماء فوائدها الواضحة، خصوصًا التطبيقات التي يُمكن الاستفادة منها عن طريقها مثل (فيس بوك) الذي بات اليوم وسيلة إرشادية وتوجيهية، وبخاصة إذا أحسنّا استخدامه، حيث يمكننا استغلال العدد الهائل من المشتركين فيه لإطلاق حملات التوعية والتوجيه.
فضلا عن أنها وسيلة تربوية، نستطيع من خلالها تسليط الضوء على الآفات الاجتماعية كالتدخين والمخدرات والانحرافات وغيرها، عبر تخصيص صفحات إرشادية علمية تتناول مثل تلك المواضيع.
كما أنها تعمل على تعزيز الأواصر بين الناس، وفتح المجال لهم لإيجاد فرص تواصل وإنشاء علاقات اجتماعية واسعة.
لقد أدى التطور المتسارع لوسائل الإعلام والاتصال إلى إحداث ثورة حقيقية وتغيرات جوهرية مست جميع مجالات الحياة، وبدأت آثار هذه التغيرات على مستوى الجماعات والأفراد ليس على المستوى المحلي فقط بل تعدى ذلك إلى المستوى العالمي. محدثة ظواهر جديدة وتأثيرات مباشرة على مختلف التنظيمات والبنى الاجتماعية.
وقد ساهم في كل ذلك ما بات يعرف بشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت وسيلة الاتصال المؤثرة في الأحداث اليومية بحيث أتاحت الفرصة للجميع شبابًا، وسياسيين، وباحثين لنقل أفكارهم ومناقشة قضاياهم السياسية والاجتماعية وما يرغبون في نقله متجاوزين في ذلك الحدود الطبيعية إلى فضاءات جديدة قليلة الرقابة عليها. وحتى الحكومات والمنظمات غير الحكومية أصبحت تستعمل هذه الشبكات من أجل إيصال أفكارها وتحقيق أهدافها المختلفة.
للمزيد:
- محمد منير حجاب، نظريات الاتصال، ط1، القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع، 2010.
- أثر مواقع التواصل الاجتماعي على العلاقات الأسرية، الباحثة أمل معروف، دمشق، 2015.
- أروى الموسى، تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع، كلية المعرفة للعلوم و التقنية، مادة مهارات الاتصال، 2013م- 1435هـ.
- عماد إبراهيم، أثر استخدام الفيس بوك على طلبة الجامعة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة عين شمس، القاهرة، 2009م.