بقلم: محمد حامد عليوة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فأيام قلائل ويهل علينا هلال شهر ذي الحجة، وبه يحل علينا موسم من مواسم الخيرات المتجددة، هذا الشهر الميمون المبارك الذي يزخر بفريضة من أعظم فرائض الدين، وهي فريضة الحج بمناسكها ومواقفها الإيمانية والتعبدية، وبمعانيها في التضحية والفداء والجهاد والمجاهدة.
وحياة المسلم تمتاز دائما بأنها زاخرةٌ بالأعمال الصالحة، والعبادات المشروعة التي تجعل المسلم في عبادةٍ مُستمرةٍ، وطاعة دائمة، وعملٍ صالحٍ، وسعيٍ دؤوبٍ إلى الله عز وجل، دونما كللٍ أو مللٍ أو فتورٍ أو انقطاع. والمعنى أن حياة الإنسان المسلم يجب أن تكون كلَّها عبادةٌ وطاعةٌ وعملٌ صالحٌ يُقربه من الله تعالى.
وها نحن نتعرض لنفحة من نفحات الله فى أيام دهره وهى أيام العشر من ذى الحجة. عَنْ مُحَمَّدِ ابن مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا». رواه الطبراني في الكبير.
والتعرض لنفحات رحمة الله يكون بكثرة والسؤال في هذه الأوقات الفاضلة باعتبارها أوقات إجابة، كما أنها فرصة للتقرب إلى الله تعالى بصنوف العبادة التي ينال بها العبد الأجر وشرف القرب من ربه سبحانه وتعالى.
فضل الأيام العشر من ذي الحجة
وردت أحاديث كثيرة توضح فضل هذه الأيام منها، ما أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ».
وفي رواية عند الطبراني في الكبير: «مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ». وفي رواية عند الدارمي: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْراً مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى».
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم قد استقر عندهم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعظم الأعمال، فقد سألوا النبي ﷺ عن العمل الصالح في هذه الأيام هل يسبق في الأجر والدرجة تلك الفريضة الكريمة السامية؟ فبيّن النبي ﷺ أن الجهاد لا يسبق العمل الصالح في هذه الأيام إلا في حالة واحدة، وهي أن يخرج المجاهد بماله ونفسه فينال الشهادة ويفقد المال ولا يرجع بشيء.
حاجتنا للربانية
إن الأمة تمر فى أيام ذي الحجة بمخاض يبشر بميلاد فجر جديد لها، تشرق فيه شمس عزتها وكرامتها، الأمر الذي يوجب علينا مزيدا من الربانية وحسن الصلة بالله، حتى نُؤهل أنفسنا لاستحقاق نصر الله عز وجل وتأييده. بمعنى أننا بشكل عام وفي هذه المرحلة بشكل خاص نحتاج إلى مزيد من القرب إلى الله، والاستعانة به سبحانه، والتذلل إليه فهو المستعان وعليه التكلان، نستمد منه سبحانه زاد المسير إليه، نقبل عليه بقلوبنا وجوارحنا.
وعندئذ وعلى طريق العبادة نقوى على قيادة الناس إلى الله، مستمدين القوة من خالقنا سبحانه، القيادة الربانية التي نتمثل فيها القدوة، ونتعبد بها لخالقنا سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (سورة الحج: 41).
واجبات عملية لتقوية الربانية خلال العشر من ذي الحجة
من هذا المنطلق نعرض مجموعة من الأعمال والبرامج العملية يقوم بها المسلم خلال أيام ذي الحجة المباركات، ويدعو غيره للعمل بها، فيتسع نطاق الطاعة ويُقبل الناس على الله فى هذه الأيام المباركة، عندها تتنزل رحمات الله علينا وعلى بلادنا وأهلينا:
– الاستعداد لها واستحضار النية الصالحة للاجتهاد فى الطاعة خلالها، وقبل ذلك التوجه إلى الله عز وجل بالتوبة النصوح، والإنابة لله سبحانه بأن يطهر القلب ويغفر الذنب ويقبل التوب.
– الحرص على صلاة الجماعة في وقتها خلال هذه الأيام ولاسيما فى المسجد مع الحرص على تكبيرة الإحرام، ثم الحفاظ على السنن الراتبة قبل وبعد الصلوات المفروضة (12 ركعة). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «مَا تَوَطَّنَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ الْمَسَاجِدَ لِلصَّلاَةِ وَالذِّكْرِ إِلاَّ تَبَشْبَشَ اللَّهُ لَهُ كَمَا يَتَبَشْبَشُ أَهْلُ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ» رواه ابن ماجة.
