إن الرجاء في الله من أعمال القلوب الجليلة التي تبعث على العمل والجد وحسن الظن بالله، وهو الأمل وعدم اليأس، والتوقع لمَا فيه خير ونفع، وبه يتعلق القلب بحصول محبوب مرغوب مستقبلا، والإنسان بلا أمل أو رجاء يضيق في وجهه كلّ واسع، ويبعد كلّ قريب، ويعسر كلّ ميسور.
وتكمن عظمة هذا العمل القلبي، في أن من أيقن أنَّ الله- سبحانه تعالى- هو الإله وحده لا شريك له، مالك ناصية العذاب، ومالك مفاتيح الجِنان؛ رجاه بما يحبُّ وصولاً إلى رضاه عنه، ومتى علم أنَّ الله- تعالى- فرض عليه فرائض لا بُدَّ من أنْ يُؤدِّيها، وأمره بأوامر ونهاه بنواهٍ، ثمَّ خالفها؛ رجاه بما يحبُّ وصولاً إلى غُفرانه، ومتى علم أنَّ الله -سبحانه- غفور يُحبُّ العفو والغفران، وأنَّ الإنسان مَحلٌّ للأخطاء والزَّلَل؛ رجاه كيْ يُقيمه على طريقه في الدنيا، ويُدخلك جنَّته في الآخرة.
الرجاء في الله.. مفهوم وتأصيل شرعي
ويُمكن شرح مفهوم الرجاء في الله من خلال أقوال اللغويين وعلماء الاصطلاح، إذ يأتي المعنى اللغوي من أصل مادة (رجا) التي تدل على الأمل، وهو نقيض اليأس، يقال: رجا يرجو. وقد يجيئ الرجاء بمعنى: الخوف، ومنه قوله تعالى: (مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13] أي: تخافون عظمة الله.
وقال الراغب الأصفهاني عن المعنى الاصطلاحي: إن الرّجاء ظنّ يقتضي حصول ما فيه مسرّة. وعرفه الكفوي بأنه: الطمع فيما يمكن حصوله، ويرادفه الأمل، وعند الجرجاني هو تعلق القلب بمحصول محبوب في المستقبل. وعرَّفه الغزالي بقوله: حالةٌ إيمانية، يرتاح القلب فيها لانتظار ما هو محبوبٌ عنده.
وقد ورد ذكر الرّجاء في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، منها الخوف والخشية في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13]، والطمع في رحمة الله؛ في قوله تعالى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) [الإسراء: 57]، وتوقع الثواب؛ في قوله تعالى: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ) [النساء: 104].
وجاء بمعنى الطرف؛ وذلك في قوله تعالى: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) [الحاقة: 17]، وبمعنى الترك والتأخير؛ وذلك في قوله: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ) [الأحزاب: 51].
وإذا كان الرجاء فضيلة كبرى في ميدان مكارم الأخلاق، فإنّ ضده هو القنوط أو اليأس، ولذلك نهى القرآن عن اليأس أو القنوط فقال تعالى: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) [الحجر: 55-56].
وقال- جل وعلا-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر: 53). وقال سبحانه: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
وحثّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأمته جميعًا على الالتزام بعمل الرجاء، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ” (رواه مسلم).
وعن جابر- رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول- قبل موته بثلاث-: “لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِن الظنَّ بربه” (مسلم). وفي الصحيحين عنه- صلى الله عليه وسلم-: “يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء”.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما-: “أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَلا قَوْلَ اللَّهِ- عز وجل- فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} الآيَةَ، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى؛ فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلا نَسُوءُكَ” (مسلم).
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: “قال الله تعالى: يا بنَ آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلَغتْ ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتَني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرة”؛ (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).
وورد عن أنس- رضي الله عنه- “أنَّ نَبِيَّ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-، ومُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ علَى الرَّحْلِ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: يا مُعاذُ قالَ: لَبَّيْكَ رَسولَ اللهِ وسَعْدَيْكَ، قالَ: ما مِن عَبْدٍ يَشْهَدُ أنَّ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ إلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ علَى النَّارِ، قالَ: يا رَسولَ اللهِ، أفَلا أُخْبِرُ بها الناس فَيَسْتَبْشِرُوا، قالَ: إذًا يَتَّكِلُوا، فأخْبَرَ بها مُعاذُ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا” (مسلم).
وحرص الصحابة والتابعين على الرجاء في المولى سبحانه وتعالى، فعن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أنه قال: “قرأتُ القرآن من أوّله إلى آخره فلم أَرَ فيه آية أرجى وأحسن من قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر: 3]، فقَدَّم غفران الذّنوب على قبول التوبة، وفي هذا إشارة للمؤمنين”.
وجاء عن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي نعوده، فذهب بعضهم يرجِّيه، فقال: أنا أرجو ربي، وقد صمت له ثمانين رمضانًا”[3]، فكانوا يرجُّونه عند الموت، وكما ذكرنا: أن هذا الذي عليه عامة السلف، من تغليب جانب الرجاء على جانب الخوف في حال الاحتضار، وذلك لقول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه” (مسلم).
