جاء الإسلام ليحترم الفطرة الخالصة ويكبح الأهواء الجامحة ويُقيم السدود في وجهها، من خلال السلوك الأخلاقي الذي يدعم تلك الفطرة السليمة المدركة في أعماقها أنّ لها ربًّا خالقًا لا تشعر بالأمان الكامل إلا في الإيواء إليه والخضوع بين يديه؛ ومن ثم كانت العبادات بمفهومها الشامل هي الوسيلة الأسمى لتحقيق الطمأنينة والاستقرار للنفس الإنسانية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28].
وللعبادات الإسلامية عظيم الأثر في تهذيب النفس وتقويم الخلق؛ فالمسلم الذي يتطهر للصلاة ظاهريًّا وباطنيًّا ويقف بين يدي الله خمس مرات على الأقل كل يوم، حتمًا سيظهر أثر هذه الصلاة على سلوكه في صورة خُلُق حسن ومعاملة طيبة للناس جميعًا، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45].
معنى السلوك الأخلاقي وأنواعه
ويُمكننا أن نُشير إلى مفهوم السلوك الأخلاقي من خلال التعرف إلى معنى السلوك منفردًا، ثمّ التعرف إلى مفهوم الأخلاق، وذلك أنّ السلوك هو أعمال الإنسان الإرادية، المتجهة نحو غاية معينة مقصودة تهدف إلى تحقيق مطالب جسدية أو نفسية أو روحية أو فكرية سواء كان ذلك لمصلحة الفرد أو المجتمع، كما أنّ السلوك، هو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، فيُقال فلان حسن السلوك أو سيئ السلوك.
أمّا الخُلُق، فهو حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروية، فالعلاقة بين السلوك والخلق هي علاقة الأثر بالمؤثر.
والسلوك عمل إرادي كقول الصدق والكذب والكرم والبخل ونحو ذلك، والأخلاق شیء يتصل بباطن الإنسان، ولا بُد من مظهر يدل على هذه الصّفة النّفسية وهذا المظهر هو السلوك؛ فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق؛ فنحن نحكم من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق وعنوانه فإذا كان حسنًا دل على خُلُق حَسن وإن كان سیئًّا دل على خُلُق قبيح؛ فكما أنّ الشجرة تعرف بالثمر فكذلك الخلق الطيب يُعرف بالأعمال الطيبة.
والسلوك نوعان: الأول: خلقي وهو ما كان نابعًا عن صفة نفسية، قابل للمدح أو الذم كإعطاء الفقير، والإنفاق في وجوه الخير، حال كونه نابعًا عن جود وکرم، وكذلك الإقدام دفاعًا عن الحق وإزهاقا للباطل حال كونه نابعا عن شجاعة. فهذه صفات حميدة لأنها من فضائل الأخلاق فآثارها تابعة لها في الحكم عليها بأنها حميدة، وكالإمساك والتقتير عن بخل وشح، والفرار من ساحة الجهاد بالنفس أو بالكلمة عن جبن وخوف، فهذه صفات ذميمة.
روی ابن ماجه عن أبی سعید الخدري – رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يحقِرنَّ أحدُكم نفسَه، قالوا يا رسولَ اللهِ وكيف يحقرُ أحدُنا نفسَه، قال: يرى أنَّ عليه مقالًا ثمَّ لا يقولُ فيه، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ: ما منعك أن تقولَ كذا وكذا؟ فيقولُ: خشيةَ النّاسِ، فيقولُ: فإيّاي كنتَ أحقَّ أن تَخشى”.
النوع الثاني: سلوك إرادی غير خلقي ومنه:
1- ما هو استجابة لغريزة جسدية كالأكل المباح عن جوع والشرب المباح عن ظمأ، أو استجابة لغريزة نفسية كقراءة قصة إرضاء لغريزة حب الاستطلاع وجمع المال بالطرق المشروعة إرضاء لغريزة حب التملك.
۲ – ما هو استجابة لترجيح فكري ترى أن المصلحة في هذا وذاك.
٣- ما هو من قبيل الآداب الشخصية والاجتماعية من هذا السلوك کآداب الطعام والشراب واللباس وإصلاح مظاهر الجسد.
4 – ما هو من قبيل طاعة الأوامر: قد يكون هذا السلوك طاعة لله ورسوله له كالحرص على السواك عند الصلاة والحرص على الحضور في الصف الأول في الجماعة لما روى عنه أنه قال: “لولا أن أشُقَّ على المؤمنين لأمرتُهم بالسِّواكِ عند كلِّ صلاةٍ”، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ورغم أنّ السلوك لا يصبح خلقا إلا إذا أصبح سجيّة وعادة أو اتجاهًا راسخًا في النفس، فإنه حتى بعد أن يصل إلى هذه المرتبة يكون قابلا للتغيير والتعديل والتطوير والانتقال من حالة إلى أخرى عن طريق التربية والتوجيه والتدريب والرياضة الخُلُقية والروحية، أو عن طريق الإلهام والنفث في الروع اللذين يأتيان من عند الله من غير حيلة أو اجتهاد من الشخص.
السلوك الأخلاقي والغاية من الالتزام به
إنّ الغاية من التأكيد على السلوك الأخلاقي والالتزام به تقوم على عنصرين:
1- اکتساب مرضاة الله وابتغاء ثوابه في كل عمل وفي كل حركاته وسكناته كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:22].