– المحافظة على صلاة النوافل يومياً ولاسيما (الضحى – الوتر – قيام الليل). ففى الحديث القدسي، قال رسول الله ﷺ فيما بلغ عن ربه سبحانه: «مَن عادى لي وليِّاً فقد آذنتُه بالحرب، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أَحبَّ إليَّ مما افترضتُهُ عليه، وما يزال عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه؛ فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يَسمعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويَدَهُ التي يَبطِشُ بها، ورِجْلَه التي يَمشِي بها، وإنْ سألني لأُعطِيَنَّه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنَّه».
– الاجتهاد فى ختم القرآن تلاوة بحد أدنى مرة واحدة خلال أيام ذي الحجة الطيبة (بمعدل 3 أجزاء يومياً). والأحاديث في فضائل تلاوة القرآن كثيرة، منها: عن أُمَامَةَ الْبَاهِلِي رضي الله عنه قال: سمعت رسول ﷺ يقول: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ». رواه مسلم. وما رواه عبدُ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: أنَّ النبي ﷺ قال: «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألف لام ميم حرف، ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ». رواه الترمذي.
– صيام ما تيسر لك من عشر ذي الحجة المباركات، بحد أدنى الإثنين والخميس ويوم عرفة، ومن قدره الله على صيامها جميعاً واجتهد فى ذلك، فأجره على الله وذلك من فضل الله عليه. فمن أفضلِ نوافلِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله عبادةَ الصيامِ، قال ﷺ: «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» (رواه البخاري ومسلم).
كما ورد في فضل صيام يوم عرفة (التاسع من ذى الحجة) لغير الحجاج، قول رسول الله ﷺ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ.. » (رواه مسلم).
– المداومة على الذكر والدعاء خلال هذه الأيام، ولا سيما المحافظة على أذكار الصباح والمساء، والحرص على أذكار الأحوال، وختام الصلاة، وذكر الله المطلق (1000 ذكر يومياً كحد أدنى)، موزعاً بين إستغفار وتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، مع الإكثار من الصلاة على النبي محمد ﷺ.
– أن يستحضر كل مسلم ومسلمة (من غير الحجاج) مناسك فريضة الحج، ويعايش الحجاج في مناسكهم المختلفة وشعائرهم وكأنه بينهم، ويستشعر بوجدانه معاني التضحية والفداء والبذل وحسن الامتثال لأمر الله عز وجل.
– الحرص على الدعاء خلال هذه الأيام، مع التماس أوقات الإجابة عقب الصلوات المفروضة، وعند كل سجود، وعند الفطر بعد صيام، وفى أوقات السحر، ولا ننس فى هذه الأيام الدعاء للمسلمين عامة بالنصر والتمكين ولإخواننا في فلسطين وليبيا واليمن وسوريا وبورما وسائر بلاد المسلمين المستضعفين، أن يرفع الله عنهم الظلم والبلاء، وأن يُفرج عنهم كربهم جميعاً.
-الإنفاق في سبيل الله، ولا سيما صدقة السر فإنها تطفئ غضب الرب، فليحرص كل منها أن يحدد جزءاً من ماله يخرجه فى أحد مصارف الخير وأبوابه، وهي كثيرة.
– الحرص على عبادة المكث فى المسجد بين الفجر والشروق بحد أدنى مرتين خلال هذه الأيام. ففى الحديث: «من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة» رواه الترمذي وصححه الألباني.
– إحياء سنة الأضحية، والعزم عليها لما فيها من فضل ولها من أجر. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «ما عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسا». رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني.
– أن يحث المسلم أهله وأولاده على استقبال هذه النفحات والتعرض لها، ومساعدتهم على فعل الخير وأداء الطاعة في هذه الأيام، فتحيا الربانية فى بيوتنا، وأن يتحرك المسلم بهذه التوجيهات والوصايا العملية في محيط عمله بين زملائه وبين جيرانه لحثهم على ذلك أيضا: «والدال على الخير له مثل أجر فاعله»، حتى تعم الفائدة وتتسع رقعة الطاعة فى محيط الأمة، ونحيي بذلك معاني الربانية في أنفسنا وبيوتنا ومجتمعاتنا وأمتنا.
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، والسر والعلن، وكلمة الحق في الرضا والغضب، واجعلنا ممن يتعرضون لنفحات هذه الأيام الطيبة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.