وقال معاذ بن معاذ: ما رأيت رجلاً أعظم رجاء لأهل الإسلام من ابن عون، لقد ذُكر عنده الحجاج وأنا شاهد، فقيل: يزعمون أنك تستغفر له؟ فقال: مالي أستغفر للحجاج من بين الناس، وما بيني وبينه؟، وما كنت أبالي أن أستغفر له الساعة”، يعني يقول: إن رحمة الله أوسع من أن نضيقها عن الحجاج.
وذكر ابن القيم -رحمه الله-: “كلما كان العبد حَسن الظَّن بالله، حَسن الرَّجاء له، صادق التوكُّل عليه: فإنَّ الله لا يخيِّب أمله فيه البتَّة؛ فإنَّه سبحانه لا يخيِّب أمل آملٍ، ولا يضيِّع عمل عاملٍ”.
ثمرات الرجاء في الله
وإذا كان الرجاء في الله في محله وعلى وجهه الصحيح يُثمر ثمراتٍ عظيمةً؛ فمن فضائله وثمراته ما يلي:
- إظهار العبودية والافتقار إلى الله، والحاجة إلى ما يرجوه من ربّه، ويتطلع إليه من إحسانه، وأنّه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
- إنّ الله سبحانه يحب من عباده أن يرجوه ويسألوه من فضله، لأنّه الملك الواسع الجود والعطاء، وهو أجود من سُئل، وأوسع من أعطى، وأحب شيء إلى الجواد أن يسأله السائلون ويرجوه الراجون.
- يوجب لصاحبه المزيد من معرفة صفات الله وأسمائه الحسنى، فيتعلق بها ويدعوه بها، كما قال الحقّ جلّ جلاله: (وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف: 180].
- إنّ الله تبارك وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته، من الذل والانكسار، والتوكّل والاستعانة، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضى والإنابة، وغيرها.
- الرجاء حاد يحدو الراجي في مسيرته إلى ربّه، ويحثه عليها، فلولا الرجاء ما سار أحد، فإنّ الخوف وحده لا يحرك العبد، وإنما يحرّكه الحب، ويزعجه الخوف، ويحدوه الرجاء.
- يضع صاحبه على عتبة الحب، ويدخله ساحته، فكلما اشتد رجاء العبد، وحصل له ما يرجوه، ازداد حباً لله تعالى، ورضى عنه، وشكراً له.
- هو الذي يبلغ بصاحبه المقام الأعلى: مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية، فإذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.
- في الرجاء انتظار وترقب وتوقع لفضل الله، وهذا يجعل القلب متعلقاً على الدوام بذكر الله، موصول الالتفات إليه، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن كان معه سعد وفاز. اللّهمّ لا تحرمنا نعمة الرجاء فيك، والأمل في كرمك وفضلك.
كيف نحقق الرجاء؟
ويتحقق الرجاء في الله بأمور نذكر منها ما يلي:
- ذكر سوابق فضلِ الله علينا جميعًا في خلقنا، وتسخير ما في الكون لنا، وهدايتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وسائر نعمه علينا في الدين والدنيا، بدون استحقاق منا.
- ذكر وعد الله تعالى من جزيل ثوابه، وعظيم كرمه وجوده لمن استقام، وآيات الوعد كثيرة؛ منها قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
- أن الله عز وجل فتح باب الرجاء لعباده في مغفرةِ أي ذنب، فقال سبحانه: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
- ذكر سَعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، وهو الرحمن الرحيم، الرؤوف بعباده المؤمنين، ﴿قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: 12].
- ذكر نعم الله علينا في الحال (الآن) من غير سؤال منا.
- تبدر آيات القرآن الكريم وهذه حال الأبرار المقتصدين، فنجد الواحد منهم يناجي ربه بكلامه، “معطياً لكل آية حظها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد، والآيات التى فيها الأَسماءُ والصفات، والآيات التي تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإِحسانه إِليهم، وتطيب له السير آيات الرجاءِ والرحمة وسعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادى الذى يطيب له السير ويهونه [عليه]، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإِحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه”.
- تحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة، توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء الصفات، وهذا هو السبب الذي من أجله ينزل الفرج على أهل الكروب.
- مدافعة العبد اليأس والقنوط من قلبه، لأن حصول اليأس في قلب الإنسان أمر قد يغلبه.
فالرجاء هو الاستبشار بجود الله وفضله، والارتياح لمطالعة كرمه ومنته، فيعمل المؤمن العمل ويرجو القبول من الله، وإذا أذنب الذنب تاب ورجا التوبة وقبولها من الله.. فاللهم إنا نسألك حبك، وخوفك ورجاءك.
المصادر والمراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة، 2/494.
- الأزهري: تهذيب اللغة، 11/124.
- الجوهري: الصحاح، 6/2352.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 346.
- الكفوي: الكليات، ص 468.
- الغزالي: إحياء علوم الدين، 4/180.
- القرطبي: تفسير القرطبي 10/ 322.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 367.
- أبو نعيم: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 4/ 192.
- ابن القيم: طريق الهجرتين، 1/459.