۲- تحقيق السعادة في ظروف الحياة الدنيا للفرد والجماعة، والنجاة من الشقاوة التي تجلبها الجرائم والانحرافات، ولا شك أنّ تحقيق العنصر الأول تحقيق بالتبعية لكثير من الآمال والأماني الاجتماعية والفردية، والقرآن في كثير من آياته قد عدّد المقاصد التي تتحقق لمَن نال مرضاة الله.
ففي الأمن والطمأنينة يقول المولى -سبحانه وتعالى- : {…أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]، وفي العافية والرخاء يقول – جل وعلا-: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96].
والسعادة مرهونة بضوابط سلوك الإنسان، وأهم الضوابط وأقواها مراقبة الله، والإخلاص له سبحانه وتعالی.
ويقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ المُسْلِمَ المسدِّدَ ليدرِكُ درجةَ الصَّوّامِ القوّامِ بآياتِ اللَّهِ بِحُسنِ خلقِهِ وَكَرمِ ضَريبتِهِ”، رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما- بسند صحيح، وهذا الحديث يدل على مدى ارتباط الخُلُق بالعبادة بل اعتباره من أرقی درجات العبادة.
والخُلُق يمثل روح الإسلام وحقيقته ونظامه، فهو رمز العقيدة، والاستقامة مظهر الإيمان، والسلوك النظيف ثمرة الاستقامة.
عوامل تكون الخلق
وهناك عوامل كثيرة تؤثر في تكون السلوك الأخلاقي إيجابًا أو سلبًا ومن أهم هذه العوامل:
أولا: العادة: يتكون الخُلُق بالممارسة والاعتياد وبكثرة تكرار الفعل والمواظبة عليه، فمثلا لا يُسمى الشخص شجاعًا لمجرد ظهور الشجاعة عليه في بعض الأحوال، بل لا بُد من الممارسة الطويلة لهذا السلوك حتى يسمى خُلُقا.
ثانيا: عامل الوراثة وهو انتقال صفات الأصل إلى الفرع والوراثة ليست فقط للصفات الحسية بل والصفات العقلية كالذكاء والشجاعة والعطاء إلى غير ذلك.
ثالثا: البيئة وهي كل ما يُحيط بالإنسان من مظاهر الحياة الاجتماعية والطبيعية.
ويراد بالبيئة الاجتماعية ذلك الوسط المحيط بالإنسان في حياته كلها من البيت إلى المدرسة إلى العمل وما يحيط به من أجهزة وثقافة وتوجيه.
ويكفي دليلا على ما للبيئة من أثر في حياة الناس وسلوكهم قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “كلُّ مولودٍ يولَدُ على الملَّةِ فأبواهُ يُهَوِّدانِهِ أو ينصِّرانِهِ أو يشرِّكانِهِ”، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه.
فالطفل عند مولده ونشأته تتنازعه قوتان: فطرة تأخذ بيده إلى الحق، وبيئة فاسدة تشده إلى الضلال والانحراف والتهلكة؛ فالبيئة عامة موجهًا لسلوك الأفراد وميولهم وتعديل غرائزهم ونزعاتهم متضافرة في ذلك مع أوساط التربية الثلاثة: المنزل، والمدرسة، والمجتمع.
أمّا البيئة الطبيعية فهي ما يحيط بالإنسان من مناخ وأرض، فالذين يعيشون في بلادٍ حارة تختلف أخلاقهم عن الذين يعيشون في المناطق الباردة، لذلك يقول ابن خلدون: “وإن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من الحضر”.
وخلاصة القول، فإن البيئة والوراثة والعادة عوامل مهمة في تكوين أخلاق الإنسان، فالوراثة تمده بالغزائز والميول والاستعدادات، والبيئة تهيئ لهذه الغرائز الجوّ المناسب لتميل بها نحو الخير أو الشر ومع هذا لا بُد من الممارسة والاعتياد حتى يتحول الفعل إلى عادة يصعب تركها.
مراحل تكون الخلق
وحتى يتكون السلوك الأخلاقي لا بُد من أن يمر بخمس مراحل هي:
- خاطر: وهو حديث النفس بأي أمر تميل إليه.
- الميل: وهو توجه الإنسان لخاطر من خواطره يتصوره، ويدرك الغرض منه والغاية المترتبة عليه، وإذا تغلب میل على ميول أخرى صار هذا الميل رغبة.
- والرغبة: هي تغلب ميل على بقية الميول في النفس الإنسانية، فإذا فكر الإنسان في هذه الرغبة ودرسها، وعزم عليها صارت هذه الرغبة إرادة.
- والإرادة: هي صفة النفس التي تخصص رغبة من الرغبات التي مالت إليها النفس لكي تتحقق وتوجد، فإذا ما تكررت الإرادة صارت عادة.
- والعادة: هي الإرادة التي تتكرر وتصدر عن حالة راسخة وهي الخلق.
المصادر:
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة 2004م.
- أبو بكر الجزائري: منهاج المسلم، دار الفكر، دمشق 1976م.
- إيمان عبد المؤمن: الأخلاق في الإسلام.. النظرية والتطبيق، مكتبة الرشد، الرياض 1424هـ.
- محمد الغزالي: خلق المسلم، دار الريان للتراث، القاهرة 1987م.